منذ أيام انتهت فاعليات مسقط عاصمة للثقافة العربية حيث شهدت حراكاً ثقافياً رائعاً من خلال المؤتمرات والندوات والمحاضرات واللقاءات والأسابيع الثقافية المختلفة إلى جانب النشاطات الأخرى التي تزامنت مع العرس الثقافي العربي. والحديث عن مدينة مسقط وجمالها وتاريخها العتيد حديث ذو شجون... والحديث عنها لا يمكن أن يمر المرء عليه عابراً، بل إن هذه المدينة ارتبطت بهذا البلد التاريخي العريق عبر قرون مضت، جسّدت ملامح وذكريات ومعطيات لا تزال شاهدة على سجل خالد لمدينة ساحرة وجاذبة لكل من زارها وتجول في شوارعها، وتفرّس في وجوه أبنائها الذين يحملون إرثاً عظيماً من التسامح والتفاعل والاعتزاز بقيم وميراث حضارة امتدت إلى ما قبل التاريخ. ولا تزال - هذه المدينة - كما كانت محمّلة بالمخزون الحضاري العماني المتجدد لتاريخ متفرّد ومتقد بحرارة وحيوية قال عنها البعيد قبل الغريب، وتلك خاصية وسمة بارزة في جنباتها. التفاعل الإيجابي وعندما يذكر اسم عمان وحضارتها وتفاعلها مع الحضارات الإنسانية عبر قرون مضت يبرز اسم مسقط شاهداً وناجزاً لحركة ثقافية واقتصادية وتجارية كبيرة نابضة بالحيوية والنشاط. وأتذكر أنني عندما زرت مسقط لأول مرة في شهر آب أغسطس عام 1974 وكانت اول زيارة لي لعاصمة بلادي من مدينة عمانية أخرى، فتنت بهذه المدينة وأشعر بعد كل زيارة بالحنين إليها عندما أغادرها، كما أشعر بالفخر والزهو لمدينة شهدت الكثير من المنعطفات والتفاعلات والتحولات عبر تاريخها الطويل... لكنها بقيت كما كانت شامخة شموخ الإرث العريق، ومحافظة على ملامحها الصادقة المعبرة عن روح حضارية وقيم متأصلة. ويذكر أحد المؤرخين أن مسقط تشتمل على كثير من خصائص عمان، فهي تطل على البحر الذي يمتد امتداداً طويلاً مع بلاد عمان، وفيها الصخور السود الفاحمة التي تنتشر في عمان، تتمثل فيها الخصوبة والبحر والجبال، وتلك هي أبرز مظاهر الحياة في عمان. أما منظر مسقط من البحر أو الجو فهو منظر رائع يمتد في صفوف متراصة من الجبال الحصينة لمسافات طويلة، وتقع في الخليج الصغير - يقصد خليج عمان - الذي يلتقي عنده البحر بالجبل مدينة مسورة مسقط القديمة تطل عليها قلعتان قديمتان - الجلالي والميراني - وقلما يوجد ركن في مسقط لا يمكن رؤيته من فوق هاتين القلعتين-". الدفء والتألق هذه مسقط كما كانت في السابق، وكما يراها المؤرخون من زاوية زمنية معينة. إلا أنها الآن مدينة متألقة... زاهية... هادئة... دافئة بمشاعر أهلها الذين يتميزون بالوداعة وكرم الضيافة. كانت مسقط عبر التاريخ مدينة وديعة بشوشة تستقبل كل غريب وزائر من كل الأديان والأعراق والتوجهات. ولا أجد كتابة لرحالة عن مدينة مسقط إلا ويذكروا أنهم شاهدوا أجناساً عدة من الشعوب المختلفة في هذه المدينة، منهم مؤرخون وتجار ومستطلعون لمعارف مختلفة، واستوطن بعضهم لسنوات طويلة، وهذه الميزة لا تقبلها إلا الأمم العريقة والحضارات الشامخة التي تعرف قيمة التعدد والتلاقح والتفاعل، فهناك فرق بين الاعتزاز بالقيم والاعتراف بالآخر وإنسانيته. الغزو الخاسر ومع أن هذه المدينة عرف عنها الانفتاح والتفاعل والتسامح مع الآخر، إلا أن الغزو البرتغالي قطع هذا السياق التاريخي المعتاد لمدينة عرف عنها كل هذا الانطباع الإيجابي من الذين كتبوا عنها. فعندما وصل البرتغاليون إلى مسقط وجدوها منيعة محصنة وقد استعد أهلها بعد سماعهم بما حل بسكان قريات بإقامة المتاريس والاستحكامات على الساحل وحول المدينة، وبعثوا باثنين من زعمائهم إلى البوكيرك عارضين السلام وقبول الشروط التي يمليها عليهم، وبما أنهم لم يكونوا يحملون تفويضاً كتابياً طلب منهم البوكيرك العودة في اليوم التالي، وفي الوقت نفسه قام البرتغاليون بعملية استطلاع للوقوف على الشخصيات العمانية. وعندما رفض العمانيون مطالب القائد البرتغالي وإنذاره بالاستسلام، قرر البوكيرك هدم المدينة دون إبطاء وبما أنه كان قد أمر سفنه باتخاذ مواقعها مسبقاً، أصدر