لا تتجاوز قصيدة الشاعر التونسي محمد الغزّي في نبرتها وحلمها الداخلي العتبة الصوفية، ولا تبرح هواجسها تخوم الخطاب العرفاني الذي أسّس سلطة العبارة المتعالية، والفكرة الحائرة، والرمز النمطي. فالشاعر في مجموعته الجديدة"ثمة ضوءٌ آخر"، دار النهضة العربية - بيروت، 2007 يتعمّد الانفصال عن سياق اللحظة الراهنة، عبر الالتحام بزمانية مطلقة، سحرية وبعيدة، تتخطّى حدود اللغة، وتركّز على بلاغة الذاكرة الموقّعة، التي تجعل الكتابة فعالية إرجاعية تستنهض المثالَ وتنفي التناقض. في ضوء هذا الترجيع، تنسحب ذاتية الشاعر وتضمر، وتظهر بدلاً منها أنا أدبية متوهّمة، تساهم في تشكيلها ضرورات التقليد الشعري الغائر في المخيلة الجمعية، الحاضر بقوة في التدوين النصّي، ما يجعل التجربة ذاتها تتصف بالتجريد واللاّزمانية. فالحساسية هنا قائمة على خطاب مؤسِس، يمتلك سطوة في الثقافة العربية، ويمثله متصوفة كبار كالحلاج والنفّري وابن عربي، إذ ينطلق من ميتافيزيقيا مثالية، أفلاطونية، ترى العالم صورة لمثال أعلى، والطبيعة مرآة لروح أبهى، واللغة تجلياً لحقيقة أسمى. هذه الشعرية المفتونة بالمثال الأعلى والأبهى والأسمى تستفيد من ميراث الوجد الصوفي القائم على استنطاق المجاز، والتأمل بآلية عمل اللغة ذاتها، واعتبار الكلام محاولة للقبض على أسرار الكون، حيث الرغبة باسترجاع المعنى الأول، والعودة إلى طهارة الفكرة الأولى، المنفلتة من حبائل الرّمز، الماكثة هناك في أقصى التخيّل، أو في الدرجة صفر من الكتابة، تشيد بنيانها في ملكوت دلالي لا يُقبض عليه، ولا يخضع لآلية التأويل. هذا ما يعبر عنه الشاعر بفصاحة صوفية لا لبس فيها في قصيدة بعنوان"كناية"، يؤكد فيها دور المجاز في تشكيل وعي القصيدة، وابتكار دلالات حائرة، مبهمة، تومئُ أكثر مما تقول:"ليس غير معمّى الكلامِ يُخَبّرُ عني/ فأبينوا على بابه/ عن خبيئات أسراركم/ ودعوني ألوّحُ أنا بينكم وأكنّ". ولأنّ الإيماء قرين العبارة الصوفية، ويعمل عمل الكناية، فإنه يساهم في جعل النص الصوفي قائماً بذاته ولذاته، تكتبه صوره ورموزه واستعاراته، ما يذكّرنا بمقولة الشاعر الأميركي أرشيبالد ماكليش عن القصيدة التي"يجب أن تكون، لا أن تقول". ومهما حاولت القصيدة الصوفية أن تقول أو تعبّر، فإنها تصطدم دوماً بجدار اللغة، وتقع فريسة نظامها الرمزي الذي يسيطر على كيانها الدلالي. فالإشارة يجب أن تتخطّى تخوم القول، وتتجاوز قيود النحو والصرف والدلالة، أي حسّية المقول والمعبّر عنه، وتقترب من تلك الأسرار التي لا نقدر على ترجمتها إلاّ بالمجاز ذاته، في فعل شعري قائم على التجاوز والتخطّي. هذا ما يشير إليه الغزي في قصيدة بعنوان"الجوهرة"حيث يركّز على استحالة القبض على المعنى، أو الظفر بتلك الجوهرة الكامنة خلف كل نصّ، فالتأويل وهم لا يفضي إلى حقيقة:"نحن توهّمنا/ أنّا سنفكّ معمّى القولِ وقلنا/ مهما أغربَ في اللفظِ/ فنحن سنكشفُ، إن شبّهَ/ ما يضمرُه، وسندركُ ما يخفيه إذا كنّى". قد يكون التأويل وهماً يلجأ إليه اللفظ لتأويل لفظٍ آخر، لا يقل عنه إبهاماً، كالمعنى في قصيدة الرؤيا الذي يشير إلى سراب يبتعد كلّما اقتربنا منه. إن فكرة التجاوز هذه تبدو مركزية في شعرية التصوف، حيث الرغبة في البحث عن معنى يتجاوز كل المعاني، والاقتراب من معنى المعنى، إذا أمكن. والغزّي يدرك إشكالية هذا النزوع، وحتمية التأرجح بين اليقين والشك، ما يجعله يسعى الى الكشف عن قلق الذات وحيرتها، والبحث عن ضوء آخر يتجاوز الضوء العادي، اليومي، كما يشير عنوان ديوانه. فلكلّ بارقة معنى دلالة تتخطّاها، ولكل حقيقة سرّ يتجاوزها، في لعبة حجب وكشف لا قرار لها. في قصيدة"الغريب"تأكيدٌ على تلك الاستحالة في الركون إلى معنى واحد، أو حقيقة نهائية، فالعالم ذاته مصنوع من استعارات متحركة، تؤسّسه كلمة منطوقة بحسب الرؤيا الدينية المثالية:"أيها الغريب/ كل ما تراه محض مجازٍ/ فقلّب وجوهَ اللّفظ/ واكتفِ بالتأويل". هذا التخطي لتخوم اللفظ يجب أن يقود العارف إلى منتهى المعرفة، والقارئ إلى منتهى