لا يُعطى الروائي في العالم الثالث الحرية التي يملكها الروائي في الغرب. هذا يجبر الروائي المحاصر بالقيود على المراوغة واللجوء الى الحيلة احياناً. لماذا عاد نجيب محفوظ الى أخناتون بعد اربعين عاماً على رواية "كفاح طيبة" 1944؟ الناقد الفلسطيني فيصل دراج يقدم هنا قراءة: أنهى نجيب محفوظ "مرحلته التاريخية" برواية "كفاح طيبة" 1944 مبتعداً عن حلم راوده طويلاً، بوضع تاريخ مصر كله في شكل روائي. وحين سأله جمال الغيطاني عن السبب الذي دعاه الى التخلّي عن مشروع بذل فيه جهداً طويلاً أعطى إجابة غامضة: "مات التاريخ"، أي طفئت الرغبة في استرجاع أطياف قديمة. أما السبب الذي دعا محفوظ الشاب الى الرحيل الى "مصر القديمة"، فتفصح عنه إجابة اخرى: "استعصاء الحاضر". كأن "القاهرة الجديدة 1945 مفتتح مرحلة جديدة، سهلة المنافذ ونظيفة الوضوح، يحاور الروائي قضاياها من دون جهد كبير. بعد أربعين عاماً عاد الروائي مجدداً الى زمن الفراعنة، في رواية عنوانها "العائش في الحقيقة" 1985 مستعيداً أطياف أخناتون، الذي نظر إليه باعجاب كبير في زمن سبق. والسؤال الذي يفرض ذاته هو: لماذا عاد محفوظ الى زمن فرعوني، طفئت الرغبة في كتابته منذ زمن طويل؟ والجواب لا صعوبة فيه منذ ان وشى الروائي به وتحدث عن "استعصاء الحاضر". بيد ان الجواب المفترض يتداعى سريعاً، ذلك ان الروائي الشيخ أدرك معنى الحاضر، وروّض ما استعصى عليه بكتابة روائية متواترة. الحاضر والماضي روّض الروائي ما استعصى عليه وبلغ نهايات الطريق، ولذلك يأتي الجواب من نهايات الطريق لا من حاضر بدا، ذات يوم، ثقيل الاقفال. والحاضر، الذي ردّ الروائي الى "أمجاد الفراعنة" ماثل في روايتين، ترحّلان الى "مصر القديمة" أسئلة راهنة لا قديم فيها. والرواية الأولى هي "عبث الأقدار" التي تحدّثت في "زمن ملكي" عن الاسرة الحاكمة واحتكار السلطة، وعن حق الشعب في كسر الاحتكار وتجديد السلطة. طويت الرواية اللاحقة: "رادوبيس" على اسئلة من الرواية الأولى، تمس السلطة العابثة، وتصل بين "العبث الملكي" والكارثة. ليس الحاضر، الذي تأبّى على الوضوح، الا "الحاضر الملكي"، الذي كرهه الروائي وأراد ان يهجوه فأنزل هجاءه على ملك فرعوني قديم، مستولداً الحيطة من المكر الروائي. ولهذا تُفسّر "العائش في الحقيقة" بزمن القول وبما أرادت ان تقوله، لا بمقارنة شكلانية بين "الرواية التاريخية" الجديدة وما سبقها، لأن "العهد الملكي" قضى منذ ثلاثين عاماً تقريباً. يكشف القول الروائي في "العائش في الحقيقة" عن دلالة العودة الى مرحلة ماضية، ويوطّد الشكل الروائي: أي شكل "الرواية التاريخية" الدلالة ويثبّتها. وتتراءى، في الحالين، ستة وأربعون عاماً من الكتابة الروائية، التي اختلفت الى أشكال روائية متعددة متجددة، واحتفظت بالسلطة موضوعاً ثابتاً لا يتوارى. ومع ان الرواية التاريخية المتأخرة، أي "العائش في الحقيقة"، احتفظت بالثابت السلطوي مرجعاً، فما جاءت به يختلف عما جاء في الروايات التاريخية السابقة. فليس فيها ما يحيل على واقع معيش، ولا في زمنها ما يلتمس من أخناتون مرجعاً وملاذاً. فقد تحرّرت ذاكرة الروائي العجوز من صورة الملك التركي "فاروق"، ومن أطياف جنود الاحتلال الانكليزي، ومن سلطة تفتش في ثنايا الصدور. بقي الروائي، وهو يمشي في شتاء العمر طويلاً، مع اسئلة قديمة وإجابات مرغوبة لا تجيء كاملة. وقع اختيار محفوظ على أخناتون، الملك المهزول الذي تختلط فيه سيماء الرجل بملامح الأنثى، ويحمل في صدره صلابة الأنبياء. ذلك الشاحب الناحل الذي يحب فيه الآخرون ضعفه، ويرون في ضعفه منفذاً الى ما يريدون، من دون ان يلتفتوا الى روح مضيئة لا تعرف الكراهية. ارتكن الروائي الى شخصية تاريخية