في أواسط ستينات القرن العشرين وصل نجاح التيار السينمائي المسمى "نوفو سينما" في البرازيل الى أعلى درجات الشهرة في العالم كله. وخلال السنوات الخمس التي تلت عرض فيلم "بارافنتو" لغلاوبر روشا 1962، كانت أفلام روشا ورفاقه أصبحت علامة أساسية ليس فقط من علامات الإنتاج السينمائي المتقدم في العالم، بل كذلك علامة على اندفاعة نضالية جديدة للفن: تحاول أن تضع هذا الفن في خدمة أهداف سياسية ثورية، ولكن من دون التضحية في الوقت نفسه بالقيم والمبادئ الجمالية والفنية نفسها. وفي هذا الإطار برزت في شكل خاص أفلام روشا، التي كان ألبرتو مورافيا من أول الذين تنبهوا ونبهوا إليها، وتحديداً منذ شاهد"بارافنتو"ورآه عامراً بالإمكانات والوعود. من هنا كان روشا نفسه أضحى نجماً كبيراً من نجوم الحياة الثقافية على مستوى العالم، يدعى الى الندوات، تتخاطف المهرجانات أفلامه، وتترجم تصريحاته الى لغات عدة. وضمن هذا الإطار لم يكتف روشا بأن يحقق فيلماً كبيراً، يصل الى الملايين من المتفرجين في العالم كله، بل صار يكتب المزيد من المقالات والنصوص، التي تكمل نظرياً ما كانت أفلامه تحاول قوله عملياً وجمالياً. والحقيقة ان الكتابة لم تكن أمراً طارئاً في حياة روشا ومسيرته، بل هو بدأ الكتابة والنشر قبل أن يحقق أفلاماً. وهكذا إذا كان روشا ترك حين رحل باكراً عن عالمنا عدداً جيداً من أفلام تعانق فيها السياسي مع الفني، فإنه ترك أيضاً عدداً لا بأس به من نصوص نظرية، ستجمع لاحقاً في كتب ليصبح من الصعب فهم كل ما أراد هذا الفنان أن يقوله في أفلامه من دونها. وفي هذا الإطار لعل"جماليات الجوع"يمكن اعتباره أشهر نص لروشا. بل ربما يكون أيضاً أشهر نص تحدث عن واقع أميركا اللاتينية، من خلال إطلالة على سينماها الجديدة - وبعض القديمة أيضاً - قام بها فنان معني بالأمر، وربما أكثر من أي فنان آخر. "جماليات الجوع"نص أتى أشبه ببيان يحاول أن يكون مؤسساً، ألقاه روشا أصلاً، خلال تظاهرة أقيمت لأفلام"نونو سينما"البرازيلية في مدينة جنوى الإيطالية بمبادرة من منظمات كاثوليكية يسارية وعدد من المثقفين الإيطاليين التقدميين، علماً أن إيطاليا كانت هي المكان الذي أطلق السينما البرازيلية الجديدة في أوروبا ومن ثم في العالم. والغريب في هذا الشأن هو أن التنظيمات اليسارية الكاثوليكية كانت هي المبادرة في معظم الأحيان، مع أن أفلام روشا، الأولى على الأقل، كانت من ضمن مواضيعها الأساسية مهاجمة الشعائر والطقوس الدينية لا سيما في الأرياف البرازيلية. مهما يكن، حين ألقى روشا هذا النص/ البيان في العام 1965، كان ذاق لتوه طعم النجاح الكبير الذي حققه خلال الشهور الماضية فيلمه"الإله الأسود والشيطان الأبيض"، كما كان يستعد لتحقيق فيلمه التالي الكبير"الأرض تهتز"1966. والحقيقة ان في إمكان"جماليات الجوع"أن يساعد القارئ/ المتفرج كثيراً على فهم تلك المرحلة الانتقالية في حياة وعمل غلاوبر روشا. كان أمراً ذا دلالة أن يفتتح روشا هذا النص، الذي أراد منه في الأصل أن يفسر ظهور السينما النضالية في أميركا اللاتينية - وفي البرازيل خصوصاً - وظهور جمالياتها الجديدة، بالواقع الاجتماعي هناك، بالحديث عن الفارق في تلقي هذه السينما والنظرة إليها، بين الأميركي اللاتيني الذي هو المعني بالأمر أولاً وأخيراً، وبين المتفرج الأوروبي - الذي يسميه روشا هنا بالمتفرج المتمدن - فيقول:"في الوقت الذي تبكي أميركا اللاتينية ضروب بؤسها وفقرها العام، يأتي المراقب الغريب والمتعاطف لينمي في ذهنيته وخطابه