الشاعر الليبي خالد مطاوع من الأصوات الشعرية الجديدة التي بدأت تحقق حضوراً في المشهد الشعري الأميركي، بعد صدور ديوانين له باللغة الإنكليزية، هما "خسوف الإسماعيلية" الصادر عن دار شيب ميدو برس 1995 و"فلكُ الأصداء" الصادر عن دار أوزابل برس 2003. هاجر مطاوع إلى أمريكا قبل خمس وعشرين عاماً، وكان لم يتجاوز الخامسة عشرة، حيث أمضى سنوات صباه الأولى في بلده الأم ليبيا. نقل إلى الإنكليزية نصوصاً شعرية لمجموعة من الشعراء العرب، كان آخرها كتاب "قصائد مختارة" للشاعر العراقي سعدي يوسف. ونال جوائز أدبية تقديراً لجهوده في حقلي الترجمة والشعر. في كتابه الشعري الجديد "فلك الأصداء" يمزج مطاوع بين أنماط شعرية متنوعة، فنجد القصيدة الغارقة في الشفوية، التي تنقل مزقَ أحاديث، وجلبةَ أصوات، وغمغمات بشر، ونجد بالمقابل القصيدة ذات البلاغة العالية، المستندة إلى رؤيا فلسفية رصينة. وكأن مطاوع يمزج بين "براغماتية" التقليد الأنكلو-ساكسوني في الشعر و"رومانسية" التقليد الشعري العربي، وذلك فق رؤيا شعرية تخصّهُ، تجعل من قصيدته بؤرة غنية يتقاطع فيها أكثر من أسلوب. ثمة تلك الغنائية المتخفية بإيقاعات الجملة العربية، التي تبثّ دفئاً غير مألوف في القصيدة الإنكليزية، وتصدم، من دون شكّ، حساسيةَ القارئ الغربي. وثمة أيضاً تلك "الدقّة" في سبكِ البيت الشعري على مستوى التراسل الدلالي للصور، وكأننا بالشاعر يصرّفُ الإنكليزيةَ بنحوٍ عربي. وبين هذا وذاك، يقدّم مطاوع نصّاً مركباً، متعدد الآفاق، يقف خلفه صوتٌ شعري متفرّد، يسرُدُ سيرةً شخصية وثقافية تقيمُ بين برزخين معرفيين، وتمزج بين نمطين بلاغيين، ناهيك بأنها تحكي، في نهاية المطاف، عن "الإنسان" بصفته فرداً مطلقاً في كون مطلق، خارج أوهام الهوية وتبعاتها الضيقة. يقسّم الشاعر ديوانه إلى خمس حركات مفصلية، في كل حركة عناق لفلك روحي، على طريقة المتصوفة، من دون الخروج عن معترك العالم وتناقضاته، فالشاعر يحكي عن الذات التي تقيم في العالم، ويكتب أيضاً عن الذات التي لا تجدُ عالماً تقيم فيه. من هنا أهمية الأسئلة الشعرية التي يطرحها، والمتعلقة، في مجملها، بمفهوم الهوية، وعلاقة الأنا بالآخر، درجاً على عادة الكتاب الوافدين إلى الإنكليزية من ثقافات أخرى، والذين أثروا أدبها. يشيرُ مطاوع إلى أنّ عنوان الكتاب "فلك الأصداء" مأخوذ من مخطوطة قديمة للمتصوف الليبي ابن شقلوف الذي عاش بين عامي 1156-1201 وعنوانها "خالص العلوم في عرف النجوم"، وفيها يتحدّث المؤلف عن "فلك الأصداء" بصفته نظاماً روحياً يقوم على مجرّة وحيدة تتألف من كواكب خمسة تدور حول شمس رقطاء. وابن شقلوف عالم فلك درس التصوف في تونسوالقاهرة وسافر إلى الهند، وقدّم نظاماً فلكياً مغايراً يختلف عن نظيره اليوناني - المصري. وقد استقى مطاوع حركاته الخمس في المجموعة، على الأرجح، من حركية هذه الكواكب في تدرّجها الرّوحي واللوني، حيث يبدأ الشّوق