"ولن يجد المرء في المدينةمسقط مع انتصار الهلال على الصليب بأن تحول الكنيسة الى مسجد، كما حدث في القسطنطينية بكنيسة آيا صوفيا". من التقرير الألماني 1 يقدم هذا التقرير رؤية دقيقة لمدينة مسقط التاريخية، من خلال عيون سائح ألماني، قدم إليها زائراً نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، وأحبها منذ أول إطلالة في ما يبدو، يقدمها في لغة أدبية رائقة، وتصوير دقيق لمفردات الحياة العامة لهذه المدينة الساحلية. أُعدّ التقرير للمجلة الألمانية العتيقة"Globus"في مجلدها الرقم 54 عدد 19 سنة 1888، ويقع في 1700 كلمة تقريباً، مع سبع لوحات فنية، تعكس - برأي المجلة - أوجه الحياة العامة في مسقط وبعض القرى المجاورة لها، وكان يرأس تحريرها آنذاك الدكتور إميل ديكرت 1848 - 1916، أستاذ الدراسات الجغرافية في جامعة فرانكفورت. أسس المجلة عام 1962 الكاتب والجغرافي الألماني كارل أندريه 1808 - 1875، وقد تغير اسمها مراراً، وتناوب على تحريرها أشخاص عدة، وتُعنى برصد ودراسة بلدان العالم وعادات الشعوب وثقافاتها مع دراسة حركة التجارة العالمية، وبتعبير المجلة ذاتها: Globus, Zeeitschrift fuer Laender und Voelkerkunde mit besonderer Beruecksichtigung der Ethnologie, der Kulturbehaeltnisse und des Welthandels. ولا تزال المجلة تصدر باللغة الألمانية حتى وقت قريب باسم: Petermanns geographische Mitteilungen: PGM, Zeitschrift fur Geo-und Umweltwissenschaften. يمتاز هذا التقرير عن تقرير آخر تعرضنا له في دراسة سابقة بتوجهه التاريخي والسياسي، واعتماده على اللوحات الفنية السبع، وإيغاله في تناول الأبعاد الحيوية للناس، عدا عن مرور خمسين عاماً ونيف، وهي الفترة الزمنية بين التقريرين، مما يتيح لنا تتبع أوجه التشابه والاختلاف في التقارير الألمانية حول عُمان عموماً، على امتداد حقب التاريخ المختلفة، وهو ما سنعرض له في دراسات مقبلة. 2 وصل كاتب التقرير الى مسقط عبر البحر، في رحلة طويلة لا تخلو من مخاطرها المعتادة في غمرة صراعات القرن التاسع عشر الميلادي على منافذ التجارة والبحر، ويبدو أنه زار في طريقه عدداً من المدن الشرقية الكبيرة، ومن بينها مدينة القسطنطينية في تركيا، فعدّ مسقط واحدة من أجمل تلك المدن، بجبالها المهيبة، وأرضها الممتدة، وسكانها المسالمين، وسياستها المتسامحة. يقول كاتب التقرير وهو على متن سفينته المتجهة الى مسقط، وهي تمخر عباب خليج عُمان:"أول مشهد من مسقط، عندما يقترب المرء منها من ناحية البحر، فاتن ساحر، كحال جميع المدن الشرقية الكبيرة. مرتفعات صخرية عالية، والحجارة التي يتخللها ضوء الشمس كالمسرح المفتوح ترتفع على سطح الماء الأزرق، فترسم هذه الصورة خلفية فنية رائعة. وهذه هي نهايات سلسلة الجبل الأخضر، أعظم جبال سلطنة عمان، والذي يقع أطلسياً في اتجاه الجنوب الشرقي الى الشمال الغربي، وفي القرب من شاطئ مزدان بالحجارة الكريمة...". إنه كاتب شديد الملاحظة مرهف الحس، وقد حمل معه ثقافته الأوروبية من خلال تشبيهاته الفنية، وللأسف فإن المجلة لا تشير الى اسم كاتب التقرير، والذي ربما يكون أحد مراسليها، أو رحالة ضمن وفود حملات الاستكشاف المنتشرة في ذلك الزمن للمنطقة العربية، عسكرية كانت أم علمية. ويتابع التقرير وصف تلك