انتصر "حزب العدالة والتنمية" في تركيا. ولم تعرف تركيا الجمهورية ازدهارا واستقرارا كما عرفت في حكمه. وهو يتعهد بعد النصر مباشرة الحفاظ على دستور البلد العلماني. وأذكر أن أحد رموز التيار الوسطي الإخواني شهد في محكمة قتلة الكاتب المصري فرج فودة لصالحهم مدعيا ما مفاده أن القتل مبرر بالنسبة لشباب متحمس لأن العلمانية هي ارتداد عن الدين. الفرق كبير بين حزب يعلن تمسكه بعلمانية النظام، وآخر لا يكتفي بالاختلاف مع العلمانية بل يعتبرها ارتدادا عن الدين. ولكن التيارات الإسلامية المركزية تحتفل بفوزه في سرها وعلنها، وهي تعرف ان موقفه كان سيعتبر ارتداداً عن الدين في مناطقها. ليس"حزب العدالة والتنمية"ديموقراطياً ليبرالياً ولا يسارياً، ولكنني لا أعرف اي حزب تركي ليبرالي او جمهوري أو يساري حكم تركيا أفضل من هذا الحزب. ومع ذلك تعرض الحزب الى الحل، واضطر الى تغيير اسمه، ثم تعرض أخيراً لحملة تحريض واسعة من اليمين واليسار التقيا ضده تحت شعار العلمانية. هنالك عوامل عديدة دفعت بتيار إسلامي مركزي إلى الطريق نحو البرلمان. ولا شك أن العسكر وضعوا حداً لطموحاته، ولا شك أن الأمر متعلق أيضاً بالهوية الثقافية للناس والبلد والصراع على معنى الاندماج في العولمة والتقدم العمراني. ولكنه على كل حال لم يفقد توازنه وتكيف مع الحدود التي وضعت وقبل بقواعد اللعبة. ولدى أوروبا مشكلة حقيقية، إذ تثبت هذه الحركة مرة أخرى أن أوروبا هي العنصرية التي تماطل بعدم قبول دولة متطورة، وحكومتها منتخبة ديموقراطياً، لعضويتها. ولا شك ان للمسألة علاقة بتاريخ الحالة الإسلامية في تركيا، فهي لم تنقسم كما في الحالة العربية إلى إسلام سياسي راديكالي مقابل صوفية دروشة ودين علماء حافظ. لدينا هنا قاعدة اجتماعية واسعة لإسلام صوفي عقلاني ومتسامح، وتوازن خفي بين"عسكر"و"طريقة": بعدا السياسة التركية في الجمهورية هما"عسكر"و"طريقة"في حالة هجوم وانسحاب وتكيف. وكر فر. في الوقت الذي يعبّر فيه حزب إسلامي فائز انتخابياً عن وسطية وبراغماتية وموقف اكثر توازنا وعقلانية وأقل شعبوية من الأحزاب العلمانية التي تواجهه كافة، نشهد في المنطقة العربية تراجعا غريباً عن الديموقراطية خطابا وشعارا. وهذا التراجع مشبوه لأنه يغص بالأجندات الخفية، وترافقه صحوة مفاجئة للحديث عن العلمانية وعن وحدة القوى العلمانية. ومن المعروف ان غالبية الانظمة الحاكمة علمانية وغير ديموقراطية، وغالبية الفساد علماني وغالبية النفعية الشخصية الرائجة في أجهزة الدول وزبائنها علمانية، ومعروف أيضا ان الديموقراطية قد تعني فوز القوى الإسلامية. وليس هنالك من يقول بجرأة انه ضد الديموقراطية وإنه لم يكن من مؤيديها في يوم من الايام، بل هو يكتفي بالتأكيد أنه علماني. ولا شك ان هنالك علمانيين ليبراليين مثابرين عارضوا تعميم حق الاقتراع ولكنهم لم يتحولوا الى زبائن عند أنظمة وحركات فاسدة، وهذا موقف نختلف معه ونحترمه، فنحن اصلاً لا ندعي ان"الديموقراطية هي الحل"على وزن"الإسلام هو الحل". والحقيقة ان العلمانية بالنسبة الى البعض هي نمط حياة وليست نظام حكم يفصل الدين عن الدولة، وغالباً ما يتبين ان هؤلاء ليسوا علمانيين فعلا، إذ يتبين أنهم يستبدلون الدين بالنرجسية حال توجيه أي نقد لهم، ويعتبرون أي نقد تطاولاً، ويقدسون قيما