"شعرية المرض"هي التسمية التي أطلقها على الأعمال الإبداعية التي تتخذ من المرض موضوعاً لها والتي يفرض عليها الموضوع خصائص جمالية بعينها، تميزها وتتميز بها، في نوع من التقاليد والسمات التي يمكن استخلاصها من الإبداعات التي تبدأ بالمرض وتنتهي به، واصفة إياه، مراقبة أعراضه، محللة المشاعر والانفعالات التي يسببها، راصدة استجابات النفس وخلجاتها في عراكها مع المرض وصراعها وإياه، خصوصاً حين تكون النفس أبيّة، متمسكة بالحياة، مقبلة عليها، نافرة من المرض نفورها من العدم الذي يغدو نقيض الحضور الفاعل في الوجود وعدو البهجة التي تقترن بعرامة الحياة وفرحتها الغامرة. وهذه الشعرية التي أتحدث عنها قديمة في تراثنا الإبداعي، تتداعى على ذكرها حالات إبداعية فردية ومجاوزة للفرد، تصل ما بين أيوب الذي أصبح مثالاً في الصبر على الابتلاء، ونموذجاً صعدت به المخيلة الشعرية العربية إلى أعلى درجات المعاناة الإنسانية وأصعبها، وذلك إلى الدرجة التي استحق معها رضاء الخالق وعفوه ونيله نعمة الصحة والعافية مرة أخرى، جزاء وفاقاً على صبره وقبوله ما ابتلى به على سبيل الاختيار الصعب الذي كان الخلاص من محنته قرين شعيرة طقسية، تؤدي رمزية الماء فيها فعل التطهير الذي يكتمل به معنى الولادة الجديدة: وقصيدة المتنبي الشهيرة في الحمّى التي مطلعها: "ملومكما يجل عن الملام/ ووقع فعاله فوق الكلام". وهي واحدة من عيون الأدب العربي التي وعيناها قديماً، وتعاطفنا مع ما تنطوي عليه من نفس أبية وإرادة جبارة لا تعرف الراحة ولا الإناخة ولا المقام في مكان واحد، فهي نفس مندفعة، مقدامة، لم تر من عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام، فإذا بالحمّى تقتحم الجسد الذي يحتوي هذه النفس الجبارة، وتقعده، وتلزمه الفراش وهو الذي كان جنبه يمل لقاء الفراش، فيغدو الجسد عليلاً، ممتنع القيام، فاقد الوعي كأنه شديد السكر من غير خمر. ولا أزال أحفظ من هذه القصيدة ذروتها التي تصف مقدم الحمى وسريانها في الجسد الذي لا يكف عن المقاومة. ويضيق المقام لو أشرت إلى تجارب تراثية مغايرة، فبالقدر الذي يوجد الإبداع والمبدعون يوجد ما يستفز الطاقة الإبداعية، ويدفعها إلى مقاومة الانكسار والذبول الذي ينتسب إليه المرض، فارضاً شعريته التي تتعدد صورها التراثية ما بين المنثور والمنظوم. ولكن يبدو أن شعرية المرض تناوش الشعر بوجه خاص، ربما بسبب الحساسية المفرطة التي تنطوي عليها روح الشعراء، وربما بسبب التوهج الداخلي الذي يجعل الروح تستجيب إلى أي مؤثر يخامر الجسد أو يناوشه. وقراء الشعر الحديث والمعاصر يعرفون التجارب الشعرية التي تضع المرض موضع التأمل الإبداعي ابتداء من خليل مطران الذي حدثنا عن داء ألمَّ به، مروراً بتجربة بدر شاكر السياب الذي كتب في مرضه عدداً من أروع قصائد الشعر المعاصر التي استدعى فيها شخصية أيوب الذي اتخذه قناعاً ورمزاً. وكان ذلك