السلسلة الجبلية، ربما يستحضر كاتبه صورة الجبال التي ألِفها في ألمانيا بلده، وهي مزدانة باخضرار نباتاتها، وتنوع ألوانها، في لوحة طبيعية تضاهي حُسن جبال عمان ولو كانت صخوراً صماء، فيقول:"هذه الصخور لا تقوى على حمل أية نباتات، وبهذا نتذكر أننا نتوسط حدّ الشمال الشرقي للصحراء العربية الكبيرة. في أشهُر الشتاء تُرش بكميات قليلة من المطر - فقط، بينما في أشهر الصيف سحب لا ماء فيها تتجمع فوقها في السماء". والإشارة الى قلة الأمطار في هذه المدينة تشترك فيها جملة من التقارير الألمانية القديمة. 3 ثم يستطرد التقرير في وصف ما على تلك السلسلة الجبلية، جاعلاً منه نقطة عبور الى الحديث عن مسقط تاريخاً وسياسة، يقول:"على تلك الصخور العالية تتربع الحصون المختلفة مع الأبراج الضيقة والمدورة، والتي تذكّر بالقرون الأوروبية الوسطى، وهي تمثل أيضاً نهاية القرون الوسطى الأوروبية وإليها الفضل في نهضتها. قام البرتغاليون ببناء هذه الحصون المنيعة مع رحلاتهم نحو شرق الهند في عصر البوكيرك، وكانوا يستعملونها في أي وقت من أجل حماية قوتهم البحرية". يشير التقرير هنا الى قلعتي"الجلالي"وپ"الميراني"الشامختين، المتقابلتين على ساحل مسقط، اللتين لا تُذكران على اللسان التاريخي إلا معاً. ومع تأكيد كاتب التقرير أن البرتغاليين هم من بنوا هاتين القلعتين، إلا أن ثمة شكاً في كونهم هم من شرعوا في بنائهما ابتداء، إذ تذكر بعض مصادر التاريخ بأن"قلعة الميراني"بُنيت قبل قدوم البرتغاليين الى عُمان وكانت على شكل برج كبير، وفي عام 1588 أعاد البرتغاليون بناء القلعة على أنقاض المبنى القديم وأضافوا إليها منصات للمدافع ومخازن وسكناً للقائد ومحلاً للعبادة كنيسة، وقد تم توسيع القلعة في عهد كل من الإمام أحمد بن سعيد مؤسس الدولة البوسعيدية في القرن الثامن عشر وحفيده السيد سعيد بن سلطان في بداية القرن التاسع عشر. أما"قلعة الجلالي"- كما تقول مصادر التاريخ ذاتها - فقد أكمل البرتغاليون بناءها عام 1587، وطُورت في عهد السيد سعيد بن سلطان في بداية القرن التاسع عشر. ويورد الدكتور غباش - اعتماداً على الوثائق الأوروبية - أن البرتغاليين قاموا ببناء القلعتين، الأولى هي قلعة"القديس غوا"التي أعاد العُمانيون تسميتها باسم"الجلالي"، والثانية هي قلعة"القبطان"المعروفة باسم"الميراني". ومن الجدير ذكره أن الكاتب الإيطالي انريكو دي اريكو قدّم دراسة وافية حول العمارة العسكرية العُمانية، ويشير في مقالة له الى أن القائد البرتغالي بيترو يلافيل بعث رسالة له من مسقط مؤرخة في 19 كانون الثاني يناير 1625، يشير فيها الى عظم الحماية الطبيعية التي تمنحها الجبال لمدينة مسقط، كما يصف تحصينات المرفأ، مشيراً الى أن البرتغاليين قد بدأوا ببناء سور صلب لحماية المدينة. وبعد هزيمتهم في هرمز قام البرتغاليون ببناء بروج للمراقبة لتقوية الخطوط الدفاعية... ومن أكثر من اشتهر باشتراكه في هذه التوسيعات القائدان البرتغاليان روي فرايردي اندريا ونونو الفيرس بوتليهو، وقد كانا المسؤولين عن إعادة تنظيم الخطوط الدفاعية في المحيط الهندي ومحاولة إعادة إخضاع هرمز. وبعد وصف هاتين القلعتين - أو إحداهما - يتوجه فكر كاتب التقرير الى تساؤل كبير، فيقول:"إنها تظهر في شكل غير مقدور الاستيلاء عليها، سواء من جانب البحر