ما العلاقة بين الطفل والرواية؟ وما العلاقة أيضاً بين الطفل والرواية والقومية؟ جاء السؤال من تكرار شخصية الطفل في رواية القرن الثامن عشر، ورواية بدايات القرن التاسع عشر، كما كتبها ديفو وريتشاردسون ووالتر سكوت وديدرو وغيرهم. تأتي الإجابة الأكثر بساطة من علاقة الرواية بالأزمنة الحديثة، التي أنتجت الرواية وتركتها تنظر إلى زمن جديد زاخر بالوعود، يوحّد بين المستقبل والإنسان الشامل المتحرّر. يتكشّف الطفل، في المنظور الجديد، مخلوقاً مغامراً، متشرّداً، منتقلاً من صعوبة إلى أخرى، قائلاً ضمناً بإنسان يتكوّن في تجربته، رمى خارجه بالمعطى والمستقر والموروث، وذهب إلى مصير تصنعه إرادة فردية متمرّدة. وما"روبنسون كروزو"، كما رسمه دانييل ديفو، إلاّ صورة عن الإبداع الذاتي، الذي ينجزه صبي قرّر التحرّر من العبودية الأبوية. تأخذ الإجابة شكلاً أكثر وضوحاً حين النظر إلى"الأزمنة الحديثة"في إنجازاتها التاريخية الكبرى: المجتمع المدني، صعود القومية، تحوّلات الإنتاج الرأسمالي. فقد ولدت الرواية في زمن تصدع النظام الأبوي الذي يختزل العلاقة الأسرية بمرجع وحيد تجب إطاعته. لذلك كان في الطفل المشرّد، ديفيد كوبرفيلد على سبيل المثال، هروب من قيود الإخضاع الأسري وإعلان عن ميلاد سلطة جديدة، يأخذ الطفل فيها دوراً فاعلاً. جاء المجتمع المدني بپ"الأب الجمهوري"، إن صح القول، الذي يستبدل بالعائلة العضوية الشعب، وبالحاكم نظاماً من المؤسسات والقوانين لا يتشخصن في فرد أو عائلة. لم يكن"الأب الجمهوري"، من ناحية ثانية، إلاّ ترجمة للقومية الصاعدة، التي تنقض الأسرة والمعايير الأسرية بمقولة جديدة هي: المواطن الوليد، الذي يتمتع بحقوق وواجبات جديدة. ولعلّ دلالة المواطن، كما دلالة"قومية المجتمع المدني"، هي التي فرضت شخصية الطفل، المجسّدة للنقاء والجدّة والإخلاص، مقولة روائية تحكي عن الدولة - القومية، التي تعطي الطفل أمّاً جديدة واسعة، يشرف عليها أب من نمط جديد، يرفض الإخضاع ومصادرة الطفل وإمكاناته. عبّر الطفل روائياً، كما في كتابات فلسفية متنوعة، عن جوهر الدولة القومية، التي أعطت الطفل عائلة صالحة، هي بديل عن عائلة فاسدة قديمة. فإذا كانت القومية مرجعاً يتجاوز الولاءات الضيّقة المتوارثة، فإنّ العائلة، التي تضع المصالح الخاصة فوق المصالح العامة، إطار لتربية سيئة تعارض الغايات القومية. أصبحت الدولة القومية، القائلة بالحرية والمساواة، هي المربّي الجديد، الذي يبدأ بالطفل، ويرى فيه مادة المستقبل الأولية. ولهذا رأت الثورة الفرنسية في الملكة ماري أنطوانيت أمّاً غير صالحة، تلوّث جوهر الطفل وتبدّد براءته، وتطلّع جان جاك روسّو إلى"طفل طبيعي"، تتكشّف فيه مصالح المجموع، لا المصالح الأنانية الضيّقة. تلازم ظهور المجتمع المدني، كما صعود الدولة القومية، مع تطوّر العلاقات الرأسمالية، التي تجعل من المكان الإنتاجي الموسّع مرجعاً للزمن. فمعنى الزمن لا يسبق المكان، بل يأتي منه، أي من فعل الإنسان في مكانه، أو من قدرة البشر على التصرّف بمكانهم وبإمكاناته. ولذلك يقاس زمن روبنسون كروزو الحقيقي بآثاره بعد وصوله إلى الجزيرة، كما يقاس زمن البشر المنتجين بمنتوجاتهم المتنوّعة، التي تعيد تنظيم علاقات البشر وتعريف زمنهم. أخذ الطفل في رواية القرن الثامن عشر ورواية بدايات القرن التاسع عشر دلالات متعددة: فهو مرآة زمن يغاير الزمن الذي سبقه، ومرآة النزاهة والبراءة والتطلّع إلى الحريّة، وهو المادة الأوليّة المرنة القابلة للتشكّل والبناء والمندفعة إلى زمن مفتوح يؤمّن لها هيئة سويّة. وهذه الدلالات، المرتدة أبداً إلى زمن يتكوّن مملوءاًً بالوعود، هي في أساس العلاقة بين الرواية والخطاب القومي والطفل، أو في أساس العلاقة بين الطفل والسرديات القومية. وبهذا المعنى، فإنّ رواية القرن الثامن عشر، في شكلها الأوروبي، لم تكن رواية عن الطبقة الوسطى، بل عن أطفال الطبقة الوسطى، الذين تجسّد فيهم جديد حاسم غير قابل للارتداد... هذه الأفكار، كما غيرها، عالجها علاء الريّس