المقاومة السياسية والعسكرية، الفلسطينيةواللبنانية ضد الاحتلال والعدوان الإسرائيلي المتكرر، تضرب في الجسم الصهيوني وتوجع، ولكن العقل الصهيوني المريض يبقى في معزل، ويرد الضربة بضربة أقسى، وتأتي عملية إصبع الجليل، اجتياح لبنان واحتلاله من الجنوب الى بيروت، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية، وتجديد الحروب الداخلية في لبنان وتعميمها حتى تشمل كل الأطراف وكل طرف من داخله. تأتي هذه العملية المفصلية رداً نوعياً على آثار الضرب المتراكم على الجسم الصهيوني، من العملية الفدائية الأولى عام 1965 نفق عيلبون الى العمليات الأولى بعد نكسة عام 1967، مروراً بالمعركة الأشد وهجاً، معركة الكرامة، التي نما بفعلها جسم حركة"فتح"بخاصة والمقاومة بعامة، في شكل سريع وعشوائي، وكأنه سرطان حميد لم يلبث ان صار خبيثاً، او كأنه حصل بفعل نظام تغذية سريع وغني بالدهنيات والنشويات وعلى حساب الروح والقلب والعقل الفلسطيني، ما أطلق عليه كبار الفتحاويين من دون ان يعالجوه، بل ربما كانوا قد فاقموه، أعني خصوصية الفكر وعمومية التنظيم او الانتماء او العضوية، وكأن عقلاً محدوداً، يحتاج الى شروط هادئة وعميقة لتنميته، حمل او تحمّل مرغماً جسداً متنافر الأعضاء غير متناظر ولا متكافئ ولا يقيم للعقل وزناً، لأن العقل هو الذي يعقل، أي يمنع ويجمع، بينما الكثرة العشوائية هي في النهاية سلة مصالحه وعواطف وانفعالات واستهدافات ضيقة ومتناقضة ومتصارعة من دون ناظم أو رادع... وفي هذه الحال تحضر السكرة وتغيب الفكرة... وهكذا كان... الى ان كانت الحرب على النظام الأردني نكسة ثانية لم يلبث حلُّها ان تم على حساب لبنان، من دون ملاحظة حساب فلسطين، ومن خلال حسابات قطرية دقيقة جداً، احتاجت الى ثلث قرن كي تثبت ان دقة الحساب القطري قد تؤمن للقطر منافع مشهودة، ولكنها مؤسسة على نهج سرعان ما يحول المنافع الى مضار مدمرة للقطر ولشقيقه الذي كان يجب ان يكون شريكاً، فكان أجيراً صابراً ترجيحاً للمشترك على الخاص، حتى طغى هذا المشترك على ذلك الخاص وأجبره على الفصام والفصال وما يترتب عليهما من خسائر خاصة ومشتركة، وعلى الطرفين معاً... وكانت حرب لبنان ذات البعد الفلسطيني الواضح او الغالب، فكانت النكسة الثالثة، وكان نصيب لبنان فيها موازياً او مساوياً، ان لم يكن زائداً على نصيب فلسطين بدءاً من حرب شمال لبنان الى حرب المخيمات الى الحروب الأخرى التي يرضع كلٌ منها من صدر الآخر، الى اتفاق الطائف... ومن ورائه مدريد التي اختزلت في أوسلو... وقلنا... حسناً... فقد اخترقت منظمة التحرير المنظومة الأيديولوجية او الأسطورية المكونة للكيان الغاصب، اذ تبين ان هناك شعباً فلسطينياً لأرض فلسطين، وأن الصهيوني الذي لا يتنازل قد تنازل، وأن الشتات الفلسطيني اصبح لقسم منه مكان في الداخل يقوم بدوره في عملية سياسية معقدة، ولكنها عملية حققت شيئاً كثيراً على حساب أشياء كثيرة، والزمان والدأب والصبر يصحح ولو نسبياً، وكانت أوسلو، في الإيجابي منها ومن آثارها ثمرة من ثمرات الانتفاضة الأولى التي استطاعت بمدنيتها وعقلها الجامع والجمعي ان تهدد العقل والروح الصهيونية، فكانت أوسلو احتياطاً صهيونياً من مفاعيل الانتفاضة، او العصيان المدني... بعد أوسلو وبسبب الضربات او الإعاقات الاسرائيلية للعملية السياسية، انفتحت الشهية ثانية على السلاح، وكانت المنافسة في شرائه واقتنائه، بين"حماس"و"الجهاد"من جهة و"فتح"والسلطة وسائر المنظمات من جهة ثانية، إغراء للسلطة ولأبي عمار بالموقف المراوح بين السلاح والسياسة، ما جعل القوى الفتحاوية، التي نمت بعيداً