أو جانب البر، وهي تسيطر بمواقعها على المدخل نحو المرسى وكذا الممرات الجبلية، وهنا يتساءل المرء متعجباً، كيف أُجبر البرتغاليون على التخلي عنها؟!". وهو تساؤل في محله، إذ كانت القوة البرتغالية ضاربة الجذور في مستعمراتها، قوية الشكيمة على مناوئيها، طويلة الذراع في اخضاع من تريد، فكيف أُجبر البرتغاليون على التخلي عنها؟! على رغم بُعد مسقط الاستراتيجي، وموقعها على مشارف البحار العالمية وخطوط الملاحة الدولية، والتي كانت عصب الحياة الاقتصادية في ذلك الوقت؟ ولكن الكاتب يُعيد الى ذاكرته وإيانا تجربة أخرى مماثلة:"لم يكن الوضع ها هنا فحسب على أية حال، ففي الهند، أجلي الهولنديون مع قوتهم وموقعهم الحصين ليقوم السكان الأصليون باستيطانها في نهاية حرب الاستقلال الطويلة التي واجهها الإسبان والبرتغاليون، حتى يظهر أن الهجوم كان سهلاً لدرجة أن التاريخ لم يحكِ لنا ما حدث من صعوبات. لم يكن إبعاد البرتغاليين عن سواحل عُمان والخليج سهلاً، بل كان هدفاً عمل على تحقيقه العُمانيون سنوات طويلة، وما تمكنوا منه إلا بعد اتحادهم وقوتهم، ليُنهوا بذلك فترة تزيد عن 180 سنة من السيطرة البرتغالية على مواقع حيوية من بلادهم. بدأ الغزو البرتغالي لعُمان عام 1508، وقد أُحرقت مسقط ونُهبت واحتُلت مع ثلاث مدن عمانية أخرى هي قلهات وقريات وخورفكان. ويعترف المؤرخون الأوروبيون بالأساليب غير الإنسانية التي مورست ضد سكان هذه البلاد من جانب البرتغاليين، حيث ذكروا منها جدع الأنوف، وقطع الآذان. وبعد حملات عدة وبضع سنوات من الحرب"أصبح البرتغاليون سادة منطقة شاسعة، من السواحل الشرقية لأفريقيا الى السواحل الغربية للهند، وكانت عُمان ومضيق هرمز يتحكمان في مركز هذا الجهاز بكل تجارتها في الخليج"- كما يقول الدكتور غباش. ومع دخول عُمان في العهد اليعربي فترة استثنائية في تاريخها، وتحقق الوحدة الوطنية المزودة برسالة روحية على أرضها استطاع الإمام ناصر بن مرشد اليعربي 1624 - 1649 إجلاء البرتغاليين وهزيمتهم، إثر حملات عسكرية واسعة بدأت سنة 1633 في منطقة جلفار ثم سنة 1634 في منطقتي صور وقريات، وسنة 1648. ومات الإمام ناصر سنة 1649 وما زال للبرتغاليين بعض معاقل عمانية في أيديهم. وقام خليفته سلطان بن سيف اليعربي 1649 - 1688 بإتمام ما قام به سلفه فأجلى البرتغاليين من عمان نهائياً، وقام بمطاردتهم حتى أجلاهم من الخليج كله، ومن سواحل أفريقيا والهند البعيدتين. 4 بعد ذلك يبدأ كاتب التقرير في وصف الحياة العامة للناس في مسقط وطبيعة بيوتهم ومساكنهم، فيقول:"على سفح ضيق عند أرجل تلك الجبال وتلك الحصون تتزاحم البيوت البيضاء معاً، وفي مقدمها في شكل خاص البيوت الرسمية الكثيرة للمدينة: قصر السلطان، والديوان، والبيت القديم لمكتب الجمارك، كذلك بقايا من شواهد حكم البرتغاليين، وأخيراً وليس آخراً، مكتب القنصل الإنكليزي". نلاحظ هنا تسميته للبيوت الرسمية التي كانت حاضرة آنذاك، وفي مقدمها قصر السلطان، وكان سلطان عُمان آنذاك السلطان تركي بن سعيد 1871 - 1888، والديوان وهو مقر قيادة الحكم. مع ما ذكر من المقار الأخرى، وتشديده على كثرتها، مما يعني أن مسقط كانت دائبة الحركة كثيرة النشاط لوجود الإدارات الرسمية فيها لقضاء حوائج الشعب والتجار الوافدين إليها. وتهمنا هنا - بقدر وصفه