يحسن الشاعر قاسم حداد الاتكاء على التراث الصوفي في قصيدته الطويلة"أيقظتني الساحرة"من غير أن يقع في متاهة مصطلحاته وتعابيره التي تحتاج الى إلمام عميق بمعاني التصوّف ورموزه. فالمطلع الذي استعاره من"مواقف"النّفري أوقفتني وردّده مرات عدة في مستهلّ الكثير من المقاطع بدا مختلفاً عن المعنى الذي قصد اليه المتصوّف الكبير في ما يُسمّى لديه ب"الوقفة"، وهي تتمثل جوهر تجربته الصوفية وتمثل مبدأ من مبادئه الفلسفية والروحية. فمن يوقف الشاعر قاسم حداد في هذه المطالع هو"الساحرة"التي كانت أيقظته ورسمت له رمزها وبات يراها ساهرة"عند حرفه"كلما اختطفه النوم. لكنّ استبدال"الهو"كما لدى النفري ب"الساحرة"أو الجنية الزرقاء، كما يسمّيها أحياناً لا يعني أن الشاعر يعتمد ضرباً من"المحاكاة الساخرة"أو الباروديا، كاسراً من خلاله رهبة"الوقفة"وطقوسيّتها اللفظية أو الشعرية. بل إن الشاعر يسترجع من عمق ذاكرته أو مخيّلته صورة الساحرة أو"الجنية الزرقاء"ليشعل بنورها جذوة الشعر ويضرم الحريق في غابة اللغة. انها الساحرة التي تشبه"سحرة"رامبو، أولئك الذين يملكون أسراراً"يغيّرون بها الحياة". وقد يكون ابتعاد الشاعر عن المعاني الدينية الجاهزة، دليلاً على ان مغامرته هي أولاً وأخيراً مغامرة شعريّة ولكن في المعنى الروحي أو الميتافيزيقي للشعر. لكنّه ليس متصوفاً من غير دين على غرار رامبو ومالارميه ورينه شار ولا متصوّفاً في قلب الدين مثل الكثيرين من شعراء الصوفية، بل هو يقيم على التخوم، لا يتخلّى عن الإلماح الدينيّ ولا يستسلم لما يُسمّى"دنيوياً"صرفاً. قد تذكّر هذه"الجنية الزرقاء"أو الساحرة بجنّ"عبقر"الذين كان يستوحيهم الشعراء العرب غابراً. فأرض"عبقر"موضع كثير الجنّ بحسب العرب ويقول لبيد:"كهول وشبان كجنة عبقر". ولا ريب أن تكون"الجنية الزرقاء"معقد الوحي، فهي كما يقول الشاعر"تكرز فأصغي/ تفتح الأبواب وأدخل/ تصقل الكتب وأقرأ/ توقظ الفتنة وأذوب". هل تراها تكون"ربة الشعر"كما عرفها الاغريق القدامى وهي واحدة من ربات تسع كنّ وفق الميتولوجيا، يحمين الغناء والشعر وبقية الفنون؟ يقول الشاعر الفرنسي جيرار دونيرفال:"دخلت ربة الشعر قلبي مثل إلهة ذات كلمات من ذهب، وفرّت منه مثل عرافة"دلفية"مطلقة صرخات ألم". ولا يسع مَن قرأ شكسبير إلا أن يتذكّر الجنيات والعرّافات والساحرات اللواتي أضفين على أعماله المسرحية جواً فانتازياً وغرائبياً بديعاً. ولئن بدت الساحرة أو الجنية لدى قاسم حداد تلفظ في أحيان بعض عبارات الحكمة،"موقفة"الشاعر أمام مقولات عدّة ذات بعد"معرفي"أو صوفي، فهي لا تُغرق كثيراً في فعل التأمل الحكمي، فالشعر هنا انما يهدف الى تخطي ما يسميه الشاعر نفسه"راحة الحكمة"في المقطع الشعري الذي يخاطب فيه"زرقة النوم"مستحلفاً إياها أن تغرّر به وتجعل"الشهوة قنديلاً لخطواته". وهذه"الشهوة"سترد في عبارة أخرى دلالةً على عمق أثرها في القصيدة واللغة