كان جان - بول سارتر يرفض ان يسمي"الغريب"لألبير كامو رواية. كان يعتبرها مجرد تتابع لأحداث ومواقف واستيهامات عبثية. طبعاً هذا لم يقلل من شأن احترامه لها ولكاتبها، لكنه أبعدها عن مجال الأدب الروائي. والحال ان كتب تاريخ الأدب، استوحت لاحقاً من سارتر هذا الموقف، لتتحدث دائماً عن"الغريب"بصفته"نصاً لكامو". أما السينمائي الإيطالي لوكينو فيسكونتي، الذي حول"الغريب"ذات مرة الى فيلم سينمائي - يراه كثر من أفلامه القوية - فقد كان ينظر اليها باعتبارها الرواية التي خلقت لتكون فيلماً يعتمد البعد البصري. ذلك ان فيسكونتي رأى ان في أعمال مثل"الغريب"تعجز الكلمات عن وصف ما يحدث ومبرراته، فلا يعود المبدع قادراً إلا على اللجوء الى اللغة البصرية. غير ان كامو، حين كتب هذه الرواية ونشرها في العام 1942، لم يكن يتوخى منها أن تكون، مثلاً،"مسودة"لسيناريو سينمائي. كان يريد منها ان تكون تعبيراً حاداً عن"مأساة الإنسان في هذا الوجود، إذ مآله الموت لا محالة في عالم لا يمكن هذا الانسان ان يفهم دلالته وسر وجوده". من هنا، فإن كامو، حين كتب"الغريب"ولكن كذلك حين كتب بقية أعماله، كان واضحاً انه انما يعبر عن تمرده على الحاضر ويأسه من المستقبل"الذي لم يعد قادراً على أن يعدنا شيئاً". ومع هذا لم يفت عدد من الدارسين والنقاد ان يقولوا ان"يأس كامو لم يكن يأساً مطلقاً، إذ انه في الوقت نفسه الذي كان يؤكد تمرده على عبثية الوجود، كان يرى ان الانسان نفسه انما يعثر على عظمته الحقيقية في اعترافه الشجاع بعبثية وجوده". ومن هنا، فإن"الفلسفة التي كانت تقف وراء أفكار ألبير كامو كانت تهدف الى مد الشرط الانساني بنبل عميق خال من أي تعاطف مقصود، نبل يجعل من حوارييه ابطالاً". ومن هنا، فإن كامو يصنع بالتعارض مع المستقبل الذي يراه كاذباً ومزيفاً، حاضراً يتجدد في شكل متواصل، حاضراً حقيقياً يستحق ان نعيشه ولو متمردين عليه. والحقيقة ان تعمقنا في طرح أسئلتنا من حول"الغريب"كفيل بأن يوصلنا الى هذا الاستنتاج. بل هو كفيل بأن يماثل بين موقف كامو المفترض هذا، وموقف مبدع آخر - كان تراجيدي النزعة بدوره - هو اندريه تاركوفسكي الذي كان يرى ان المتشائمين بالمستقبل هم أكثر محبي الحياة ومتمردي الحاضر وضوحاً وصدقاً. وكل هذا يبدو في هذا السياق تناقضاً... لكنه في حقيقته ينتمي الى ذلك التناقض الخلاق الذي من خلال اعطائه الفن معناه، إنما ينحو أيضاً الى اعطاء الحياة نفسها معناها. وما قراءة"الغريب"- سواء أكانت رواية أو نصاً أو مشروع عمل بصرياً - سوى تشديد على هذا. ومن هنا يكون السؤال الأول من هو ميرسو، بطل"الغريب"ولماذا هو غريب؟ إن أهمية طرح هذا السؤال تنبع من واقع ان"الرواية"كلها انما هي قائمة من حول ميرسو وغربته. وأن يطل القارئ على شخصية ميرسو ودوافعه - إن كانت له دوافع - معناه ان يغوص في الرواية كلها بالتالي. ميرسو، هو - إذاً - الشخصية الرئيسة في الرواية. انه يقدم الينا منذ البداية شخصاً لا مبالياً، مكتئباً، مقتلعاً على الدوام من أي مكان يحس بالانتماء اليه. انه - كما يقول بعض الدارسين عن حق -"رجل يعيش في التفاصيل، ولا يمكنه أبداً أن يؤقلم أياً من الأمور على هواه". أما العالم بالنسبة اليه فسلسلة متواصلة من اللحظات التي تبدو له، فارغة أحياناً، مملوءة بأمور لا دخل له فيها في أحيان أخرى. وداخل هذه اللحظات يحدث أحياناً أن تجمد كلمة، حركة، زاوية من شارع أو صورة للشمس. أما ما يرعبه أكثر من أي شيء آخر فهو ذلك الصمت الذي قد تلفّ الأشياء نفسها به في شكل مفاجئ وقد انعزلت بفعل نظرته اليها. غير ان الخلاص الموقت هنا يكون لأنه لا يسعى أبداً الى تركيز نظرته مطولاً على أي شيء كان. فهو عابر دائم، مرتحل دائم يقلّب نظراته في كل شيء من دون أن يرى - في الواقع - شيئاً. فالاشياء موجودة دائماً، لكنها لا تحمل أي معنى خاصاً بالنسبة اليه. ومن هنا، فإنه لا يشعر بأي ارتباط مع أي شيء. لا يشعر بأي تبرير لوجود الأشياء أو لوجوده الخاص... بل لا يشعر بأيما حاجة الى مثل هذا التبرير. وذلك بكل بساطة لأنه لا يمتلك أية مشاعر خاصة تجاه أي شيء. أما مزاجه فموقت يرتبط بالأمور العابرة... لا يهمه سوى اللحظة الحاضرة يعبرها من دون أن يعيرها اهتماماً كبيراً بصفتها تابعة للحظة سابقة، سابقة للحظة آتية. وانطلاقاً من هذا كله، يعيش ميرسو مأساته الخاصة - أو حتى مآسيه الخاصة - كمتفرج سلبي، حتى موت أمه لا يحرك فيه أية مشاعر خاصة. ولذا علينا ان نتوقع انه حين سيقتل الشاب العربي لاحقاً، فإنه سيقتله بالصدفة، ومجاناً من دون أي تخطيط، من دون أية كراهية، من دون أي ندم. بل انه حين سيقترف هذه الجريمة سيتعامل معها وكأن شخصاً آخر غيره هو الذي اقترفها. وحين يقبض عليه ويحاكم ويحكم عليه بالموت، سيظل من دون مشاعر، من دون خوف، من دون اهتمام. وهو حوكم لمجرد انه رفض ان يكذب. كان في وسعه ان يكذب وكان في وسع القضاة ان يصدقوه فينجو بجلده من الإعدام ولكنه - في الحقيقة - غير قادر على الكذب. ففي الكذب - بعد كل شيء - بقايا من شعور انساني. وكيف يمكن ميرسو ان يبدو ذا مشاعر انسانية ويكذب؟ كان كل ما فعله أمام المحكمة هو انه روى ما حدث، كما حدث بالضبط. روى ما شاهده كما شاهده تماماً، كالصورة الفوتوغرافية، حين كان ينظر الى ما حدث من دون ان يحسه. وهو ما كان في إمكانه أبداً أن يحس ما حدث. وبالتالي ان يتناوبه أي شعور به، وبالتالي - أيضاً -- أن يكذب لاحقاً. هذا هو ميرسو في"الغريب"إحدى أشهر الشخصيات في الأدب الفرنسي أواسط القرن العشرين. وهو ابن للقرن العشرين هذا، على غرار"كاف"كافافي"المحاكمة"وپ"بوليسيس"جيمس جويس، بل حتى على غرار بطل روبرت موتسيل في"الرجل البلاسمات"... عار تماماً من كل شعور من كل ماض ومن كل مستقبل. ولأنه هكذا، لم يكن في وسع ميرسو ان ينتظر أو يتوقع شيئاً من أحد. ولم يكن في وسعه ان يعد أحداً بشيء. وإذا كان قد ظل مخلصاً لأحد، فإنه إنما بقي مخلصاً لطابعه هذا، وحتى اللحظات الأخيرة، حين رفض اغواء الخلاص وقد عرض عليه. لأنه لو وقع تحت سطوة ذلك الاغواء وقبل بأن ينقذ سيفقد كينونته نفسها. وهو ما كان ليرضى أبداً بذلك الفقدان لأنه سيعيده الى سجن العالم والوجود، وهو أمر لم يكن يريده. ومن هنا التجأ الى صمته مصعّداً إياه، محولاً - حتى من دون أن يدري - هذا الصمت الى شاعرية مطلقة، ومحولاً نفسه - بالتالي -، كما يقول بعض دارسي كامو الى"شهيد للكينونة في طبيعيتها المطلقة البريئة"، راضياً بهذه الشهادة"خلاصاً وحيداً له"في نهاية الأمر. ومن الأمور اللافتة في هذا السياق ان ألبير كامو 1913 - 1960، حين كتب"الغريب"كتبها في الوقت نفسه تقريباً الذي كتب فيه"أسطورة سيزيف"ما جعل كثراً من الباحثين يرون ان العملين يشكلان، في حقيقة الأمر، عملاً واحداً، يتسم في الآن عينه بسمات فلسفية / روائية تعبّر عن تأكيدات كامو على نظرته الى الوجود كلعبة عبثية. ومن المعروف ان كامو الذي ولد في وهران في الجزائر، ومات في شكل مفاجئ في حادث سيارة قبل حصول الجزائر - التي دافع عن استقلالها ولكن على طريقته الخاصة، فنال نصيبه من هجوم طرفي الصراع - على ذلك الاستقلال، نال جائزة نوبل للآداب عام 1957، عن مجمل أعماله الروائية والفكرية والمسرحية التي طبعت بطابعها العبثي، قراء أواسط القرن العشرين. ومن أبرز هذه الاعمال، الى ما ذكرنا:"الطاعون"وپ"السقوط"وپ"البررة"وپ"كاليغولا". وهو كان في بداياته عمل صحافياً في الجزائر ثم في باريس وأسس باكراً فرقة مسرحية اقتبس لها بعض أعمال مالرو وأسخيلوس ودوستويفسكي حيث مَسرح له"الاخوة كارامازوف".