البنية العامة للمساكن في مسقط سواء كانت الرسمية أم الشخصية ? دلالات اختيار العُمانيين للون الأبيض لطلاء منازلهم، حيث ظل المعمار العُماني محافظاً عليه حتى اليوم، ومفضلاً له على غيره من الألوان، وهي صفة يتفق عليها كثير من شعوب العالم على اعتبار اللون الأبيض لون الصفاء والنظافة والراحة النفسية. فاختاره العُمانيون ليكون اللون الذي يستقبلون به ضيوفهم، ويراه البعيد وهو مبحر في خضم الموج قادماً إليها. ثم يعرِّج الى الحديث عن الحياة الاقتصادية قائلاً:"الميناء تدبُّ فيه الحياة، وترسو عليه بعض البواخر الانكليزية الضخمة قبالة المرسى، وبجانبها بعض السفن الحربية الصغيرة للسلطان، وعلاوة على ذلك ثمة عدد كبير من القوارب والزوارق التابعة للسكان الأصليين. حيث يظهر للمرء بأنه يستطيع التعامل مع المراكز التجارية المخصصة على المحيط الهندي. وفي الوقت نفسه في الأماكن البحرية المملوءة بالسكان. أما كان ينبغي للقادة المتأخرين من العرب أن يأخذوا نصيبهم من الهند بكل اقتدار!". بهذه العبارة الأخيرة يشير التقرير الى ما عُرف عن العُمانيين من قوتهم البحرية التاريخية، والتي شكلت قوة ضاربة حافظت على الأمن والسلام الدوليين، كما أنها كانت المفتاح الاقتصادي الأول في العالم آنذاك. يمتدح كاتب التقرير قوة العرب البحرية وهو لم يشهد سوى بقايا تلك القوة، حيث كانت في وضع صعب بسبب المشكلات الداخلية، والاضطرابات الاقليمية، وما استطاع السلطان تركي مع حرصه على وحدة الامبراطورية العُمانية الكبرى - تماسك مُلكه إلا بإعلان بريطانيا حمايتها الرسمية لمدينتي مسقط ومطرح، في حين خرجت زنجبار عن طوق الإمبراطورية بسبب بريطانيا ذاتها. فلا غرابة أن يُشاهد البواخر الإنكليزية الضخمة راسية على الميناء العُماني، بينما السفن البحرية الصغيرة التابعة لحكومة عُمان على جانبها. ولكن المثير انه على رغم هذه الوضعية الصعبة لا يزال الميناء على نشاطه بحيث أعطى صاحب التقرير انطباعاً جيداً بأن القوة الاقتصادية لا تزال بعافية، وأن في إمكان المرء المتاجرة بما يريد بسفنه التجارية الى كل الموانئ الكبرى. يربط التقرير بين ميناء مسقط بموقع آخر له أهميته التاريخية والسياسية والاقتصادية من مناطق عمان، فيقول:"على شواطئ عُمان كثير من المنافسين، وبعضها، خصوصاً صحار والتي تقع بالقرب من الخليج الفارسي، لعب دوراً مهماً في الحقبة التي سبقت البرتغاليين. وقد أشار إليها ابن بطوطة في القرن الرابع عشر بأنها بلدة صغيرة. في ذلك الوقت، وعندما كانت حياة البحر في بلاد الخليج الفارسي - وخصوصاً بلاد ما بين النهرين - مزدهرة ونشطة بحركة السفن، حدث أمر محزن، فقد صعدت مسقط أما بقية المواقع البحرية فقد انهارت". مدينة صحار واحدة من أقدم المدن العُمانية، ومن أكثرها تاريخاً وحضارة، وقد كان لموقعها المهم على ساحل عُمان سبب لبروز الأطماع للاستيلاء عليها، فدخلت في تاريخها حلبة الصراع الداخلي والدولي. والإشارة الى ما قرأه كاتب التقرير عن صحار لدى ابن بطوطة دليل على شهرتها. ثم إن بروز مسقط قوة اقتصادية وبحرية في ذلك الوقت كان مشهوداً له في الأوساط العالمية، حين ازدهر نشاطها التجاري وبلغ ذروته في وقت هبط سوق بقية الموانئ في هذه المنطقة الحيوية من العالم. * طالب دكتوراه في جمهورية ألمانيا الاتحادية