أفرطت السرديّات النهضوية في استعمال كلمة اجتهاد منزاحة عن المعنى المحدّد لها في التراث، فوظّفت بذلك مفهوما قديما لمواجهة وضع تأويلي مختلف عن الظروف القديمة التي كان قد نشأ فيها المفهوم. ونحن نظلّ إلى اليوم أسرى تلك السرديات فهي التي توجّه قراءاتنا للتراث وتفكيرنا في الحاضر وتطلّعنا للمستقبل. وترجع محدوديّة كل أصناف الاجتهادات المقترحة إلى أنّها لا تبني نظريّة جديدة للتأويل ولا ترتكز على مستندات عصريّة في تعاملها مع القضايا التأويليّة. وذلك فضلا عن تصوّرها التقليدي لقضية الكونية، إذ نعلم أن كل الثقافات المتغلبة تدعي الكونية، كما هو حال الثقافة الغربية الآن، لكن الوضع الإسلامي لم يعد في العصر الحديث وضع تغلّب، لذلك يعيش التناقض بين ادعاء الكونية والدفاع عن الخصوصية. وأمام هذا المأزق تطرح ضرورة التفكير العميق في الوضع التأويلي نفسه وليس في تفاصيل المسائل التي يمكن أن تحلّ بالترميق والحيل الشرعية دون أن يكون ذلك مجزيا لتطبيع العلاقة بالعصر. وثمّة مجموعة من الأسئلة لا مناص من طرحها. أولا، إذا افترضنا الاجتهاد يقدّم حلولا جديدة مناسبة للعصر، فهل أن النخبة المثقفة ثقافة تقليدية هي المؤهلة للقيام بهذه المهمة؟ أما إذا نظرنا إلى الاجتهاد على أنه محاكمة معيارية للحلول المقدّمة أو التي يتبناها المجتمع فهل من حقّ النخبة المثقفة ثقافة تقليدية أن تفرض معاييرها على المجتمع كلّه مع أنها لم تعد تمثّل فيه الطرف الأكثر حيوية والأوفر عطاء؟ ثانيا، كيف تستقيم دعوى الاجتهاد، سواء بالاستنباط أو بالتعيير الأخلاقي، إذا تواصل غياب نظرية واضحة المعالم حول الأخلاق والتأويل، وأخفت الحوار الحرّ التعدّدي حول تحديد المصلحة؟ وهل يمكن صياغة نظرية في الأخلاق والتأويل خارج الفكر الكوني الحديث، بل هل يمكن إجراء حوار اجتماعي دون توفير فرصة التفكير الفردي خارج القيود الذهنية والمادية؟ ثالثا، هل المقصود بالعودة إلى الشريعة العودة إلى المذاهب الفقهية أم أن المطلوب تجاوز المذهبية نحو منظومة أخلاقية عامة تصبح محلّ اتفاق واسع وتقوم مقام شريعة روحية للمسلم في العصر الحديث، فيما تترك قضايا العصر التقنية إلى من هو أولى بفهم العصر وتطوراته؟ قد تبدو الإجابات عن هذه الأسئلة شبه بديهية في نظر البعض، لكن مسار التطور لم يتجه دائما في الاتجاه المتوقع، ويرجع ذلك إلى مجموعة من المعوقات النظرية والعملية. لقد قدّمت المحاولات المتعدّدة من الأفراد لكنها لم تتجاوز جميعا أن تكون اختيارات حدسية من صنف ما سمي قديما بالاستحسان. أما الدول التي قادت تجارب التحديث فقد اضطرت للمحافظة على نخبها التقليدية أو جزء منها وفضلت الاجتهاد التراكمي، ولمّا تطورت المراكز التعليمية الحديثة أنشأت دول ما بعد الاستعمار تشريعات وضعية لكنها ظلت في الغالب تحتفظ بازدواجية تشريعية في مستوى المبادئ المعلنة في الدساتير ولم توفر فرص النقاش والبحث حول القضايا النظرية والفلسفية للتشريع والتأويل والأخلاق، لا من موقع التراث ولا من موقع الفكر الحديث. فلذاك بقي الحديث عن الاجتهاد قويّا فيما ظلّت ممارساته ضعيفة، وكانت عودة الكلمة دون مضمون جزءا من أزمة العجز عن معالجة الأوضاع القائمة بأكثر من إعلان النوايا الطيبة. إن الصدمات المتكرّرة أمام تطورات العصر المتلاحقة وتحديات واقع معقّد وعنيف لم تكن لتسمح بالدرس المتأنّي للأمور بل كانت دافعا للبحث عن حلول سريعة وعملية لمواجهة التحديات، فاحتوت السرديات النهضوية حلولا ضعيفة المرتكز وإن عبّرت عن حاجات اجتماعية قوية. وكانت القضية الاستعمارية في ذاتها مشكلة المشاكل، لأن نفي التشريع الإسلامي كان يعني سياسيا نفي مقوّمات الدولة وفتح ذريعة الحماية والاستعمار. كما تضخّمت مقولة الاجتهاد فأضحت طريقة للفصل بين الإسلام والمسلمين وبين حاضر المسلمين وما يمكن أن يكون عليه مستقبلهم بعد الاستقلال. وازدادت هذه الحلول المتسرعة رسوخا في فترة بناء دول ما بعد الاستعمار وكان الدافع للمحافظة عليها هذه المرّة تحقيق الإجماع الوطني بإسكات النقاش الجاد حول القضايا الوطنية. فيترتّب على التمسّك بحلم التشريع الأبدي مخالفة تجارب الإنسان المعاصر. لقد كان طموح الإنسان الخيّر قديما تحقيق الكمال وإقامة مملكة الفضيلة التي اتخذت أسماء شتى. لكن تعدّد التصورات حول الكمال فتح قديما باب النزاعات والحروب لمدّة قرون ولم يتمكّن أي نظام للكمال أن يوحّد الناس على مبادئه، وكثيرا ما أصبح طلب الكمال ذريعة للبغي والسعي إلى خير الإنسان مطيّة لاضطهاده. من أجل ذلك أصبح طموح الإنسان الحديث أن يبلغ النظام الأقل سوءا والأكثر قدرة على تحقيق السلام بين الناس المختلفين في تصورهم للفضيلة. وأصبح التشريع إدارة للاختلاف وليس توحيدا للناس حول الفضائل. فإذا كانت المقاصد الشرعية مبادئ كونية عامة مثل حقوق الإنسان فهي مقاصد كونية، وإذا كانت خاصة بمجتمعات معينة فإن من مهمة الدساتير أن تجمعها وتضيف إليها ما استحدثه الإنسان المعاصر من قيم جديدة مثل المواطنة والمساواة بين الأفراد. إن تحقيق الوفاق الاجتماعي رهن تغيّر الرؤية من المطلقات إلى نسبيّة الأحكام. ويكفي أن نرى ما يحدث في العراق من خراب لندرك خطورة أن يتمسّك كلّ طرف بما تعوّد عليه ويسبغ عليه حلّة الدين ويطلب أن يكون هو الحكم والشرع بين الجميع. فلا يمكن أن يستقرّ المجتمع وتسلم الأرواح والأملاك إذا كان كلّ طرف فيه يدّعي امتلاك الحقيقة ويرى أنّه الأحقّ برسم الطريق والشريعة. لذلك كانت الخطوة الأولى الأساسيّة والحقيقّية لكل اجتهاد معاصر هي التسليم بأنّ أشياء عميقة قد تغيّرت في عالم اليوم وأن تجارب كثيرة ينبغي أن تقتبس من صنّاعه وروّاده كي لا نظلّ نراوح نفس المكان.