منذ فترة كتب الأكاديمي المغربي محمد الحداد مقالة في جريدة "الحياة" حملت عنوان "بداية المجتهد ... كي لا نظل نراوح في المكان نفسه !"، يقول فيها: "أفرطت السرديات النهضوية في استعمال كلمة اجتهاد منزاحة عن المعنى المحدد لها في التراث، فوظفت بذلك مفهوماً قديماً لمواجهة وضع تأويلي مختلف عن الظروف القديمة التي كان قد نشأ فيها المفهوم. ونحن نظل الى اليوم أسرى تلك السرديات فهي التي توجّه قراءاتنا للتراث وتفكيرنا في الحاضر وتطلعنا للمستقبل. وترجع محدودية كل أصناف الاجتهادات المقترحة الى أنها لا تبني نظرية جديدة للتأويل ولا ترتكز على مستندات عصرية في تعاملها مع القضايا التأويلية". مضيفاً في فقرة أخرى:"وأمام هذا المأزق تطرح ضرورة التفكير العميق في الوضع التأويلي نفسه وليس في تفاصيل المسائل التي يمكن أن تحل بالترميق والحيل الشرعية من دون أن يكون ذلك مجزياً لتطبيع العلاقة بالعصر. وثمة مجموعة من الأسئلة لا مناص من طرحها. أولاً، إذا افترضنا الاجتهاد يقدم حلولاً جديدة مناسبة للعصر، فهل ان النخبة المثقفة ثقافة تقليدية هي المؤهلة للقيام بهذه المهمة؟ أما إذا نظرنا الى الاجتهاد على أنه محاكمة معيارية للحلول المقدمة أو التي يتبناها المجتمع فهل من حق النخبة المثقفة ثقافة تقليدية أن تفرض معاييرها على المجتمع كله مع انها لم تعد تمثل فيه الطرف الأكثر حيوية والأوفر عطاء؟ ثانياً، كيف تستقيم دعوى الاجتهاد، سواء بالاستنباط أم بالتعيير الأخلاقي، إذا تواصل غياب نظرية واضحة المعالم حول الأخلاق والتأويل". والحقيقة انني مستغرب ان يقول الكاتب الأكاديمي محمد الحداد ما قاله آنفاً في قضية الاجتهاد، وهو النظام المعرفي الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالواقع الإسلامي في كل عصر من العصور، وبما لا يخرج عن المعايير والاشتراطات التي تجعله فاعلاً ومنسجماً مع محدداته المراد توافقها مع الواقع الجديد. كما انني لم أستوعب ما قاله الحداد في عبارة الإفراط في السرديات في استعمال كلمة"الاجتهاد منزاحة عن المعنى المحدد لها في التراث"، فهل يقصد محمد الحداد أهلية المجتهد في تصديه للاجتهاد؟ أم يقصد اجترار بعض المسلمين للاجتهادات السابقة للواقع الذي عاشه أولئك المجتهدون؟ إذا قصد الحداد اشتراط أهلية المجتهد أو المجدد، فإن هذه الأهلية ? بصرف النظر عن الزمن ? ضرورية ومهمة حتى يمكن أن تنضبط هذه الاجتهادات وتتوافق مع النظام المعرفي للفقه الإسلامي وأصوله، وتلك مسألة طبيعية وجوهرانية بالنسبة الى هذا العلم وحمولته الفكرية المعرفية. فالتخصص في أي علم من العلوم مسألة بديهية، ولها معطيات واشتراطات ومعايير محددة، فمن يتكلم في الطب والعلاج بغير علم ? كما يقول د. أحمد الريسوني ومن دون تمكن يعد مشعوذاً، ومن يمارس ذلك من غير أهلية ومن دون إجازة يحاكم ويعاقب، ومن يخطئ في ذلك ويلحق الضرر بالناس يكون متعدياً وضامناً، ومن يتكلم في السياسة بلا علم يعد مهرجاً وانتهازياً وديماغوجياً، ومن يتكلم في التاريخ بلا علم يعدّ مخرفاً". أما إذا قصد الحداد اجترار الاجتهادات السابقة - التقليد - فإن معظم علماء الأمة المتقدمين منهم والمتأخرين، ذموا التقليد، واعتبره البعض من الشرك تجب محاربته، لأن