"... لم أسع في هذه المسرحية الى تصوير الإطار الخارجي المبهر، والذي كان يمكن ان استوحيه من "الف ليلة وليلة". لم أحاول تقديم الرقصات والجو الشرقي. ما حاولت ان اعبر عنه كان يجري داخل عقل شهريار. لقد لفتت هذه المسرحية أنظار الاوروبيين، ليس في اعتبارها عملاً فنياً يعتمد على اثارة المتفرج بالشكل وبجو ألف ليلة، ولكن بالغوص الى أعماق النفس البشرية أولاً". بهذه العبارات تحدث توفيق الحكيم خلال سنوات حياته الأخيرة عن واحدة من أشهر مسرحياته، ونعني بها مسرحية"شهرزاد"التي كتبها سنة 1936. واذا كانت مسرحية توفيق الحكيم"أهل الكهف"التي كتبها قبل"شهرزاد"بفترة قصيرة، تعتبر أكثر مسرحياته شعبية لدى القراء، ومتفرجي المسرح العرب، فإن"شهرزاد"هي العمل المسرحي الأكثر اهمية، من بين اعمال توفيق الحكيم، في رأي النقاد الغربيين، ولا سيما الفرنسيين والانكليز منهم. وهي كانت من اول اعماله التي ترجمت الى لغات غربية، ومنها اللغة الانكليزية حيث يفيدنا الحكيم نفسه بأن لورانس اوليفييه كان هو الذي قدم هذه المسرحية بنفسه سنة 1955 من على موجات هيئة الاذاعة البريطانية"وقتها لم اسع الى نشر الخبر، او للقيام بتلك الدعاية الساذجة التي يقوم بها البعض حول ترجمات وهمية الى لغات اجنبية، او ترجمات حقيقية محدودة التأثير بهدف الايهام بأن الادب العربي اصبح ادباً عالمياً". مهما يكن من أمر يمكننا اليوم، مع مرور الزمن، اعتبار"شهرزاد"أحد اكثر اعمال توفيق الحكيم اكتمالاً ودلالة، وهو كتبها بعد ان كان اطلع على عدد كبير من المسرحيات اليونانية والفرنسية ورأى ان الكتابة المسرحية تلائم، والى حد كبير، حكايات عدة من"الف ليلة وليلة". واذا كان قد بدأ مشروعاً، كان من شأنه ان يكون متواصلاً ويقدم الكثير من حكايات الليالي العربية، مسرحياً، فإن الحكيم لم يفته في الوقت نفسه ان النقاد الغربيين التفتوا الى"شهرزاد"أول الأمر انطلاقاً من حكمهم الايجابي والمتعاطف المسبق مع كل حكايات"الف ليلة وليلة"وغرائبيتها، لكنهم حين تعمقوا في قراءتها اكتشفوا ان فيها ما هو اعمق بكثير من تلك الغرابة. اكتشفوا ما كان الحكيم نفسه قاله عن نظرته الى هذه المسرحية التي يمكن موافقة الناقد جورج طرابيشي حين يقول عنها انها تبدو من اقرب مسرحيات الحكيم الى المسرح الذهني المأثور عنه:"فهي مسرحية بغير شخصيات وبغير مواقف. كل ما فيها ينساب انسياباً حيناً، ويتدفق تدفقاً حيناً آخر، ويختلط بأنغام اخرى حيناً ثالثاً، ويهبط ويعلو، وقد يصمت أحياناً من غير ما انقطاع، او تنوب عنه أنغام أخرى لا تشبهه كل الشبه ولا تختلف عنه كل الاختلاف. أنغام غير رئيسة منه، يستوعبها في تعددها ولا تستوعبه. وكل ذلك في تناسق محكم متين يذكرنا الى حد بعيد بالتناسق المحكم المتين في النظام الشمسي". ان ما يقوله طرابيشي هنا يبدو وكأنه يصف عملاً موسيقياً، لا مسرحية ذهنية، لكن هذا ليس صدفة بل انه يلتقي تماماً مع ما قاله الحكيم حول كتابته هذه المسرحية:"انني اذكر عند كتابة"شهرزاد"ان احساسي كان موسيقياً. ما كنت أتمثل اشخاصاً ولا اتصور مواقف. بل احس بموسيقى تطن في اذني. موسيقى من طراز"عصفور النار"لسترافنسكي...". تحمل مسرحية"شهرزاد"في عنوانها اسم فتاة"الف ليلة وليلة"الشهيرة. الصبية التي قبلت التحدي ورضيت بأن تتزوج الملك شهريار ? بحسب الحكاية ? كي تنقذ بنات جنسها اللواتي كان يتزوج بواحدة منهن كل ليلة ليقتلها عند الصباح ثأراً لنفسه من زوجة اولى خائنة. وسلاح شهرزاد في الحكاية هو الحكي... غير ان اللافت في مسرحية الحكيم ان الشخصية الاساس هنا هي شخصية شهريار، لا شخصية شهرزاد. ففي هذه المسرحية المؤلفة من سبعة مشاهد، تجدنا في المقام الاول في صحبة شهريار نفسه. وأكثر تحديداً: في صحبة شكوك هذا الملك الذي كانت شهرزاد قد بدأت تستحوذ عليه اذ راح يؤجل قتلها يوماً بعد يوم مبهوراً بحكاياتها. ولكن اكثر من هذا: مبهوراً بمعارفها الواسعة وبدرايتها بكل شيء: الماضي والحاضر، الفنون