في كتاب صادر بالإنكليزية عنوانه:"التابعون الأصليون: الطفل، الرواية، والقومية"الذي يمثّل لقاءً مثمراً بين الأدب والفلسفة. ذلك أنّ المؤلف طبّق فيه أفكار لوك وروسو وكونسنت على مادة روائية واسعة، منتهياً إلى اجتهاد متماسك قريب من النظرية الجديدة. إذا كان علاء الريس أنجز بحثه معتمداً على الرواية الأوروبية، أشار إلى نجيب محفوظ مرّة واحدة فقط، فإنّ في الرواية العربية ما يثير قضية"القومية والصبي الواعد"، ويثير معها أسئلة مغايرة كليّاً، لا تعوزها الأهمية على الإطلاق. فالصبي الواعد، كما يعرف دارسو الرواية العربية، لازم هذه الرواية من بداياتها إلى أوائل سبعينات القرن الماضي على الأقل. فقد جعل محمد حسين هيكل، في روايته"زينب"، من الصبي المتمرّد، وليس بعيداً من أفكار روسو، بطلاً لروايته. نقض الصبي"الهيئة الظالمة"، التي تقتل الجمال، بوعد مستقبلي، يحرّر العائلة من مفاسدها ويستأنف العلاقة العادلة بين الإنسان والطبيعة، مطمئناً إلى أسطورة الموت والانبعاث. وجاء توفيق الحكيم بعده وأعطى الصبي الذهبي موقعاً مسيطراً في"عودة الروح"، حيث الروح المصرية جميلة متوثّبة في كل الأزمنة، تنتظر صبياً موهوباً يعلن ذهاب الرقاد ومجيء الساعة المنتظرة. بعد أقل من عقد، في 1939، سيأتي الصبي من جديد في رواية توفيق يوسف عوّاد:"الرغيف"، مشيراً إلى مستقبل منير غير قابل للارتداد. وضع الحكيمُ الصبيَّ في مواجهة الاحتلال الإنكليزي، ووضعه الروائي اللبناني في مواجهة الاحتلال العثماني، وسيضعه عبدالرحمن الشرقاوي لاحقاً، في روايته"الأرض"، شاهداً على وحدة الاستعمار الإنكليزي والقوى المحلية المستبدة. لن يغيب الصبي المضيء طويلاً، فسيعود مع رواية الجزائري محمد ديب:"الدار الكبيرة"، كي يشهد على عسف الاحتلال الفرنسي للجزائر، ومع رواية غسان كنفاني"ما تبقى لكم"، معلناً عن غضب فلسطيني مقدّس يردي المحتل الصهيوني قتيلاً، ومع رواية المغربي عبدالكريم غلاّب"المعلّم علي"، ليسرد انتصار"القوى النقابية"على آلة الاحتلال الفرنسية... في كل هذه الروايات، كما في غيرها، كان الصبي الذهبي هناك، لامع العينين، يرى ويتعلّم ويشاهد ويتذكّر ويعيش ويحسن الحسبان قائلاً، بثقة، إنّ الحقبة المريضة تقترب من الأفول. أمّا الوعود التي كان يقول بها فتمثّلت ب: النهضة، الاستقلال، الانتصار، وجمالية الروح الشعبية ومجيء المستقبل المنير. غير أنّ حضور الصبي الواسع في الروايتين الأوروبية والعربية، لن يمنع اختلافاً شاسعاً بينهما، على مستوى المنظور والبنية، فقد سجّلت إحداهما تاريخاً معيشاً، وتحدّثت الثانية عن شيء يشبه التاريخ. كان الزمان في الرواية العربية سابقاً على المكان، فهو يأتي من ماضٍ مثقل بالعراقة واللغة، أو يأتي من مستقبل على صورة ماضيه، زمن لا يتكوّن لأنّه يحضر متكوّناً، فاصلاً بين الزمن الجديد المفترض والبنية الاجتماعية القائمة. والعائلة، باستثناء رواية زينب، مجلى للألفة والرضا، تحتل فيها"الأمّ"، أو الأخت، موقعاً رمزياً يؤمّن الوحدة والحماية، أو تكون فيها"الأنثى الجميلة"، دليل الخير الذي ينصر الأخيار. والصبي، باستثناء رواية محمد ديب، لا يتكوّن، حاله حال الزمن، يأتي جميلاً وينصرف جميلاً. وواقع الأمر أن صورة الصبي في الرواية العربية كانت تعبيراً، في أشكال متفاوتة، عن وعي رومانسي، ساوى بين الموجود والمرغوب. ولهذا اختُصرت العلاقات جميعاً في شيء يُدعى"الاستقلال الوطني"، كما لو كان الاستقلال المنتظر هو القومية والدولة القومية والمجتمع المدني وانتصار المكان على الزمان في آن واحد. يحتاج هذا السؤال، في صعوبته الأكيدة، إلى تأمّل أكثر اتساعاً. روائيان عربيان لم يؤمنا بأسطورة الصبي الذهبي، أولهما نجيب محفوظ الذي حكم بالموت على صبيّه في روايته"بين القصرين"، والعراقي غائب طعمة فرمان الذي فتح أمام الصبي، في"النخلة والجيران"، أبواب الجريمة. لم يخطئ محفوظ الذي تأمّل، وهو في طور الشيخوخة، خراب مصر في روايته"يوم قتل الزعيم"، وكانت بصيرة العراقي الذي مات في المنفى سليمة.