دنيوية اكثر مما يقدس غيرهم قيما سماوية، ويبدون أصولية وعنفاً كلامياً وجسدياً في السياسة... من القومية المتطرفة وحتى النفعية المتطرفة، ويبيعون الطبقات الوسطى والغنية التي تهيمن عليها الثقافة الاستهلاكية شعارات تصل حد الفوبيا من الدين والمتدينين، منشئين بذلك تديناً جديداً علمانياً معادياً للإسلام بشكل خاص. وأصولية جورج بوش الدينية وأصولية قوى واسعة خلفه لا تزعجهم كثيرا. المؤسف ان موضة الديموقراطية حلت على بعض المثقفين غير الديموقراطيين ليروجوا لها عندما جاءت بالبوارج الأميركية وقد روجوا معها أيضا لنظرية أن تغيير الأنطمة غير ممكن إلا من الخارج، وبعضهم كان صديقاً لهذه الانظمة وتنقل بينها عندما دعت الحاجة. لأن نمط الحياة المترف يحتاج إلى من يدعمه أحياناً، والثقافة في بلادنا لا تعيل وحدها مثل هذا النمط"العلماني"في الحياة. والأكثر مدعاة للأسف أن هؤلاء اسقطوا شعار وخطاب الديموقراطية حالما أسقطته اميركا. فمنذ ان قررت أميركا أن المحافظين الجدد العرب والأميركيين قد ورطوها بنصائحهم ضد الاستقرار تخلت عن شعار الديموقراطية ما عدا في خطابات بوش، وعادت الى واقعيتها في قبول حلفائها كما من هم دون ابتزازهم بالدعوة لإصلاح وديموقراطية إذا نجمت عنهما فائدة لأعدائها. وهذا كله مفهوم ومتوقع. أما غير المفهوم فهو سرعة تخلي ليبراليينا الجدد عن مطلب الديموقراطية في العام الأخير والانتقال الى الحديث عن العلمانية. والأخيرة تبرر حتى الوقوف مع بوش واولمرت والأنظمة العربية العلمانية ضد ما قامت به"حماس"المنتخبة، وإلى جانب الأجهزة الأمنية الفاسدة،"العلمانية"على الأقل في"التشبيح"ونمط الحياة الاستهلاكي في مقابل"ظلامية"من انقلبوا عليها. المصيبة أن العلمانية المقصودة ليست نظام حكم ولا هي نظرية في فصل الدين عن الدولة، ولا حتى خصخصة القرار بالشأن الديني وفصله عن الحيز العام كما تطور تعريفها أخيراً، بل هي بنظرهم موقف من الإسلام الحركي لا أكثر. وتجليات هذا الموقف في الواقع العربي ليست علمانية فعلا، بل أنظمة متحالفة مع قوى غربية وأحيانا مع إسرائيل. وهي لا تعتبر العلمانية شرطا للديموقراطية ولا عقلنة للسياسة بل تدين استهلاكي يشمل استهلاك البضاعة الثقافية الرائجة لطبقات معينة. لا تستطيع القوى العلمانية لا بالمعنى الأصيل ولا بالمعنى المستحدث ضد الحركات الإسلامية ان تشكل غالبية تقيم نظاما ديموقراطيا. وهي معتمدة حاليا على ديكتاتوريات لا غير. وفي الحالات الجيدة تعتمد على نقد الديكتاتوريات من دون ان تقدم بديلا ديموقراطياً. يجب أن تخاطب القوى العلمانية الديموقراطية وتتناقش وتتحدث مع قوى الإسلام السياسي الواسعة، وان تميز بينها وبين القوى التكفيرية التي لا تؤمن اصلا بالعملية الانتخابية الديموقراطية. فرمي الجميع في سلة واحدة بسبب الخطاب الديني المشترك وحكم الشريعة هو تعبير عن سياسات جامدة، وحتى لو عكست واقعا قائما فإنها تعبير عن عدمية غير عقلانية. وفي الواقع لم يحصل شرخ بين شقي التدين الحركي فحسب، بل ان التيار المركزي الواسع يتطور كلما مارس في بلده ومجتمعه سياسات وطنية بموجب أجندات وطنية. ويتطرف كلما اقصي عن الممارسة. ولا يجوز أن يقتصر تفاعل القوى العلمانية مع التيارات الدينية الواسعة على تملقها أو التنازل عن مواقفها العلمانية في شؤون