حتى إذا أخذنا الجانب الفلسفي في رواية ألبير كامو "الطاعون" في الاعتبار، سنجد أنفسنا حين نقرأها وكأننا في صدد رواية تنتمي الى الخيال العلمي، أو بالأحرى الى نوع من الخيال العلمي سمته الرئيسة الرعب الذي يثيره. بل ان شيئاً من الانصاف سيؤدي بنا الى ملاحظة أن أفلام خيال علمي من النمط الكارثي"استوحت"بدايات رواية"الطاعون"في رسم أحداثها. وهي البدايات التي تتعلق بالجماعات متزايدة العدد من الجرذان التي تبدأ بغزو المدينة منذ الصفحات الأولى، مع بدء موت أعداد متزايدة من السكان في الشوارع من دون أن يعرف أحد في البداية سبباً واضحاً لذلك الموت الجماعي. وطبعاً بعد هذه البدايات المرعبة تتفرع دروب الأفلام الخيالية العلمية، عن الدرب التي أراد الكاتب الفرنسي الشهير سلوكها. فألبير كامو، لم يكن - كما نعرف من كتاب الخيال العلمي. ولم يكن همه بالتالي أن يروي حكاية الجرذان وغزوهم المدينة. كان يتطلع الى أبعد من ذلك. بالتحديد الى مضمون سياسي - فلسفي - سياسي من ناحية ارتباط جوهر الرواية بنظرة كامو الى المقاومة التي أبداها المقاومون الفرنسيون ضد الغزو الألماني النازي لبلادهم خلال الحرب العالمية الثانية، وفلسفي من ناحية أن كامو أراد في هذه الرواية، بحسب الترجيحات التفسيرية كلها، ان يقدم عملاً أدبياً درامياً يعالج نوعاً من الفكر الوجودي الذي كان سائداً في ذلك الحين. بعبارة"ذلك الحين"نعني هنا السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، علماً أن"الطاعون"نشرت للمرة الأولى في سنة 1947، أي بعد انقضاء الحرب وتحرر فرنسا من النازيين. وكان ذلك الزمن بالطبع زمن المراجعات في الكثير من المجالات والأفكار... كما كان زمن بدايات انتشار الفكر الوجودي في أوساط المثقفين الديموقراطيين الفرنسيين، كما في الأوساط الشعبية، على الضد من اختيارات فكرية وسياسية كثيرة يبدو أن فرنسا - بين مناطق أخرى كثيرة من العالم خرجت من أتون الحرب العالمية الثانية مثقلة بالقلق والأسئلة، تجد نفسها مجبرة إما على الاختيار بينها أو على التصدي لها. ومفكرون مبدعون مثل ألبير كامو، ما كان في امكانهم الا أن يتصدوا. ومن هنا كانت انبعاثة التنويعة اليسارية في الفكر الوجودي، على أيدي كامو، كما على أيدي سارتر وبوفوار وغيرهما. * على هذا النحو، اذاً، أتت رواية"الطاعون"لكامو عملاً وجودياً رمزياً، بدا منذ البداية انه انما يعالج في الحقيقة موقف الفرنسيين من الغزو الألماني. وهذا الغزو نفسه لم يكن غزو المدينة التي تدور فيها أحداث"الطاعون"من قبل الجرذان سوى كناية عنه. وفي هذا الاطار لم يكونوا بعيدين عن الصواب أولئك النقاد والدارسون الذين رأوا ان كافكا، في معنى من المعاني، انما يسير هنا في هذه الرواية على خطى سلفه الكبير الوجودي قبل الوجودية فرانز كافكا - وخصوصاً في"المحاكمة"من حيث تصويره مأساة الفرد أمام سلطة جماعية أو قوة جماعية تحاكمه وتدينه وتطارده من دون أن يكون له ذنب... اللهم - وهذا تفسير كثيراً ما فات قراء كافكا الالتفات اليه ? كونه لم يقاوم ما يجعله"متواطئاً مع جلاديه في المأساة التي يعيشها وان بشكل سلبي...". ولعل الجانب الأكثر بروزاً في نقطة التشابه بين عمل كامو وعمل كافكا، هو ان للحكم الصادر على الفرد معاني عدة، ما يجعل منه جزءاً أساسياً من الشرط الانساني في الأزمان الحديثة. المدينة التي تحدث فيها مجريات رواية"الطاعون"هي وهران في الجزائر، المدينة التي ولد البير كامو نفسه غير بعيد منها. وكما أشرنا، تبدأ أحداث الرواية بتلك الألوف المؤلفة من الجرذان التي تبدأ تجولها في الأزقة والمجاري، متكتمة الحضور أول الأمر ثم واضحته، حين يبدأ الناس يتساقطون في الشوارع ميتين. واذ تبدأ الصحف المحلية الحديث عما يجري، يسود