معاً:"ليست الحروف/ انها حناء الشهوة". والحناء مثلما هي معروفة غايتها تزيين اليدين وسواهما، وتحلّ هنا محل الحروف التي"تزين"الشهوة وهي ليست سوى المحتوى أو الشعر نفسه. وقد تندرج كلمة"النشوة"التي يستخدمها الشاعر في هذا السياق"الرغائبي"ذاته إذ يجعلها قرينة الكتابة بعدما كانت دوماً قرينة الشراب كأن يقول:"أقداحك ليست من زجاج/ فالنشوة ليست في ما تشرب/ النشوة في ما تكتب". لعلّ أهم ما يتميّز به كتاب قاسم حداد الجديد هو إفصاحه عن مفهوم الشعر كما تندّ عنه أو تشي به تجربة الشاعر برمّتها. وقد تؤلف هذه القصيدة الطويلة التي وزّعها في سبعة وخمسين مقطعاً ما يشبه البيان الشعري الذي يخفي ناحيته النظرية في قلب القصيدة وفي صميم المقاطع - الوقفات التي تصنعها. لكنه لا يتخلّى عن الشعرية لمصلحة البعد النظري، فالنظرية نابعة أصلاً من جوهر التجربة التي شرع في خوضها قبل نحو أربعين سنة. وقد تهب هذه القصيدة المقطّعة أليست القصيدة الطويلة مجموعة مقاطع أو قصائد قصيرة؟ القارئ بضعة مفاتيح لدخول عالم قاسم حداد الشعري، وللوقوف على شعريته الخاصة ونظرته الى الفعل الشعري والصنيع الشعري واللغة الشعرية بدورها. فالجنية التي"توقف"الشاعر حيناً تلو آخر يقول الشاعر على لسانها ما يجب أن يقوله بنفسه عن نفسه:"أوقفتني جنّيتي الزرقاء وقالت: هذا شخص لا يروي لكنه يرى/ كمن يهب الحجر الكريم سراً/ يفيض بالجنة وقرينها/ وبالجحيم جهراً". ينمّ هذا المقطع عن نظرة بيّنة الى الشاعر والشعر كما يتمثلهما قاسم حداد. فالشاعر هو الشخص الذي لا"يروي"بل"يرى"بحسب ما يحمل هذان الفعلان من تناقض ظاهر. ويميل قاسم الى"الرؤيا"التي هي فعل صوفي وماورائي أي فعل غياب، نابذاً فنّ"الروي"الذي هو فعل حضور وتواصل. ويبلغ الصنيع الشعري أوجه في تحوّله فعلاً"كيميائياً"بل"خيميائياً"مذ يمعن الشاعر في منح"الحجر الكريم"سرّاً يضاف الى اسراره الكامنة فيه أصلاً. وهنا لا بد من تذكر"حجر الفلاسفة"الذي طالما بهر الشعراء الرؤيويين على مرّ العصور. أما الموازاة بين الجنة والجحيم فهي من خصائص الشعراء الذين استطاعوا عبر تجاربهم الروحية أو الداخلية أن يلغوا نظام الثنائيات موحدين إياها في جوهر وحد. وفي مقاطع أخرى يجاهر قاسم ببعض صفات الشاعر وخصاله، وبعضها ذو منحى كينوني إذ"لا يكون الكائن شخصاً إلا في نصه"كما يقول، وبعضها ذو معنى عام ورائج:"تنال منك الأقاصي"أو:"واعلم أنك لا تنجو من السفر، ولا تكفّ عن الكتابة". ومعروف أن الشاعر يحمل الكثير من ملامح"عوليس"الذي خبّط في الجهات وكابد مشقات السفر، مثلما يحمل أيضاً بعضاً من ملامح جلجامش الذي عانى الكثير في ترحاله بحثاً عن"وهم"الخلود. وإن كان مقدراً للشاعر دوماً أن يعود الى"العتبة"التي انطلق منها فهو لدى قاسم حداد يعود الى"اللغة"التي هي بيته ومثواه كما يعبّر الشاعر مذكراً بما قال هلدرلن عن"السكنى"الشعرية في هذا العالم. تخاطب الجنية