عدة، ولا أن يتحول الى غرور الوصاية عليها الذي غالباً ما يصاب به القوميون بغير وجه حق. فالحركات الدينية الواسعة عميقة الخبرة كثيفة التجربة ولا تحتاج الى أوصياء بل الى متحاورين متواضعين تثق بهم في حالة النضال المشترك. قد يكون التيار القومي تيار الغالبية في الشارع العربي، وقد تكون الناصرية ما زالت غالبية في الشرع المصري، ولكنها ليست حركة سياسية منظمة موحدة تترجم قوتها سياسيا، وليس لها أن تلوم إلا ذاتها على ذلك، فهذا ليس ذنب القوى الإسلامية المنظمة، كي يتم تحميلها مهمات كان على تلك القوى أن تقوم بها. إن من يقصي هذه القوى حاليا تحت شعار أو مبرر مثل"العلمانية"لا يستطيع ان يبدأ بممارسة الديموقراطية، فالديموقراطية غير ممكنة مع اقصاء هذا الكم من الناس المتحدرين من هذه القطاعات الاجتماعية الواسعة والفقيرة ومع هدر هذه الطاقات الوطنية. وطبعا يفترض ان تلتزم الحركات الإسلامية الواسعة بمبادئ الديموقراطية وليس فقط بوسائلها وأدواتها. وهذا لا يعني فقط اجراء انتخابات بعد انتهاء مدتها في الحكم، وأن تسلم السلطة سلمياً إذا لزم كما تسلمتها، بل ان تحترم أيضا حقوق المواطنة والحريات المدنية أثناء حكمها، التي لا تحترمها حاليا الأنظمة العلمانية. ومن نافل القول إن دول أوروبا الشرقية لم تحترمها ايضا في مرحلتها الاشتراكية التي ايدها بعض المثقفين العلمانيين الذين يعارضون ديموقراطية تشمل قوى الإسلام السياسي حاليا. كما يفترض ان تقبل الحركة الإسلامية بالأجندة الوطنية في عملها وأن تحترم مفاهيم السيادة الوطنية. ويجب أن تفعل كل هذا ليس فقط في الحوار مع القوى الأخرى وانما ان تثقف كوادرها على ذلك ايضاً. ويجوز لنا ان نبدي ملاحظات حول التناقض بين التثقيف الداخلي وبين الخطاب المستخدم لتهدئة القوى الأخرى. مع العلم ان مجرد الحاجة لتهدئة القوى الأخرى في خطاب سياسي جديد هو بحد ذاته تطور حتى قبل ان يرتقي الى خطاب تربوي داخلي. فالحركات التكفيرية لا تأبه بما يفكر عنها من تعتبرهم"كفاراً"، ولا يهمها ارضاؤهم. وطبعاً اليسار الراديكالي لم يهتم تاريخيا بمثل هذه التمييزات فقد كان الرياء والنفاق برأيه أسوأ من الفاشية، ولم ير فرقا بين الاشتراكية الديموقراطية والنازية فكلاهما في نمط تفكيره الجوهري من اشكال حكم البورجوازية، حتى شعر بالفرق على جلده وجلد الشعوب. ونحن نقول إن النازية والفاشية أسوأ من النفاق، وكذلك التكفيرية أسوأ من النفاق. ونحن لا نعتبر التغير الذي تمر به الحركات الإسلامية الجماهيرية نفاقا بل ضرورة تاريخية للإصلاح اللازم للعملية الديموقراطية. ولا مفر من رؤية ذلك والتعامل معه. إن من لا يرى ان حركة"الإخوان المسلمين"مرت بتغييرات فعلية منذ سيد قطب، وان حركة"حماس"اليوم هي غيرها قبل اعوام، وان"حزب الله"اليوم ليس"حزب الله"نفسه أيام اغتيال اليساريين الشيعة في الثمانينات، هو بذاته اصولي يتمسك بثوابت ولا يخضعها لأي فحص تجريبي، أو ليست لديه مصلحة ان يفهم. وربما السبب انه هو أيضا مثلهم قد مر بتغيير. فنحن لا نفهم يساراً يجد نفسه في جبهة المتعاونين مع أميركا وإسرائيل ضد الإسلاميين، ولا نفهم يساراً يعيش هذا الاغتراب عن الفقراء وثقافتهم وهذا البعد عن العدالة الاجتماعية، وهذا القرب من الطبقات الميسورة المغتربة عن هذا المجتمع. * كاتب ومفكر عربي