في التقاليد نفسها التي أنتجت ديواناً كاملاً لأمل دنقل، هو"أوراق الغرفة 8". وهو رقم الغرفة التي كان يعالج فيها أمل مِن مرض السرطان الخبيث، ويقاوم فيها الموت بالإبداع الذي أراد أن يقهر الموت، لكن الموت انتصر على الإبداع في النهاية، غير أنه لم يستطع أن يمحو من ذاكرة الإبداع قصائد من مثل"ضد من"وپ"زهور"وپ"السرير"وپ"الجنوبي"التي كانت آخر قصيدة كتبها أمل، وتنبأ فيها بموته القادم كالوعد. وإذا أضفنا إلى تجارب القدماء من أمثال المتنبي، وتجارب المعاصرين من أمثال السياب وأمل دنقل، تجارب لآخرين، مركّزين انتباهنا على ملامحها الفارقة، لاحظنا طابع الذاتية العالية التي تتميز بها شعرية المرض، مقرونة بسمات ملازمة، منها التدفق الانفعالي الحر الذي يجعل قصيدة المرض تنطلق في كل اتجاه، واصلة ما بين الأزمنة بما يرد الحاضر على الماضي، ويسقط الماضي على المستقبل، وذلك في مجرى من التداعيات التي تستدعي إلى ذاكرة القصيدة، وقت تشكلها، أوجه الأحبة عبر أزمنة الوعي الثلاثة، كما تستدعي الذكريات الإبداعية المشابهة بما يرتفع بدرجات التناص التي تنطوي عليها قصيدة المرض، والتي تجعل منها فضاء مفتوحاً، تتجاوب فيه أصداء الإبداعات السابقة في الموضوع نفسه، ولكن في موازاة أوجه الأحبة التي تنبثق من الذاكرة، مقترنة بترابطات شعورية متجاوبة الأبعاد أحياناً، ومتعارضة التوجهات في أحيان أخرى. وبقدر ما ترتفع درجة النجوى مقترنة بالعنصر الذاتي الطاغي على شعرية المرض، حتى في توجهها إلى القارئ الذي يتحول إلى مستقبل لنوع من الاعترافات والتداعيات الشخصية، فإن الحدة الإيقاعية لهذه الشعرية تغدو قرينة درجة لافتة من التكثيف الشعري الذي لا يعرف المطولات، ولا يعرف هدوء التأمل أو التفلسف في الأمور، وإنما يعرف الاندفاعة التي تشبه الموجة الانفعالية التي تنطلق لكي تصل سريعاً إلى هدفها من دون معاطلة، وفي بساطة وعفوية وتلقائية آسرة وموجعة في آن. وليس من الغريب أن تنطوي شعرية المرض على أوصاف وصور شعرية مأخوذة من واقع الحال، فضاء المستشفيات، أوضاع الجسد، أدوات العلاج وأنواع الدواء. وللشاعرة المصرية الموهوبة فاطمة قنديل ديوان كامل في محنة مرض أمها - عليها رحمة الله - أطلقت عليه عنواناً دالاً هو"صمت قطنة مبتلة"وهو ديوان فريد في بابه، يضيف إلى تقاليد شعرية المرض ما يكمل ملمحاً أساسياً من ملامحها الجمالية التي لا أتردد في وضعها داخل ما سميته - في دراسة سابقة لي عن محمد الماغوط - باسم"شعرية القبح". وقد دفعتني تجربة المرض التي مررت بها إلى معاودة التأمل في الشعرية المقترنة به، وأذكر أنني كنت أستعين على جلطة المخ التي أصابتني بأن أتذكر - في وحدتي وتوحدي مع الواحد - المرض بتذكر الأعمال الإبداعية التي تدور حوله، واجداً فيها نوعاً من العزاء ولوناً من المقاومة. وأحسب أن هذا النوع من التذكر كان فيه بعض العون على تجاوز محنة"جلطة المخ"التي