والآداب والعلوم والشؤون الفقهية. الاختراعات وطبائع البشر. من هنا امام هذه المعرفة الواسعة - ولندع جانباً هنا موهبة القص نفسها -، كان لا بد لشهريار من ان يصحو ذات يوم متسائلاً عن"سر زوجته"العميق: انها تعرف العالم كله وترويه من دون ان تكون جابت انحاء هذا العالم. تعرف الماضي من دون ان تكون عاشته او تبحرت في علومه. لو فعلت لكانت - منطقياً - في حاجة الى أضعاف ما عاشته حتى اللحظة من حياة. ثم ان هذه المرأة تعرف الملذات وحكاية الملذات كلها من دون ان يبدو عليها انها عاشت اياً من تلك الملذات. اذاً؟ اذا كان الشك قد بدأ يملأ حياة شهريار وأفكاره... فإنه شك ينبع من المنطق ومن تساؤلات المنطق. وهو - في المسرحية - اذ يسأل شهرزاد عن سرها او عن اسرارها، تزداد حيرته امام اجوبتها المتهربة والتي تضيف الى الالغاز التي تكاد تدمره، ألغازاً. وتتفاقم شكوكه المريرة. وحين ييأس من العثور على الجواب لدى الصبية العنيدة، يقرر ان يعثر على الجواب بنفسه. ويكون من الطبيعي اول الامر ان يلجأ الى السحر والشعوذة. ثم اذ لا يفيده هذان في شيء، ينصرف الى السفر ويبدأ تجواله. ولكن هنا - كما امام اجابات شهرزاد الغامضة وكما امام عجز لعبة السحر عن ايصاله الى أي يقين - يتفاقم شك شهريار حتى حدوده القصوى. ذلك انه في سفره - الذي سرعان ما نجده سفراً رمزياً - يشعر انه لم يعد على الارض... ولم يصل الى السماء. انه يطفو هناك في الفضاء عند منطقة وسط بينهما. وأمام هذا الواقع الجديد الذي يزيد من عذابه من دون ان يوصله الى نتيجة، يشعر شهريار بأن رحلته قاربت نهايتها بعد ان تبدت رحلة مادية وروحية في الوقت نفسه: وهنا يشعر فجأة بأنه لم يعد في حاجة الى أي اجابات. ان شيئاً من اللامبالاة بدأ يلح عليه ويغمره، اذ يجد نفسه متسائلاً عن جدوى الوصول الى يقين... اصلاً؟ والحقيقة ان هذه اللامبالاة سرعان ما تغمره تماماً. حتى حين يكتشف لاحقاً، او حتى حين يخيل اليه انه يكتشف ان شهرزاد، ومثل كل النساء اللواتي عايشهن او عرف حكايتهن، تخونه بدورها مع واحد من خدام القصر. في الماضي، امام مثل هذه الخيانة، كان من شأن شهريار ان يمارس عادته في قتل الخائنة. اما الآن، فعلامَ هذا كله؟ ولماذا؟ من هنا نجده خلال الدقائق الاخيرة يسأل نفسه:"انا؟ من أنا؟"فتجيبه شهرزاد:"انت انسان معلق بين الارض والسماء ينخر فيك القلق. وقد حاولت ان اعيدك الى الارض فلم تفلح التجربة...". يقول:"لا أريد العودة الى الأرض". تقول شهرزاد:"لقد قلتها يا شهريار... لا شيء غير الأرض". شهريار يتحرك:"وداعاً يا شهرزاد!". شهرزاد:"أتذهب؟ دعني أحاول مرة أخرى...". هنا ينصرف شهريار في صمت فيما العبد يتبعه بناظريه حتى يختفي، فيلتفت العبد الى شهرزاد قائلاً:"لقد ذهب...". شهرزاد:"لا مفر من هذا"..."دار وصار الى نهاية دورة". وهنا اذ يقترح العبد على سيدته ان في امكانه ان يعيد شهريار اليها، تقول هي:"خيال... شهريار آخر الذي يعود. يولد غصناً ندياً من جديد. اما هذا فشعرة بيضاء قد نزعت". وتسدل الستار. حول هذه المسرحية كتب الناقد الفرنسي جورج ليكونت:"شهرزاد! تحت هذا الاسم المثير للأحلام، لا تبحث عن زخرف"الف ليلة وليلة".... ولا عن بذخ الشرق .... كل ما تراه هنا من المناظر طريق مقفر ودار تحت جنح الليل وانعكاس مضجع ملكي يضطرب في بركة من المرمر. ثم رمال الصحراء، حيث بين الزهد المختار في هذه المناظر، والايجاز المقصود في السطور، تجري مأساة النفس البشرية في كل زمان وفي كل مكان...". والحقيقة ان هذا بالتحديد ما توخى توفيق الحكيم 1898-1987 التعبير عنه في هذا العمل الذي لم تكن"ألف ليلة وليلة"سوى ذريعة لكتابته. ومن هنا لم يكن غريباً ان يورد الحكيم في مقدمة الطبعة الأولى للمسرحية العبارة التالية المنسوبة لديه الى ايزيس، الرمز الخالد للمرأة وللحياة وللخصب لدى الفراعنة:"أنا كل ما كان، كل ما هو كائن. وكل ما سوف يكون. أما قناعي فما من رجل تمكن من نزعه عني حتى اليوم".