في مقالة موسومة بعنوان: "تكتيك من غير استراتيجية" يقر بافيل زولوتاريف، الجنرال المتقاعد وعضو مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسية، بأن الدوائر العسكرية، اليوم، يسودها نازع عدواني تجاه الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً، ويحذر زولوتاريف مواطنيه من عبث نازعهم هذا، وضعف مسوغاته. ويدعوهم الى استبدال المنطق العسكري المحض بصياغة استراتيجية متماسكة وبعيدة. وعلى هذا، يقترح الجنرال على بلاده تطوير اقتصادها وتعليمها، وإعداد مواطنيها وتأهيلهم التأهيل الذي يليق بالعولمة ويتصدى لتبعاتها المتعاظمة. والجنرال الروسي من دعاة إصلاح القوات الروسية وتجديدها منذ عقد من الزمن، وهو يتصدى الى نقد السياسة الخارجية وتقويمها في ضوء مكانته المرموقة في مؤسساتها وهيئاتها، وخبرته بها. وهو يذهب الى ان صياغة القرار الروسية، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لم تخرج من دائرة الاضطراب والترجح والمنازعة. والاستراتيجية الدفاعية تشذ عن الحال هذه. ففي 1992، أنشأ الرئيس السابق بوريس يلتسين مجلس الأمن الروسي، وعهد إليه بصياغة استراتيجية الأمن العامة، وترتيب أولويات البلاد الدفاعية في اطارها الأوسع الذي لا يغفل حريات المواطنين المدنية، ولكن وزارة الدفاع لم تلبث ان استرجعت، واسترجعت البيروقراطية العسكرية القديمة معها، نفوذها واليد العليا في هذا المضمار. واستبعدت موازنة المصالح المتفرقة والكثيرة بعضها ببعض، وغلب المفهوم السوفياتي ومنزعه الى تقديم رأي الدولة ومصلحتها على الآراء والمصالح الأخرى كلها. ولم تجمع النخب والنخب الجديدة إلا على رأي واحد هو الأسف على خسارة روسيا مكانة القوة العظمى، والخوف من استيلاء القوى الغربية على جوار روسيا السابق، أي الجمهوريات السوفياتية. ورجع الإجماع هذا عن إيلاء تهديد الارهاب الداخلي والنزعات الاقليمية الانفصالية المرتبة الاولى على سلم الاولويات، الى إيلاء الأولوية التهديد الخارجي. والولايات المتحدة الأميركية هي تجسيد هذا التهديد وصورته الماثلة. وتقديم منزلة التهديد الأميركي، على هذا النحو، لا ينجم عنه مخطط توجيهي يضبط الاستراتيجية الاميركية وحسب، بل هو مسوغ إنفاق اتحادي كريم على مرافق الدفاع، وداعٍ ملح الى سيطرة مركزية تتولاها النخبة الحاكمة على الاقتصاد والمجتمع، فتحسب دوائر الكرملين ان الانفاق العريض على الصناعة العسكرية يتيح لروسيا تجديد تكنولوجيا متفوقة، ويمكنها من استعادة مكانتها قوة كبرى ومهابة. ويلاحظ زولوتاريف ان الرأي هذا جزء من مذهب سوفياتي طوته التجربة، وأظهرت بطلانه. فالبيروقراطية ليست خير قاطرة لجر الابتكار والتجديد. ونفقات الدفاع الباهظة تستنزف موارد يجدر بروسيا صرفها الى التعليم والرعاية الصحية والتنمية البشرية. ولعل غلبة المذهب العسكري والصناعي والانفاقي البيروقراطي هي السبب في الرد الروسي المحموم على خطط أميركا الصاروخية الدفاعية بأوروبا. فالظن ان 10 صواريخ معترضة ببولندا في مقدورها استنزاف هجوم روسي بآلاف الصواريخ الباليستية، على ما يزعم الكرملين، سخف وهراء. والسياسات الروسية العسكرية، اليوم، تحيي عادة سوفياتية كانت تولي عدداً قليلاً من القادة رسم الخطط المصيرية في حجرة مغلقة. ويقوم فريق بوتين، وهو منتخب من عسكريين وموظفين أمنيين ميدانيين، اليوم، بالمهمة العتيدة نفسها، على النهج نفسه. فانهيار الاتحاد السوفياتي كان الواقعة الجسيمة والحاسمة في حياة بوتين وأمثاله، والمأساة التي قصمت أعمارهم، شأن شطر كبير من الروس. ولكن البديل عن المثال الذي أدى، قبل اقل من عقدين، الى انهيار روسيا، لا يزال مشكلة. والى اليوم، لا يتصور الفريق الحاكم مثالاً مختلفاً، حقيقة، عن المثال البائد طريقاً أو حلاً. عن إدوارد بيلاييف و. ج. كوين مارتن، "فورين بوليسي" الأميركية، 7-8/2007