أو الساحرة، الشاعر حيناً ويخاطبها هو حيناً، ويدخلان معاً في حوار مضمر وكأنها المرآة التي يرى فيها حاضره مثلما يرى ماضيه، بل كأنه أيضاً مرآة لها تبصر فيها"عين"نفسه بحسب التعبير الصوفي:"أنا بابك اليك/ وأنت بابي إليّ"تقول له. ويمضي الشاعر في لعبة"الجناسات"اللفظية والمعنوية على طريقة النفري مرسخاً تلك العلاقة بينه وبين الجنية المنبثقة من"زرقة النوم"، ومن"الليل"الذي حرساه معاً كما تقول، وهذه العلاقة هي أشبه بالعلاقة بين الشخص وقرينه، بين الأنا والذات، بين الكائن وظله:"سمعتك قبل أن أراك/ ورأيتك قبل أن ألقاك/ وعشقتك قبل أن أغشاك"أو:"حبرك حربك/ حبرك حبّك/ حبرك بابك الرحب"، أو:"مكانتك في مكانك/ أرضك في رضوانك". لكن هذه الجنية التي تشبه جنيات الحكايات الغرائبية والتي ينام الأطفال"في جناحها"و"يسهون عن الوقت"كما يقول الشاعر، لن تتوانى عن القاء بعض الحكم اللطيفة التي تعكس الطابع الوجودي والميتافيزيقي وليس الديني الصرف لتجربة الشاعر:"كتابك عرشك"تقول له، أو"ليس الكلام في الكتب/ الكلام في الناس"، أو"صديقك قلبك/ لا تسأله ولا تُعصه"... أما الشاعر فيخاطبها بلهجة أخرى، فيها من الحكمة ما فيها من المكابدة:"يجهش بكِ القلب فينال الغبطة"أو:"تفصحين بالرمز مثل اللغة/ فالحروف مكشوفة لك... وتضلّلين الكتابة بدلالة الغيم/ فلا ينال ذهبك الأزرق سواي". وإذ تقول على طريقة ابن عربي انها لا تعوّل على البصر لكي تتيقن من ان الشاعر هنا، يجاهر الشاعر بحلميّة حياته ولكن على غرار الرومانطيقيين الألمان:"لست إلا حلماً ضائعا"، ولا يستطيع القارئ أن يجزم هنا ان الشاعر هو الذي يتكلّم أم الساحرة. قد تكون قصيدة قاسم حداد"أيقظتني الساحرة"من أعماله الفريدة التي تعبّر عن قلقه كشاعر لا يعرف إلا الترحال الدائم في غابات الشعر واللغة. فالقصيدة هذه تختلف عن قصائده السابقة وتكمّلها في الحين عينه. فهو يدمج بين طفولة الشعر وحكمته، بين براءة التجربة ونضجها. ترى ألم يقل على لسان الجنّية ان"الكتابة تصقل بالتجربة"؟ وان استعان الشاعر ببعض التعابير والتراكيب الصوفية المعروفة خصوصاً لدى النفري الذي كان أدونيس أوّل من أدخله فضاء الشعر العربي الحديث، فهو عرف كيف يبتعد عن طابع الصوفية، الملغز والرمزيّ، سابكاً إيّاها في نسيج شعري لطيف ومعاصر. فاستخدام التعابير والمفردات والألفاظ الصوفية اليوم، يقتضي ابتداع نسيج جديد ولغة جديدة، وإلا فأن الشعر يقع في تقليد شعر يملك تراثه العميق ولا تصح محاكاة شعرائه محاكاة لفظية، وهم مَن هم في المكابدة والاختبار والرؤيا... وختاماً لا بدّ من الإشارة الى ان القصيدة صدرت باللغة العربية والترجمة الانكليزية، وقد أنجزها محمد الخزاعي وراجعها كمال أبو ديب، اضافة الى الرسوم التي أرفقت بها وهي للرسامين عبدالجبّار الغضبان وعباس يوسف أحمد. وصدرت القصيدة عن المؤسسة العربية ومؤسسة"البحرين"الثقافية في نشر مشترك.