أوامره بأن تبدأ قصف الحواجز الدفاعية والتحصينات إلا أن نيران المدافع لم يكن لها تأثير كبير وذلك على الأرجح لبعد السفن عن الشاطئ، فقرر البوكيرك أن من الأفضل أن يعقد مجلس حرب لاتخاذ اللازم، وبما أن قباطنة السفن الأخرى الذين ضاقوا ذرعاً بديكتاتورية قائدهم، وأيقنوا بأن البوكيرك عقد العزم على تنفيذ الخطة التي وضعها بنفسه ولرهبتهم ربما من قوة تحصينات المكان تجنبوا مناقشته في خطة العمليات أو التعبير عن آرائهم وأبلغوه ببساطة بأنهم على استعداد لتنفيذ أوامره. وفي النهاية دحر العمانيون الغزو البرتغالي وبقيت آثارهم شاهدة على الفكرة الجنونية الواهمة، وأعطت العبرة أن استباحة التاريخ وتغيير الجغرافيا، مسألة خرافية في مواجهة أمة وحضارة وقيم متأصلة. التفرد في الموقع لقد نجم عن هذا التفرد في الموقع نتيجة مهمة ومحورية في مكانة هذه المدينة، حيث سلك العمانيون طريق البحر ونبغوا في ركوبه والاستفادة منه بطريقة تبعث على الزهو والفخر، وكانت مدينة مسقط إحدى هذه الانطلاقات المهمة في تاريخها حتى أصبحت بلادنا قاعدة الخليج الأولى التي تتحكم في مداخله من الجنوب وحلقة الوصل الرئيسية بين عالمين عالم الشرق الأقصى ممثلاً في الهند والصين وجنوب شرقي آسيا من جهة وشرق أفريقيا ومصر ومنها إلى غرب أوروبا من جهة أخرى. واللافت للنظر في جغرافية عمان أن ارتباط اليابسة بالبحر يعد قاعدة استراتيجية كم يذكر الكثيرون، حيث وجد العمانيون أنفسهم أمام وضع جغرافي جعلهم في حالة من الاستنفار الدائم. لذا فإننا نستطيع أن نقول إن التوازن بين البحر واليابسة شكل حلقة من حلقات النضال المتواصل ومن أجل ذلك ارتبط الماء باليابس في منظومة متناغمة شكلت في مجملها كل هذا التراث التاريخي الضخم. وإذا كانت ثمة خاصية واحدة تميز بها موقع عمان الإستراتيجي استمرت وأصبحت من الثوابت، فتلك الخاصية هي أنها كانت دائماً إقليماً فاعلاً، قطب قوة وقلب إقليم، حتى وهي محتلة أو مجزأة في فترة من فترات تاريخها، فلقد كانت مركز دائرة وليس على هامش دائرة أخرى. لا شك أن هذه الخصوصية الجوهرية التي تكاد تنطوي على تعددية مثيرة للاهتمام، لا يمكن إرجاع أسبابها إلا إلى جذور جغرافية أصيلة. التناغم الفريد والحقيقة المؤكدة في شخصية عمان الاستراتيجية هي اجتماع موقع جغرافي أمثل مع موضع طبيعي مثالي وذلك في توازن وتناغم عجيبين، فإذا كانت الصحراء دائماً من ظهر عمان تدق باستمرار على بابها الخلفي منذرة بالخطر واستنفار الهمم، فإن البحر بغموضه وتحدياته كان يدق من الجانب الآخر.. وهكذا عاشت عمان دائماً في حالة من الاستنفار الذي يتناسب طردياً مع أهمية الموقع إلا أنه استنفار من النوع الذي يثير الهمم ويفتق الذهن ويبعد الانغلاق. وإذا كانت الجغرافية وراء السياسة فلعلها تتفق بشكل لافت مع عمان، التي تعكس شخصيتها الاستراتيجية ملامح سياستها الخارجية والداخلية بدقة متناهية بما يؤكد مقولة ديغول الشهيرة:"الجغرافية هي قدر الأمم"بل هي العامل الثابت في صناعة التاريخ، لذا فقد قدر لعمان أن تكون قوة برمائية تضع قدماً على اليابسة وأخرى على الماء وتجمع بذلك بين صفتي قوة البر والبحر بدرجات متفاوتة، لكن في الغالب كان نداء البحر أقوى من جاذبية القاعدة وفي جميع الحالات التي انطلق فيها العمانيون عبر المحيطات والبحار كان البحر واليابسة يتفاعلان بطريقة متناغمة، فاليابسة عمق استراتيجي لتربية الرجال وزراعة الأرض وصنع الحضارة، والبحر مجال حيوي لتصدير تلك الحضارة والقيم الإنسانية... وهكذا تحققت كل الأعمال الكبيرة حينما ارتبط البحر باليابسة وتفاعلاً معاً في منظومة جغرافية مثالية لا تتكرر كثيراً. عندما نذكر مسقط وتاريخها وسحر جمالها تتقافز إلى أذهاننا الكثير والكثير من الكلمات والذكريات والمقولات... لكن المقام لا يتسع لأنها مدينة بحجم التاريخ والتراث العريق في قمم جبالها شموخ قلاعها وحصونها، وسحر ودفء شوارعها وحاراتها. * كاتب وباحث عماني