إذا كان حضور فلسطين في شكل ملحوظ ومتزايد في أفلام المخرج السويسري/ الفرنسي جان – لوك غودار، قد أثار استغراب عدد من المهتمين بالسينما في السنوات الأخيرة ودفعهم إلى التساؤل حول خلفيات هذا الاهتمام الغوداري بقضية شائكة من هذا النوع، وفي زمن تراجع فيه الاهتمام بمثل هذه القضايا في سينمات بعض كبار المخرجين في العالم، فإن العارفين بسينما صاحب «بيار والمجنون» و «على آخر رفق»، لم يستغربوا الأمر. ولم يكن هذا فقط لأن غودار جعل دائماً من الاهتمام بالقضايا العادلة جزءاً من مساره المهني والحياتي ضافر بينه وبين سينماه في عدد كبير من أفلامه التي لا يتوقف عن تحقيقها منذ ما يزيد على ستين عاماً، بل بخاصة لأن غودار اهتم، سينمائياً، ونضالياً، بالقضية الفلسطينية منذ زمن مبكر. وتحديداً منذ أواخر ستينات القرن العشرين وبدايات سبعيناته، حتى وإن كان قد وجد – بين الحين والآخر، وكما أخبر صديقه دانيال كوهين بندت، أحد زعماء صرعات الطلاب اليسارية في أيار (مايو) 1968 في فرنسا – نفوراً بين الحين والآخر تجاه بعض الممارسات الفلسطينية التي لم يفهمها واعتبرها مسيئة إلى «القضية». وفي هذا الإطار يجب – طبعاً – إدراج حكاية الفيلم «الفلسطيني» الأول لغودار، والذي شرع في تحقيقه في عام 1970 وزار الأردن وأقام فيه شهوراً في سبيل إنجازه، لكنه سرعان ما وجد نفسه عاجزاً عن ذلك. كان عنوان الفيلم «ثورة حتى النصر» اقتباساً من الشعار الثوري الفلسطيني الذي كان رائجاً عهد ذاك. وطبعاً يمكننا أن نتصور الآن أن غودار على رغم ثورية يساريته المعلنتين في ذلك الحين لم يكن بعازم على أن يستخدم العنوان بمعناه الحرفي الشعائري، بل بشكل تناقضي، بالنظر إلى أن نظرته إلى صفاء الثورة المطلوبة من حول فلسطين ومن أجلها، كانت – تلك النظرة – ترى بعين الانتقاد إلى الممارسات اليومية، في الأردن وغيرها. بيد أن غودار سوف يقول لاحقاً إن ما كان يرمي إليه من انتقاد إنما كان أشبه بانتقاد من الداخل... من أهل البيت. فهو منذ ذلك الحين وحتى الآن. لم يكن يعتبر نفسه عدواً للثورة الفلسطينية مضخماً عيوبها وبعض ممارساتها. إذاً، على ضوء هذه النظرة وهذا الواقع توجه غودار في ذلك الحين إلى الأردن، حاملاً معه معداته مصطحباً فريق عمله المناضل بدوره، ومزوداً بتوصيات من فلسطينيي باريس، وبمكانة لائقة أمّنت له احترام القيادات الفلسطينية التي وفرت له الدعم اللازم والمرافقة الضرورية وسط بيئة كانت تصبح بشتى أنواع الصراعات. وفي الأردن صوّر غودار الكثير من المشاهد، ودوّن الكثير من الملاحظات والتقى كثراً من الناس، ورصد – بخاصة – بدايات ما سوف يحدث من مذابح وكوارث في الأردن بسبب الوجود الفلسطيني وسلاحه، كما بسبب الصراعات المحتدمة بين شتى الفضائل «الفدائية»... كما انه رصد في شكل خاص حياة الفلسطينيين اليومية متعاطفاً مع الناس العاديين وصغار المقاتلين، مع ازدياد في نظرته الناقدة إلى القيادات والممارسات الفاسدة والمفسدة. مهما يكن من أمر، فإن غودار لم ينجز هذا الفيلم. وعلى رغم الروايات المتقاربة حول هذا الاستنكاف، فإن أحداً لم يزعم انه يملك الحقيقة من حول، من قائل بأن السبب خلافات وقعت بين غودار ورفاقه الفلسطينيين في الأردن آنذاك، إلى قائل بأن الأوضاع الأمنية كانت قد ازدادت سوءاً، إلى مؤكد أن غودار توقف فجأة عن متابعة العمل من دون أن يقدم أسباباً... إلى ما هنالك من ذرائع أمر أسباب. غير أن غودار لم يرم ما صوّره طوال ساعات وأيام وأسابيع. بل إنه احتفظ به، غير دار أول الأمر بما يمكنه أن يفعل به. ولسوف يقال لاحقاً إن هذا المخرج ذا الأفكار التي لا تنضب، رسم وخطط طوال السنوات القليلة التي تلت رحلته الأردنية/ الفلسطينية، عدداً كبيراً من المشاريع التي أرادت استلهام الرحلة والقضية واستخدام الشرائط المصورة في آن معاً... سواء أكان ذلك في أفلام وثائقية أو في أفلام روائية... وكان من المعروف في ذلك الحين أن الجزء الأكبر من الشرائط المصورة كان عبارة عن حوارات مع قيادات من فتح تدور من حول «أساليب الفكر والعمل التي تمارسها الثورة الفلسطينية». ناهيك بأنه كان من المعروف أيضاً أن عدداً كبيراً من المناضلين الذين كان غودار التقاهم وصورهم ذبحوا لاحقاً على يد الجيش الأردني خلال أحداث «أيلول الأسود»، التي كان اندلاعها من أسباب توقف غودار المفترضة عن إكمال فيلمه. إذاً، طوال أعوام كان بين يدي غودار والفريق العامل معه ومن بينه غوران، شريكه في أفلام مرحلته الأولى النضالية، سينمائياً، ألوف الأمتار المصورة. وفي عام 1972 أعلن غوران أن الفيلم سوف يكتمل في شكل متجدد خلال شهور ضمن إطار نتاجات جماعة «دزيغا فرتوف» التي كانت تضم غودار وغوران... غير أن هذه الجماعة نفسها سرعان ما انفرطت أواخر ذلك العام لتختفي نهائياً في العام التالي له، 1973. واثر ذلك، وإذ ظل معظم ما صوّر في الأردن في حوزة غودار، وظل هذا الأخير يفكر ملياً بما يمكن فعله بها، انضمت آن – ماري مييغيل إلى غودار ليشكلا معاً ثنائياً سينمائياً، أكثر ارتباطاً باللعبة الجمالية وأقل ميلاً إلى السينما النضالية الجامدة. في رفقة مييغيل، راح غودار، يجدد في رؤاه ويوسعها، حتى راح يغوص في المسألة الإعلامية مركزاً على دور التلفزة «الجديد» في حياة الناس العاديين، من خلال ذلك الجهاز الصغير (التلفزيون) الذي كان قد بدأ ذروة غزوه للبيوت وبدأ في الوقت نفسه غزوه للعقول. وعلى ضوء هذا الاهتمام، كان من المنطقي أن يستعيد غودار اهتمامه بالشرائط الفلسطينية، التي راح من جديد يصنفها مفكّراً من خلالها القضية الإعلامية، ومفكّراً فيها من خلال تلك القضية. وعلى هذه الحال ولد في عام 1974 فيلم جديد من رحم الفيلم القديم. وصار الفيلم الذي كان يحمل عنوان «ثورة حتى النصر» فيلماً داخل فيلم جديد تصل مدة عرضه إلى ساعة يحمل هذه المرة عنوان «هنا وهناك». يتألف فيلم «هنا وهناك» من قسمين متداخلين... بل لنقل مترابطين: القسم الأول هو الفيلم القديم «ثورة حتى النصر» والقسم الثاني، الذي صوّر في عام إنجاز الفيلم الجديد، يتألف من مشاهد لعائلة فرنسية عادية تجلس مقابل جهاز التلفزيون متفرجة على «ثورة حتى النصر» وعلى مجموعة مشاهد وصور أخرى. وفي سياق تلك الجلسة العائلية التي تبدو للوهلة الأولى غير ذات علاقة حقيقية بالصورة سواء أكانت فلسطينية أو غير فلسطينية، يدور نقاش حول الإعلام والثورة وال «هنا» - أي فرنسا – وال «هناك» أي فلسطين، أو أي مكان في العالم. ومن خلال ذلك النقاش يبدو واضحاً أن فيلم غودار هذا طرح مبكراً عدداً من القضايا السياسية والاجتماعية والعائلية التي كانت بدأت تتحرك في العالم في ذلك الحين، وتحديداً من حول قضية الإعلام... هذا الإعلام الذي في شكل مباغت أعطى للأحداث طابعاً جديداً وللنظرة إليها سمات لم تكن متوقعة. وعلى هذا النحو إذاً، لم ينقذ غودار شرائطه الفلسطينية من النسيان، بل افتتح مجالاً جديداً لتفكير السينما وتفكير الإعلام، سوف يشغل كثراً من المبدعين وأهل الرأي في العقود التالية. [email protected]