دين الإسلام والسنّة النبوية يدعوان الى الاجتهاد والتجديد، وهناك مرويات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تحدثت عن هذا الجانب المهم في حياة المسلمين، وإنه من فروض الكفاية. ومما قاله الكاتب محمد الحداد في مقالته:"إذا نظرنا الى الاجتهاد على أنه محاكمة معيارية للحلول المقدمة أو التي يتبناها المجتمع، فهل من حق النخبة المثقفة ثقافة تقليدية أن تفرض معاييرها على المجتمع كله مع انها لم تعد تمثل فيه الطرف الأكثر حيوية والأوفر عطاء؟". هذا الكلام العجيب الغريب في طرحه ومفاهيمه يجعلك تعتقد أن الكاتب بعيد من الواقع ومعطياته الراهنة، وكذلك إطلاعه على النظام المعرفي للفقه والأصول الإسلامية كأكاديمي بارز ومعرفته بهذه القضية الجوهرية. أولاً: ان قضية الاجتهاد لا تختص بعصر من دون عصر أو جيل من دون جيل، يقوم بها مثقف ثقافة تقليدية، أو مثقف ثقافة حديثة أو حداثية، لكن المعايير والاشتراطات والمؤهلات هي هي - كما أشرنا - وهي الفيصل في التصدي لقضية الاجتهاد أو التجديد، وتلك مسألة محورية، وبعد ذلك من قال أن الاجتهاد لا يقوم به إلا الأوائل أو المثقفون التقليديون؟ القضية نسبية غير مرتبطة بزمن معين وأنا هنا أود أن أسأل الكاتب محمد الحداد في مسألة القديم والجديد كما أشار في مقاله: من طرح قاعدة"تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان؟"، من القائل:"حيث وجدت المصلحة أو امارات العدل وأسفر عن وجهه فثم شرع الله ودينه؟"، من القائل:"الجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين؟"، ومن القائل:"أن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة الى ضدها، وعن المصلحة الى المفسدة، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؟". أليس هم الأوائل وهم أيضاً - كما صنفهم الحداد - يعتبرون مثقفين ثقافة تقليدية؟ فالاجتهاد إذاً مفتوح. ومن حق المسلم الذي يمتلك الاستطاعة والملكة والقدرة أن يقوم به، وليس هناك خطوط حمراء، إلا للمؤهلات والاشتراطات الواجب توافرها في المجتهد. ثانياً، قال الكاتب محمد الحداد في هذا المقال اننا"نرى ما يحدث في العراق من خراب لندرك خطورة أن يتمسك كل طرف بما تعود عليه ويسبغ عليه حلّة الدين ويطلب أن يكون هو الحكم والشرع بين الجميع. فلا يمكن أن يستقر المجتمع وتسلم الأرواح والأملاك إذا كان كل طرف فيه يدّعي امتلاك الحقيقة ويرى أنه الأحق برسم الطريق والشريعة". لا أدري كيف قفز الحداد الى العراق ومأساته الداخلية التي سببها الاحتلال، وصورها في تلخيص غريب بأن المشكلة أن كل طرف فيه يدعي امتلاك الحقيقة، ولكن الصحيح أن ما يحدث الآن في العراق لا يدرج تحت هذا التصور ولا يتقارب معه أبداً، فالعراق الآن في محنة سياسية وليست دينية، والقتال والافتتان الداخلي لا يجريان لا على التنزيل، ولا على التأويل، بل على المغانم والمصالح والنظرة المذهبية الضيقة، مع الدور البغيض الذي يقوم به الاحتلال في هذا الجانب، وأعداء الأمة في تغذية الاختلافات والاحتقانات السياسية في وطننا العربي، وهذا لا يستدعي اجتهاداً معاصراً أو غيره، بل الحكمة والمصلحة الوطنية العراقية المساندة والعربية لوأد هذه الفتنة الداخلية. ولله في خلقه شؤون.