من سلطة"فتح"ومنظمة التحرير في الخارج، وهي التي أنجزت الانتفاضة الأولى، تأخذ حريتها في التسليح والاستعداد لمشاركة ومنافسة"حماس"و"الجهاد"في الجهاد... إذاً فقد عادت الانتفاضة الثانية الى لغة السلاح، على تركيب هادف يتراوح بين الداخل والخارج، بين الذات والعدو... وأصبحت ضربات المقاومة اشد اهتماماً بالجسم الصهيوني، بعيداً من العقل الصهيوني الذي ربما كان قد اشتغل على استدراجها الى هذا المسار ليبرر ما يعده للجميع من ضربات نوعية تفوق آثارها ما ينال العدو من مضايقات وازعاجات عميقة ولكنها غير قاتلة. وهكذا كانت الردود الاسرائيلية على الجسم الفلسطيني موجعة، وكأن أوسلو تحولت الى مصيدة، وانتبه العقل الصهيوني الى العقل الفلسطيني البراغماتي، الذي يحرجه إذا ما تصلب ويحرجه اذا ما تنازل ويفضحه... فكان لا بدّ من تعطيل هذا العقل مجسداً في أبي عمار، الذي اختار الخندق الذي اعتاد عليه، على الاستمرار في مرونته التي أصبحت مكلفة له ومحرجة لعدوه، فمال هو الى تخفيف الكلفة ومال العدو الى الخلاص من الحرج... ثم كان الجدار ووفاة أبي عمار مسموماً، وبالتدريج، وبأقل قدر من السم، لأن بدنه لم يكن يحتاج الى الكثير، وهو العليل بقضية كل محطاتها وكأنها بدايات لقضية أخرى، أو قضية واحدة لها أسماء متعددة، تتغير من عام الى عام وأحياناً من يوم الى يوم ولا تستقر على حال، ويجد الخارج، العدو، دائماً فرصة لاستثمار معطيات في الداخل تسهل عليه عمله الاجتثاثي للقضية وأهلها، في لحظة تراجع عربي، لا ندري ماذا كان يمكن أن يؤثر لو أنه كان تقدماً؟ قياساً على القصور أو التقصير الذي عرفناه في زمان العافية العربية، العافية التي لم تستخدم الا في اختراع منظمات للشغب على الشأن الفلسطيني مقابل المنظمات الأصلية، والتي انصب كثير من الجهد العربي على إدخال عوامل الفساد الى داخلها استكمالاً للمهمة، ورهناً أو ارتهاناً للقرار الفلسطيني الذي صرخ مطالباً باستقلاله بعد فوات الأوان والقصور الذاتي عن تحقيق الاستقلال الذي عاد فتحقق من خلال درجة عالية من التخلي العربي. ومع المعاندة... وفي نهايتها، كانت حرب لبنان وخروج المنظمة... الى ان كانت"حماس"واستقواؤها بالفارق الهائل بين هزال حركات التحرر الوطني العربي، وفتوة الطرف المتطرف المفتول العضلات الطالع من نومه الى صحوة وكأنه مستيقظ من كابوس عميق وطويل، واستقواؤها بترهل حركة"فتح"وشتاتها والفساد غير الطاغي واقعاً والطاغي مشهداً انصافاً للشرفاء، وهم الأكثرية من دون شك، واستقواؤها من دون اتهام بالتواطؤ لأننا لسنا من أهل إلقاء التهم جزافاً بإسرائيل التي لا يلائمها المعتدل ويلائمها المتطرف لتبرر تطرفها وتضاعف من فعاليته... وكان الانتخاب، وكانت الديموقراطية... كانت الضربة الاعظم، وهذه المرة بيدنا في غزة، قريبة معنى ومضموناً، لولا أنها في مفصل أخطر، من أحداث الأردن وحرب لبنان. أما أثرها في الضفة الغربية وعلى السلطة الفلسطينية فلا يجوز التقليل من مخاطره الكبيرة المحتملة... فهذه العواطف الأميركية والصهيونية على الضفة ومنظمة التحرير وحركة"فتح"الخ... من الصعب التردد في التعامل معها، وربما كان من الصعب التصديق أنها صادقة، وأنها لا تهدف الى تحويل الفتنة الى حرب فلسطينية دائمة، أي الى ضربة أخرى صهيونية بأيدينا، لا بيد واحدة منها! إننا نعلم كل العلم أن العقلاء في الضفة هم الممسكون بزمام الأمور الآن... وأن حركة"فتح"استطاعت بهدوء وروية أن تتجنب حرباً داخلية في الضفة وغزة جراء الانفعال الذي كان محتملاً حصوله، والذي كان يمكن أن يؤدي الى ضربة سريعة وقاسية للقوى المتوترة بفعل