تقصّى أخبارها، قبل ان يكتب "عبث الأقدار"، واحتفظ لها بذكرى مضيئة. جُذب محفوظ الى الفضيلة الكاملة، التي دعا اليها أخناتون، وجُذب أكثر الى المآل المأسوي الذي ينتظر دعاة الفضيلة. ينطقه في روايته "أمام العرش": فيقول: "وجدت الناس في ضلال وأنه آن لهم ان يواجهوا الحقيقة بكل أبعادها"، ويتركه يصف مصيره بالكلمات التالية: "لم يعرف ملك حياة أسمى من حياتي ولا مُني بنهاية أتعس من نهايتي". تفسّر جمالية الدعوة ومأسوية المآل السبب الذي دفع بالروائي الشيخ الى تذكّر أخناتون مرة أخيرة، وتأمل الحقيقة الشاسعة، التي يهرب البشر من مواجهتها. تميّز أخناتون، الذي عوّضته قوته الروحية عن ضعفه الجسدي، بأمرين: انصرف عن الشؤون الدنيوية انصرافاً كاملاً، منصاعاً الى نداء داخلي يأخذ بيده الي أرض الحقيقة، وتمرد على الدين الموروث القائل بتعددية الآلهة، مؤثراً عليه ديناً يقول بالتوحيد، غير ان هذين الأمرين أفضيا، على رغم نبلهما، الى ضعف الحكم وتآكل السلطة. وكان على أخناتون، الذي تزوّج بامرأة جميلة تدعى "نفرتيتي"، ان يدفع ثمن تمرده على الديانة الموروثة وعلى قواعد السلطة، وان يرحل عن الحكم والحياة معاً، بعد نعته بصفة "المارق" الذي سخف السلطة والبلاد. وواقع الأمر، ان في سيرة أخناتون إشكالاً متعدد الوجوه: فهو الضعيف في علاقته بشؤون الحياة والقوي في علاقته بالرسالة التي يدعو اليها، وهو الذي يجرّ البلاد الى التداعي وينادي بالعدل والمساواة بين البشر. بيد ان "المارق" يتكشف، من وجهة نظر أخرى، متمرداً وحالماً ومغترباً بامتياز. يتمرد على ديانة أجمع عليها الآخرون وأنكرها عقله، ويحلم ببشر يعيشون في الحقيقة ويفتشون عنها في شكل حقيقي، ويغترب عن مجموع بشري لم يعش تجربته ولم يدرك ما يقول، ولهذا كان عليه ان يحمل دعوته المشرقة وأن يرحل ملعوناً، الا من زوجة فاتنة آمنت به ولم تستطع ان تمنع عنه ظلم الآخرين. السلطة وخراب النفس يتوالد التمرد الذي لا يموت وينتهي المتمرد الى موت لا هرب منه، كأن في المتمرد نثاراً من ربيع تغتاله بقية الفصول. يبدأ محفوظ روايته بسطور متأسية عن "مدينة المارق"، التي كانت: "مغلقة الأبواب والنوافذ كالجفون المسدلة، لا تنبض بها حياة ولا تندّ عنها حركة، يجثم فوقها الصمت وتخيم عليها الكآبة وتلوح في قسماتها أمارات الموت". وينهي روايته بكلمات عن الذي بحث عن "حقيقة أخناتون" وانتهى الى جواب: "ولعي المتزايد بالأناشيد. وحبي العميق لتلك السيدة الجميلة". يندثر المتمرد ويظل التمرد عصياً على الرحيل، ويجد أخناتون من يدرك "حقيقته"، ولو بعد زمن. يأتي التمرد، كما يشير الملك المهزول، من تجدد الحياة الذي يطالب بتقويض ما تقادم، وتهزم المتمرد سلطة التقاليد التي لا يهزمها أحد. مهما تكن المفردات التي تصوغ أحوال المتمرد وخيبته الوشيكة، فإن رواية محفوظ ترى الى السلطة والتمرد وترى وراءهما معنى الحقيقة. ولعل جدل الحقيقة والسلطة، في بناء روائي حواري يقترح الزمن ويتحرر منه، هو الذي جعل محفوظ يتخذ من أخناتون مجازاً، يقرأ فيه مآل الملك الذي أراد ان يكون رسولاً، ومصير الحقيقة التي تغشى عنها الأبصار. ينتمي أخناتون الى زمنه وتنتمي قضيته الى كل الأزمنة، كما لو كان في أقداره المؤسية مرآة واسعة تتراءى فيها دلالة القيم الكبيرة مثل: الحقيقة والبحث عنها، العدالة وما تنتهي إليه. الإيمان والتضحية، السلطة وخراب النفس البشرية. فأخناتون، الذي دعا الى إله واحد، دعا الى قانون يطبق على البشر جميعاً، ويقبل به البشر وهو ينصتون جميعاً الى صوت الحقيقة. وبهذا المعنى، يكون محفوظ كتب عن معنى الحقيقة وصعوبات البحث عنها، وهو يكتب عن "رجلٍ" رحل في منتصف الطريق. ساوى محفوظ بين أخناتون وصعوبة