شقيت بها وشقي بها المرتبطون بي من الأهل والأحباب. وكنت أتصور أن ذكريات شعرية المرض قد انتهت بشفائي من"جلطة المخ"التي تركت بعض آثارها الجانبية، كأنها تأبى الرحيل من دون أثر. ولكنني لم أستطع طويلاً نسيان تجربة تلك الجلطة الكئيبة، فقد أعادها إلى ذاكرتي حلمي سالم الشاعر المصري المرموق، وذلك في ديوانه الأخير الذي جعل عنوانه"مدائح جلطة المخ". وهو عنوان ليس بمستغرب من شاعر كتب من قبل عن"الغرام المسلح"وسعى إبداعياًَ، دون أقرانه، من شعراء السبعينات في مصر، إلى وصل التجربة الإبداعية والتجربة الحياتية وصلاً حميماً، لا يخلو من جمالياته الخاصة وملامحه المائزة التي أضاف إليها حلمي تنظيراته التي جعلت منه أكثر شعراء السبعينات تنظيراً، إلى جانب كونه من أكثرهم كثافة في الإنتاج. وقد سبقني حلمي سالم إلى معاناة محنة"جلطة المخ"التي أقلقتنا عليه، ولكنه قاومها بضراوة المبدع الذي يتعلق بالحياة التي يعبّها عبّاً ولا يقيسها بملاعق القهوة كما يفعل سلفه ألفريد بروفروك - قناع إليوت الشهير. وقد خرج حلمي سالم من محنته بديوانه الجديد الذي يضم القصائد التي كتبها من شباط فبراير الى تموز يوليو 2005. وهو الديوان الذي أعترف بأنني فقدت حيادي النقدي وأنا أطالعه في لهفة، وكيف كان يمكن أن أكون محايداً إزاء قصائد تتحدث عن المحنة المرضية نفسها التي مررت بها. وكان طبيعياً أن أفارق حيادي مع الابتداء الذي يتحدث عن الرقيقة التي مبدؤها المس والتي تطوف بالروح من أجل تجدد الروح نفسها. وأمضي مع قصائد ديوان حلمي سالم كما لو كنت أستعيد ما مررت به عبر موازيات رمزية ومعادلات إبداعية، مقرونة بلوازمها من الصور التي تتحدث عن رسم المخ، وعن إمكان شلل نصف الجسم، وعن قصبة الساق التي تطير في الفراغ، غير بعيدة عن عضلات الذراع المفكوكة، والاضطراب الكامل الذي تبعثه الرقيقة التي تبدو كأنها صورة معاصرة من زائرة ليس بها حياء، زائرة دفعت إلى السؤال عن: "الكف التي ضلت مسارها إلى النقطة العمياء والقدم التي دبَّت طوال عامين من ميدان الرماية! إلى التجمع الخامس كيف لانت فلا تقوى على السعي بين سجادة ومخدة؟!". وطبيعي أن تنطوي قصائد ديوان حلمي سالم الأخير على تناصات من الشعر العربي القديم، ابتداء من المتنبي الذي قاد الشعراء إلى الفضاء الخاص بشعرية المرض، مروراً بأحمد شوقي الذي يتلاعب حلمي سالم بإيقاع قصيدته الشهيرة"يا ليل الصبّ"في تنويعات نغمية متكررة، تؤدي دور اللازمة الموسيقية المتكررة بين القصائد والواصلة بينها في آن، وانتهاء بشعر أحمد عبدالمعطي حجازي الذي يقود إلى شعر الأجيال اللاحقة التي تدخل دوائر التناص: حسن طلب وعبدالمنعم رمضان وفاطمة ناعوت ومحمود الشاذلي. وطبيعى أن تبدأ هذه الدوائر في قصيدة"زيارة"التي هي عزف معاصر على نغمة المتنبي القديمة"وزائرتي"ومزج بينها وغيرها من الإيقاعات المتناصة التي تتحول إلى تراكيب مزجية تتكون