الصدمة، في حركة"فتح"، التي كان من الممكن أن يدفعها توترها الى الوقوع في الثأرية ضد عناصر"حماس"وكوادرها في الضفة رداً على فعل"حماس"في غزة، وما قد يضطر السلطة الوطنية الى التصدي له تحقيقاً للصدقية والمسؤولية العامة وتجنباً للفتنة وايثاراً للوحدة ومشروعاً في تسريع عملية السلام الصعب. واحتياطاً من انشقاقات وصدامات لا تنتهي... بل تكمل المسار الغزاوي في الضفة بما يوازيه خطورة وتعقيداً. حسناً... ورب ضارة نافعة... فقد وجد الرئيس محمود عباس فرصة قهرية لتطبيق ما كان يؤمن به، من أنه رئيس لا يخلو من ملمح زعامي، ولكنه ليس زعيماً ولا يريد أن يكون، ولأنه بعد ياسر عرفات وطبقاً لمعايير الزعامة، المقبولة وغير المقبولة، التي وضعها، لم يعد في الامكان انتاج زعيم يقترب من حجمه فضلاً عن مساواته حجماً ولمعاناً واستقطاباً، وكان مشروع الرئاسة عند أبي مازن هو البديل... وكان لا بد للرئاسة من فريق عمل منسجم، فكانت هذه الحكومة التكنوقراط التي تتمتع بقدر من السياسة يكفي، إذا ما كان هناك انسجام حقيقي، وطالما أن المحاصصة الفصائلية لم تلاحظ في تشكيل الحكومة، فإن الضمان متوافر ولا بد من الحفاظ على الضمانات الأخرى، من أجل أن تعيد الضفة التأسيس لفلسطين أخرى ستبقى على الحافة بين السلام والحرب، والمهم ألا تبقى على حافة الحرب الأهلية. ولا أدري ما هي وكم هي فرص الحل بالحوار الذي يبقى راجحاً ومطلوباً لأنه يفضي الى التسوية المطلوبة دائماً؟ فهل لا يزال الحوار والتسوية ممكنين في فلسطين؟ الجواب صعب جداً، كما هو في لبنان والصومال والجزائر والعراق الخ... ولكن الأصعب منه هو استمرار الحال وتفاقمها، ولا ندري لأية غاية؟ صحيح أن أهل مكة أدرى بشعابها، ولكننا في لبنان مثلاً، يزداد الحوار والتسوية صعوبة لدينا وإلحاحاً علينا، لأن البديل هو الانحلال، وهو أعظم من كل تنازل من أجل الوطن الإشكالي في لبنان، والذي قد يتحول من حقيقة الى فرضية في فلسطين. والدولة التي هي احتمال في فلسطينولبنان، مع فارق بسيط جداً جداً... هو إسرائيل! وهل هناك فارق فعلاً؟ تعالوا الى البدء ثانية من فلسطين وإلا فإن إسرائيل، بصيغة أو بأخرى، مباشرة أو مداورة، ومن دون تواطؤ فعلي بينها وبين أحد أو طرف أو بالتواطؤ، ستبقى هنا وهناك، وسنبقى في خدمتها بالسلاح مرة والسياسة مرة أخرى. أما الوحدة فهي ضمانة السلاح وضمانة السياسة حتى لو غلبت احداهما على الأخرى، لأن الحق هو ما نتفق عليه. والسؤال وراءه سؤال عما إذا كنا أمام مشهد يشبه شكلاً حال فرنسا وحكومة فيشي تحت الاحتلال النازي، وحكومة فرنسا الحرة وديغول المنفى؟ أيهما المنفى الآن: غزة أو الضفة! وأين هو المشفى؟ على فارق ملحوظ، هو أن الصهيوني توأم النازي وهذا يعرفه أبو مازن بدقة الآن موجود في المكانين، وعلى فارق آخر أيضاً وهو أن النهج الذي يشبه نهج ديغول، مع فوارق عميقة ومتغيرات أعمق، هو نهج حكومة الضفة، حيث العملية السياسية هي شرط التحرير والسلام الأقل عدلاً أو جوراً والمتوسط أو الطويل الأمد... ولا شيء نهائياً إلا في العقل السياسي العقائدي، أي اللاعقل سياسياً، في حين أن النهج السائد في غزة هو أقرب الى نهج حكومة فيشي، على فارق هو أن فيشي لم تقاتل المحتل، بينما"حماس"تقاتله ولكن بطريقة قد لا تؤدي الى التحرير بالضرورة وقد تؤدي الى العكس. ما لا ينفع معه نعت حكومة"حماس"بالربانية لأن رفع السياسي الى مستوى المقدس هو إلغاء للمقدس بالسياسي وإلغاء للسياسي بالمقدس... ومع التقديس لا يعود جائزاً الاحتجاج بالانتخابات لأنها تنتج سلطة تحكم باسم الشعب... لا باسم الله الرحمن الرحيم. * كاتب لبناني