نوع من الهستيريا الجماعية في المدينة. وحين تحاول السلطات أن تتدخل لا يكون من شأنها إلا أن تصدر أوامرها الى السكان بضرورة أن يجمعوا الجرذان بمقدار ما يستطيعون بغية احراقها في حفر جماعية. بيد أن السلطات إذ تأمر بهذا، لم تكن متنبهة الى أن عملية جمع الفئران نفسها ومطاردتها انما ستكون الوسيلة الأكثر تسبباً في انتشار وباء الطاعون القاتل في المدينة بأسرها. في المدينة طبيب - سنكتشف لاحقاً أنه الشخصية المحورية في الرواية - يدعى دكتور ريو. وهذا الطبيب يعيش عيشاً مريحاً في شقة موجودة في بناء فخم. وذات يوم يحدث أن يموت ناطور البناية، بسبب حمى عالية تعتريه. على الفور يستشير ريو زميله الدكتور كاستيل، ليكتشفا معاً أن الطاعون هو سبب موت الناطور... كما ان هذا الطاعون نفسه قد انتشر في المدينة بشكل وباء مستشر. والحال أن اكتشاف الطبيبين الزميلين هذا الأمر يكون أول اشارة، على رغم الأحداث الأولية، لانتشار وباء الطاعون في المدينة. ومن هنا يجتمع الطبيبان بزملاء آخرين لهما وبكبار المسؤولين الحكوميين في المدينة... غير ان الاجتماع لا ينتج شيئاً حتى لا يزال الاعتقاد سارياً بأن من مات بالطاعون هو شخص واحد فقط - أي الناطور -. ولكن سرعان ما يتبين تزايد عدد الموتى بشكل متسارع، ما يجعل من المؤكد الآن ان ثمة وباء خطيراً منتشراً. وهنا لا يكون أمام السلطات إلا أن تعترف بالأمر الواقع فتحاصر المدينة منعاً لدخولها أو الخروج منها، فارضة سوراً أمنياً صارماً من حولها. وفارضة أيضاً مجموعة من القواعد الصحية الصارمة التي يجدر بكل من يقيم في المدينة اتباعها. اعتباراً من تلك اللحظة تصبح الرواية نوعاً من صراعات متعددة بين المواطنين والسلطات السياسية والبلدية والسلطات الطبية. ان كل فريق يحاول ان يقوم بما يتوجب عليه القيام به. ولكن كل هذا يجري بشكل يبدو أقرب الى السوريالية منه الى المنطق. وأول ما يفرض هذا هو ان السكان - والمسؤولين أيضاً - يصبحون أسرى داخل المدينة، فيما يروح الطاعون مبدلاً معالم العلاقات ومعالم الأشخاص ومعالم المدينة. انه ليس مرضاً قاتلاً وحسب، بل هو أيضاً عنصر فاعل في تغيير الذهنيات بشكل جذري. وعلى ضوء هذا التغيير تنكشف كذلك حقيقة الذهنيات وأطباع الناس وجوهر العلاقات، بين من يخطط للهرب من المدينة للقاء زوجته في باريس غير مبال بأن يحمل المرض معه، وقسيس يحاول أن يستفيد مما يحدث لاقناع الناس بأن الطاعون ليس سوى تعبير عن غضب الله على البشر. ومجرم يراكم ثروة فوق ثروة باستغلال رعب الناس. ولكن في مقابل هذا ثمة لحظات يتخلى فيها الجميع عن مصالحهم الشخصية لمساعدة بعضهم بعضاً. واضح هنا ان البير كامو 1913 - 1960 كتب عملاً يتجاوز حكاية الطاعون وانتشاره. وكتب عن أحداث تجري في مدينة وهران أرادها هنا كناية. ولم يكن من قبيل الزينة، أن تذكر رواية ? كافكا ?"المحاكمة"خلال الصفحات الأولى من الرواية على لسان الطبيب ريو. كذلك لم يكن صدفة أن يؤتى في سياق الرواية أيضاً على ذكر رواية أخرى لكامو هي"الغريب"، اذ يروي الطبيب نفسه حكاية رجل أطلق الرصاص عليه عند الشاطئ لسبب غير واضح، بل لغير سبب على الاطلاق. اذ عبر هاتين الاشارتين واضح أن كامو أراد التركيز على عبثية الشرط الانساني... والبعد الوجودي لفكره ولأدبه. وكامو الحائز جائزة نوبل للآداب، في العام 1957، عرف برواياته وكتبه الفلسفية، وكذلك بالمسرحيات الكثيرة التي كتبها، ناهيك عرف بمقالاته السياسية التي كان ينشرها من حول القضية الجزائرية وحملت دائماً نوعاً من الالتباس الذي كثيراً ما عولج وبحث من قبل الدارسين. ومن أشهر أعمال كامو"موت سعيد"وپ"السقوط"وپ"الرجل الأول"التي نشرت بعد رحيله بعقود ومسرحيات"الأبرار"وپ"كاليغولا"وپ"سوء تفاهم".