الصوفي بمرض القلب، مروراً بنور السّيرة، صعوداً إلى عالم الأشياء ونشيد المعاني، لينتهي بمتاهات الأمل في رحلة استكشاف الأنا، واختبار العلاقة العشقية بين العارف والمعرفة. غير أنّ مطاوع لا يلتزم بحرفية هذا النظام، بل يوظّفه توظيفاً معاصراً، مكتفياً بالبعد الدلالي المحض، ومركزاً على المجاز وليس على المفهوم. يفتتح مطاوع ديوانه بقصيدة بعنوان "الصّدى والإكسير" تنقل محنة المتكلم الحائر في "مدينة بلا كلمات، وليلٍ بلا ليل". وهذا العنوان يتكرر مرات سبعاً في الدّيوان، ويصبح بمثابة لازمة شعرية، حافلة "بالأصداء"، تضيء رحلة الأنا في ليل المعاني. الحيرة الصوفية والوجودية تتوضّح جليةً في المقطع الثالث من هذه الافتتاحية حيث يعترف المتكلم بنياته في السفر والترحال: "أنسى وأتذكّر ثانيةً.\ سفنٌ في الميناء الذي هو البحر\ الذي هو الرّحلة\ التي توقظُ الضوءَ في صدري". وفي كل لازمة، يعود مطاوع إلى نظامه الفلكي، لينقل أصداء الحوار الخفي بين الرّوح وفلكها الأعلى، ما يشكّلُ جوهر العشق الصوفي. غير أنّ مطاوع لا يقدّم نفسه كمتصوف، ولا يعلنُ، بأي حال، انسحابه من قضايا العالم الراهنة. ففي كل قصيدة مسعى لشمّ العالم ولمسه والنظر إليه والإصغاء إلى موسيقاه، صاخبةً كانت أم خافتة. بل ثمة رغبة في "تذوق" الأرصفة والشوارع، وربط المكان بمدلول روحي ومعنوي. من هنا التنوّع الجميل في الأصوات الشعرية التي يستثمرها الشاعر بين قصيدة وأخرى، وأحياناً في القصيدة الواحدة. تارةً يلجأ إلى المونولوغ، كما في قصيدة "سيرة النار" حيث نسمع النبرة الاعترافية لمتكلم يستحضر ماضيه، وينبش صور أقاربه واحداً واحداً، ليعود إلى نفسه قائلاً: "ولدتُ في بلدٍ حارّ\ حار معظم الأوقات. ومملوءٌ بالغبار.\ للماء طعمُ الملوحة\ والشمسُ تصبغُ أجسادَنا بلون الكدمات الزائلة". لكنّ مطاوع يلجأ أيضاً إلى الديالوغ الجمعي، فنسمع أصواتاً عدة، بمستويات مختلفة، تتنافرُ تارةً، وتتواصل أخرى، كما في قصيدة "لوحات ليلية عن النشوء والكارثة" المهداة إلى مدينة رام الله في فلسطين، وفيها يندمج صوت المتكلم الغائب بصوت المتكلم الحاضر، في عملية دمجٍ ومونتاج شعرية، تكشف عن نضجٍ متقدّم في توظيف استراتيجيات الكتابة الحديثة، كاستثمار تقنيات تيار اللاوعي، والمسرحة، والإيماء، والسّرد النفسي، وغيرها. يفتح مطاوع قصيدته على قصائد أخرى، عربية وغربية. بل يشعر القارئ أن خصوصية "فلك الأصداء" تكمن تماماً في هذا الدمج بين حساسيتين ثقافيتين مختلفتين. في قصيدة بعنوان "أغنية المطر" ثمة حوار خفي مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، وبخاصة قصيدة هذا الأخير "أنشودة المطر" وهذا ما يشير إليه مطاوع في أحد هوامش القصيدة. فالشاعر ينسج على منوال غنائية السياب الحزينة، ويوظف المطر بمعنيين متناقضين، لينقل حالَ التأرجحِ بين الخصوبة والقحط، الفيض والجدب، الولادة والموت. يخاطب الشاعر واهبَ المطر- أو ما يسميه في القصيدة "رافعَ الأذى" - قائلاً: "عدنا إلى ظلكَ.