النص، والإنسان إلى منتهى المثال الأول، وهذا وهم من أوهام العرفانية الجديدة، إذ ثمة دوماً قلق يحول دون تحقيق الوحدة بين الذات والعالم، أو بين العاشق والمعشوق، أو بين الاسم والمسمّى. فالشوق الصوفي ينهض على فراق، والقربُ، كما نعلم، يؤجّجه البعدُ، والحقيقة محض استعارة تنسجها استعارة أخرى، بل إن اللغة ذاتها تخون مؤلفها، وتهرب من سياقاتها الدالة. فالحبّ، حتى الحب، لا معنى له خارج تخوم المجاز الذي يجعل الذات العاشقة نهباً لاختلاف الصوت عن صداه، واللفظ عن مدلوله. فالواحد في الرؤيا الصوفية يضمرُ الكثرة، ووحدة الأنا تخفي تنوّعاً لا تجانساً:"يا حادي الأشواقِ/ لا وجدَ من بعدي أنا لواجدِ/ فقل لمن تولّهوا: إنّي أنا العشّاقُ/ قد جُمعوا في واحدِ". هذا يفسر شغف الغزّي باستخدام استراتيجية التحويل التي تسعى إلى تفعيل التناقض، واللعب على التضاد، والإيغال بعيداً في التلميح والترميز والتكثيف. ففي أكثر من قصيدة، يركّز الشاعر على فعل الانتقال من حال إلى حال، عبر وعي الكيمياء الدلالية للمفردات، فالنجمة في قصيدة"نجمة"تفرّ من شيئيتها، وينبتُ لها أجنحة وتطير، في تأكيد على معنى التجاوز الذي يؤسس لكلّ رؤيا صوفية، كما يعبّر أحد فلاسفة التصوف الأميركي، رالف والدو إمرسون، الذي يرى أن الذات المبدعة مشروطة دائماً بحركة تقودها خارج ذاتها، باتجاه ذات أسمى يسمّيها"الروح العليا""The over-soul". في القصيدة تهرب النجمة من مدارها، كي تعانق روحها العليا، وتتحرّر من قدرها المرسوم فوق بياض الورقة:"خذ ريشتَكَ الليلةَ وارسم نجمتك المؤتلقة/ واذهب للنوم/ ستنبتُ للنجمةِ أجنحةٌ/ وتغادرُ في الفجر بياضَ الورقة". إن ارتحال النجمة عن فلكها يعني رفض الحيّز القائم، والطيران باتجاه أفق أرحب وأبهى، ملغز وسرّي. في قصيدة أخرى، تهوي النجمةُ من عليائها، ولكن لا لكي تنطفئ أو تخمد، بل لكي تولد وتشعّ في مكان آخر:"لا تقل قد سقطت نجمتُنا الملتمعة/ فغداً سوف نراها/ في السواقي عشبةً/ أو على رمل الصحارى قوقعة". لكن استحالة القبض على المعنى، لم تمنع الشاعر من الدخول في مغامرة التسمية، أملاً في الوصول إلى معمّى الكلام. هنا نلمس أن غاية القصيدة العرفانية ليست تظهير الحيرة، أو اللعب على المفردات والمعاني، بل القبض على حكمة مضمرة، وتلقين القارئ درساً في أصول التسمية، ولذا نرى الشاعر يستعير النبرة التعليمية، كما في قصيدة"القلم"حين يقول:"خذ قلماً بين أصابعك المرتبكة/ وتيقّن/ أن الكون فراشٌ أزرقُ/ والكلماتُ له شبكة". فالمعرفة المتوخّاة هنا يقينية، وأفعال الأمر الكثيرة التي يستخدمها الشاعر توحي بثقة رهيبة، وإن كانت الفكرة التي تنهض عليها القصيدة مؤسسة على شبكة من الكلمات المخاتلة، الفانية. في قصيدة أخرى بعنوان الشاعر تتكرّر النبرة الوعظية، ويرتفع صوت الشاعر الحكيم الذي يتوخى تسمية الأشياء وتجميدها في المعجم، وإن كانت غاية التسمية الشعرية الانقلاب على موجودات الكون، وابتكار حركة داخلية تتجاوز المستقرّ والمعلوم:"سمّ الأزرقَ مركبةً/ والموجَ خيولاً/ سمّ الغيمةَ سنبلةً/ ويديك حقولاً". وإذا كانت قصيدة الغزي تغرف من بلاغة التقليد الصوفي، وتستثمر حالات الوجد العرفاني بمهارة واضحة، إلا أنها غالباً ما تقع في شرك الشرح والتفسير، وتكشف عن نفسها للقارئ بسهولة، ما يجعلها تسقط في المباشرة والتقريرية، وتتحول أداةً للتبشير أو لتسويق مقولة جاهزة، كما في قول الشاعر:"تعلّم كيف تُكرم العشبةَ،/ وتحدبُ على حبّة الرمل/ واهتف بالشجرة يا أختي/ وبالتراب يا أخي". على رغم الخبرة التي يظهرها الغزي في محاكاة نسق القصيدة الصوفية، وإجادته لهذا النمط من الكتابة، إلا أنّ ذاته الشعرية تبدو مؤجّلة في حضورها، ومنقطعة عن لحظتها الراهنة، سابحة في بحر من الرموز النمطية، التي لا تتيح للقصيدة التنفّس خارج سلطة التقليد الذي تنتمي إليه. وتظهر عبارته الصوفية مكتملة في ذاتها، تكتب نفسها بنفسها، بمعزل عن مؤلّفها، يؤثّث لها"ضوءٌ آخر"ينبثق من ذاكرة البلاغة التراثية، بعيداً من أنا الشاعر وأحلامه العابرة.