منها موازيات إيقاعية جديدة. وليس من المستغرب - في الوقت نفسه - أن تشمل دوائر التناص الأعمال الإبداعية الموازية المقترنة بشعرية المرض خارج دائرة الشعرية، فتتضافر الإشارة مع فيلم يوسف شاهين الذي يدور حول عملية القلب المفتوح التي أجراها، وجعلها بؤرة فيلمه"حدوتة مصرية"، وذلك في سياق يجاوب بين دلالة فيلم يوسف شاهين السياقية ودلالة فيلم بوب فوس"كل هذا الجاز"وفيلم"الساعات"الذي يتناول حياة فيرجينيا وولف وانتحارها الذي تعالجه الرواية المأخوذ عنها الفيلم بتعدد الشخصيات المتوازية في تعاقبها وعلاقتها بالمرض الذي يؤدي إلى الانتحار. وفي ديوان حلمي سالم لا تنفصل أمثال هذه المتناصات الفنية عن المتناصات غير الفنية التي يحملها مجرى التداعيات الشعورية التي تتراكم في القصائد، واصلة بين والدة حلمي سالم زاهية التي ماتت بسبب"جلطة مخ"مشابهة وجثة الصديق الذي غيَّبه الرياح المنوفي، جنباً إلى جنب معتقل القلعة وپ"إضاءة 77"المجلة السبعينية الطليعية التي كان حلمي سالم الدينامو المحرك لها، وإلى جانب ذلك"الصيدلانية الجميلة"وهي ابنة الشاعر التي دربت أباها على تدوير أكرة الباب عشر مرات، كتمرين على كفاءة القبض والبسط. وكما تتراكم صور الأهل والأصدقاء في موجات التداعي العفوي الذي تتشكل به"مدائح جلطة المخ"- متلاعبة بالأزمنة الشعورية والشعورية - تتراكم صور الأصدقاء والأساتذة الذين تركوا أثراً في حياة الشاعر، والذين لا يزالون منطوين على القيمة نفسها التي يحتفي بها وعيه الشعري، فتقابلنا قصائد - لوحات عن شخصيات يمكن التعرف فيها على ملامح إدوار الخراط وأمينة النقاش وپ"الدراويش"من رفاق الشاعر. وكعادة حلمي سالم، لا ينسى حضور حبيباته اللائي أضفن إلى حياته ملامح البهجة وأفراح الروح والجسد في آن. وتنتهي مدائح الجلطة بمثل ما ابتدأت به، كما لو كانت تكمل الدائرة التي بدأت منها لتعود إليها، مختتمة معزوفات المدائح بالإشارة إلى الناعمة التي متّكؤها الشعيرات التي بدأت بها المدائح لتمضي مع تجلياتها الدائرية التي تنتهي بنقطة البداية التي هي نقطة الانتهاء. لكن مع فارق بالغ الأهمية وهو أن النهاية تأتي محملة بخبرة البداية، ومفعمة بمحبة الأصدقاء الذين أحاطت قلوبهم بالشاعر في مرضه فأحالوا أحزان"جلطة المخ"إلى"مدائح جلطة المخ". ولا معنى للمديح، في هذا السياق، سوى العرفان بالرعاية التي بذلها الآخرون عن محبة، والتعويض النفسي الذي أتاحه تذكر الغائبين الحاضرين في مواجهة الجلطة، وذلك في مفارقة المرض الذي يجعلنا ندرك ما لم نكن ندركه - قبل ذلك - من محبة المحيطين بنا والذين يغمروننا بما نقاوم به المرض الذي تتحول ذكرياته - بعد انقضائه - إلى عتاب بهجة أو مدائح لكل ما يصل الإنسان بالإنسان في علاقات الحب التي تغتني بها الحياة وتستعاد بها العافية. * يغيب الشاعر أدونيس هذا الخميس عن قرائه في عطلة رأس السنة، على أن يعود في موعده.