طعم ذلك البؤس لا أكثر، ولكن ليس كعارض مأسوي، بل فقط بصفته معطى شكلياً ضمن إطار حقل اهتماماته. ومن هنا نلاحظ أن لا الإنسان اللاتيني يوصل بؤسه الى الإنسان المتمدن، ولا هذا الأخير يفهم حقاً بؤس اللاتيني". ويلاحظ روشا هنا أن المراقب الأوروبي"لا يهتم بمسارات الإبداع الفني في العالم النامي - المتخلف - إلا بمقدار ما تأتي هذه المسارات لتلبي حس الحنين لديه الى كل ما هو بدائي". أما بالنسبة الى ابن أميركا اللاتينية فإن ذلك البؤس وما ينتج منه من جماليات وضروب إبداع فني، ليس أمراً يتعلق بحنين ما أو ببدائية ما، بل هو واقع معاش، حقيقة لا يتطلع الأميركي اللاتيني إليها بانبهار، بل بصفتها وضعاً يجب التخلص منه. على هذا النحو إذاً، حدد روشا غايته من النص أساساً: إنه ليس نصاً نظرياً همه مداعبة أفكار وضروب حنين الإنسان المتمدن، بل هو نص يفسر كيف يتحول البؤس الى عنف، وكيف يمكن لهذا العنف أن يتحول الى سلاح قاتل، حين يتعانق مع الكراهية، والى أعمال فنية حين يتعانق مع الوعي والرغبة الواعية في التغيير. وإذ يرى روشا في نصه أن أميركا اللاتينية كانت وظلت منطقة خاضعة للكولونيالية، يعدد بعض سمات هذه المنطقة من العالم وما ينتج فيها من ديمومة الهيمنة الكولونيالية - التي ترتدي أثواباً عدة -، مثل العقم العام، والهستيريا والتخلف وصولاً الى الرد الأبسط على ظاهرة الجوع وهو التسوّل. التسوّل كظاهرة اجتماعية كجزء من الاقتصاد السياسي. ومن هنا انطلاقاً من عرض هذه الأمور، يصل روشا الى استعراض الكيفية التي عالجت بها السينما - البرازيلية وغيرها - كل هذه الظواهر كواقع يتعين إيجاد الوعي بضرورة تجاوزه، بدلاً من اعتباره قدراً يتعين التعايش معه. وفي هذا الإطار أيضاً يرسم روشا الخط الفاصل بين نظرة الأميركي اللاتيني ونظرة الإنسان المتمدن. وينطلق روشا من هنا ليقول ان غوص السينما - البرازيلية خصوصاً - الجديدة في التعبير عن"جماليات الجوع"هذه، إنما هو ناتج أولاً وأخيراً من موقف وعي أخلاقي. لكنه يلفتنا الى أن المهمة ليست هنا مهمة فيلم واحد... بل مجموعة قد لا تنتهي من الأفلام. لأن الوعي في رأيه يأتي من التراكم، حيث ان إنتاج أفلام متتالية - متبدلة الأشكال والمواضيع، إنما منطلقة من الواقع نفسه لتصب فيه - هو الذي ينتهي به الأمر الى إعطاء الجمهور وعياً بوجوده الخاص ومن هنا، يختتم روشا:"لا أرى أن ثمة نقاطاً مشتركة عدة أو نقاط التقاء بالسينما العالمية"، قبل أن يقول:"السينما البرازيلية الجديدة - طالما انه يركز حديثه عليها - إنما هي مشروع يتحقق ضمن إطار سياسة الجوع، وتعاني بالتالي، على ضوء واقعها هذا، من كل الأعراض التي تعانيها سياسة الجوع". بدا النص في الحقيقة ماكراً وعنيفاً، لكنه استقبل بحفاوة جعلت كثراً يغفرون لاحقاً لغلاوبر روشا 1938 - 1981 مواقف راحت تبدو للآخرين أكثر غرابة. لا سيما الموقف الذي به اختتم حياته، بعد عودته من المنفى - إثر انقلاب الجيش غادر روشا البرازيل ليعود لاحقاً ويقف الى جانب الرئيس الديموقراطي سارني -، حقق فيلماً عن تاريخ البرازيل لم ينظر اليه كثر بعين الرضا، بل اعتبروه تراجعاً امتثالياً من فنان كبير. والنتيجة كانت ان الفيلم لم يفز بجائزة كبرى في مهرجان البندقية 1980 بل أعطيت الجائزة لپ"أطلانتيك سيتي"للويس مال، فما كان من روشا إلا أن غضب وصبّ جام غضبه على مال واصفاً إياه بپ"الفاشي"ما أدهش كثراً وجعلهم يلومون روشا، الذي رحل عن عالمنا بعد ذلك بشهور لتنسى مواقفه ويبقى انتاجه، أفلاماً ونصوصاً.