\ التجأنا إليكَ متلهّفين للمطر". ثم يتابع في مقطع آخر، ليحكي عن الشعور بالعزلة لعابرٍ يزيدهُ المطرُ عزلةً: "اذهب الآن، وقس خلوةَ\ رجلٍ يسيرُ\ تحت المطر. هدّأ من روع المرأة التي تكرهُ\ الغيومَ وهي تنظرُ من نافذتها،\ صدرُها إسفنجةٌ يبلّلها المطرُ باليأس". ثمّ يعود مطاوع إلى المبتهلين في قصيدة السياب، الباحثين عن قطرة ماء في أفق يابس، كأنما في قراءة تناصّية لراهنٍ مأسوي: "نادِ البحَرَ المدفونَ في الليل\ لكي ينهضَ ويصغي\ للصلوات المغسولة بالحرير،\ صلواتٌ على شفاهٍ ظمأى.\ أثلامٌ متشقّقة، وأنابيب تصفرُ،\ مسيلاتٌ ومجار مهدّمة". ويوظّف مطاوع ثقافته العربية خير توظيف، وخصوصاً تلك الصور الراسبة في قيعان وعيه عن مكانه الأول، وفي أكثر من قصيدة، كما في افتتاحية قصيدته "جِوار"، وهي متوالية شعرية مؤلفة من تسعة مقاطع، تصف "مكاناً" مشرقياً بامتياز، وتحديداً الشمال الأفريقي، بقبابه وجوامعه وصحاريه الشاسعة الممتدة من القلب إلى القلب. ففي مقطع بعنوان "القاهرة في الصباح"، يرسم الشاعر لوحة إنسانية رحبة للمدينة، وكأنّه مصور سينمائي يلقي القبض على شخوصه وشرفاته وشوارعه في غفلة من عين الكاميرا: "خلاّطاتُ إسمنتٍ تطحنُ\ شاحناتُ حصىً تفرغُ حمولتَها\ وعمّالُ بناءٍ يتبادلون شتائمَ الصباح.\ من شرفتها، مرتديةً فستانَ نومِها، تراقبُ المرأةُ الشارعَ.\ ليس اليوم، تلوّح يدٌ، ليس هذا الأسبوع.\ يتعالى صوتُ المؤذنّ، ويتبعُهُ آخرون.\ المدينةُ تهدرُ، مستظهرةً معتقداتها". هذا التجاور بين الشفوي والبلاغي، يضفي على ديوان "فلك الأصداء" نكهةً أسلوبية ثرية. وكأنّ مطاوع يقول إن "موضوع" القصيدة يفرض شكلها الفني، فالحديث عن مدينة رام الله، مثلاً، يستلزم بنية سردية من نوع خاصّ، تقوم على فتح النصّ على عالمٍ يعيش على الحافة، وتصبح القصيدة بأكملها تأريخاً لأصوات تريد أن تسردَ "القصّة"، وبالتالي تحاول أن "تنجو" قبل وقوع الكارثة. من هنا عنوان القصيدة الدالّ على مضمونها: "لوحات ليلية عن النشوء والكارثة". وفي المقابل، نعود إلى عنوان المجموعة نفسها، "فلك الأصداء" ونذكّر القارئ، من جديد، بالنبرة الصّوفية، التي تحضر وتغيب، وفق ما يتطلبه الهاجس الشعري، أو حسب ما تمليه لحظةُ الرؤية نفسها. وهذا مثال آخر على مقدور القصيدة لدى خالد مطاوع على الجمع بين التجريد في أعلى صوره، والوصف بأوضح تفاصيله وأكثرها حسّيةً. وهنا نشيرُ إلى قصيدة قصيرة تستحضر صورة المتصوف الأميركي رالف والدو إمرسون، بعنوان "زيارة ثانية لإمرسون" يعتمد فيها الشاعر التكثيف الدلالي، وتفجير أسئلة مورّقة عن الحياة والموت، الصّيرورة والأبدية، على طريقة بورخس، كأنما في عودةٍ إلى الهاجس المحوري للديوان، واستحضارٍ فاتن لصدى المتصوف الآخر، ابن شقلوف، في لحظة التجلّي القصوى للرؤيا الصوفية، ببعديها المشرقي والغربي.