الحقيقة، ووضع الحقيقة المؤنسنة في شكل روائي حواري، ينطق بالأحكام جزئية ومبعثرة. ففي الحقيقة المقصودة وما يحجب دائماً بعض وجوهها، بل أنها لا تظل حقيقة الا إن بقيت منقوصة، فتجلّيها كاملة إعلان عن موتها. ينثر محفوظ الشكوك وأحكامه في أكثر من مكان، كأن يقول: "لا نشهد من الزمان الا اللحظة العابرة، والعجز والموت يحولان بيننا وبين رؤية الحقيقة"، أو "سيدلي كل رجل بما يؤكد أنه الحق، بينما ينطق عن هواه"، أو "بل لعله أنقى المذنبين ضميراً وأصفاهم نية"، "إن السماء تمطر تجارب متناقضة". لا أحد يرى الحقيقة، وإن رأى البعض بدايات دروبها. وما موت أخناتون، وهو أنقى المذنبين ضميراً، إلا نتيجة لوهم تملّك الحقيقة. لا يكتفي الروائي بأفكاره المعلنة، فهو يعيد إنتاجها، في شكل أكثر اتساعاً ورحابة، في شكل روائي مطابق، مختاراً مجاز الرحلة. فاستقصاء الحقيقة رحلة شاقة، تبدأ بمدينة متربة أسدلت ستائرها، وتنتهي بأناشيد الطمأنينة العابرة. والرحلة - المجاز، التي طرق دروبها الكثر من البشر، هي الرحّالة المقيّد بخيوط الموت والعجز. تفضي الرحلة الى غير ما بدأت به، بعد ان يلتقي الرحالة ببشر ينطقون عن الهوى ويعتقدون أنهم يقولون الحقيقة، وبآخرين تحرروا من أزمنتهم الضيقة وانتبهوا الى ما لا يرى. وشخصيات الرواية، وهي 15 شخصية، مرايا متفرقة تنطق بتجارب متناقضة، يستولد الرحالة منها معنى سعيداً ومنقوصاً في نهاية المسار. اغلاق الدائرة ما الذي جعل محفوظ يعود الى أخناتون بعد أربعين عاماً؟ تأتي الإجابة من اتجاه وأكثر. تأتي أولاً من مجاز رحلة البحث عن الحقيقة، التي لا تنتهي الى الموت والتداعي، كما هو الحال في روايات محفوظ المختلفة، بل الى شيء قريب من الطمأنينة الحزينة. ولعل تأمل "العائش في الحقيقة"، بلا أحكام مسبقة، يكشف تطابقاً في التصوير بين الراوي والروائي، وتقارباً الى حدود التطابق بين ما يبصران وما أبصره أخناتون. كأن محفوظ العجوز أراد ان يختبر ما وصل اليه، متوسلاً شخصية تاريخية جذبته منذ زمن. وتصدر ثانياً عن المقولات الكلية التي أدرجها الروائي في روايته. فإضافة الى موضوع السلطة، وتكون بالقوة الطاغية أو لا تكون، رأى الروائي الى الحقيقة والخير والجمال والعدالة وطبائع البشر القابلة للفساد. فلا هو معنيّ بالحاضر المعيش ولا هو مكتف بأخناتون وزمنه، بل انه منصرف الى الزمن الواسع الذي يخلق القيم ويطردها في آن. يستبين الجواب، ثالثاً في شخصية أخناتون، التي تترك السلطة وتسير مطمئنة وراء المعرفة، وتجاهد وتموت سعياً في الوصول إليها. كأن أخناتون، يخير في أقداره، عن العلاقة بين الموت وامتلاك المعرفة، وبين الحياة وتأبى الحقيقة الذي لا ينتهي. وبهذا المعنى تكون "العائش في الحقيقة" رواية عن صعوبات الحقيقة لا رواية عن السلطة، كما اعتاد محفوظ ان يفعل، وان كانت السلطة وجهاً من وجوه الرواية. يؤكد محفوظ المعنى الذي يقصد إليه في الشكل الروائي الذي اختاره، وهو الشكل التاريخي الذي اتكأ عليه في "مرحلته الفرعونية". يعلن الشكل عن نهاية الرحلة الروائية، أو عن اغلاق الدائرة الروائية، حيث النهاية تعود الى البداية، والروائي يفرش صفحاته معلناً عما وصل اليه. واذا كان في الشكل الروائي ما يحقق اللقاء بين "عبث الاقدار" 1939 وهي الرواية الأولى، و"العائش في الحقيقة"، وهي الرواية الاخيرة، قائلاً بتحقق الحكاية، فإن في القول الروائي الاخير ما يعلن فلسفة محفوظ وتصوره الاخير للعالم والتاريخ: لا تنتصر الحقيقة ولا تموت، لأنها تعثر دائماً على من ينصرها ولا ينتصر. والحقيقة التي تنتصر زائفة، ذلك ان انتصارها يختلس منها فضيلة البحث، والحقيقة هي البحث المفتوح عنها لا أكثر. وقد يقال، بداهة، ان محفوظ كتب بعد رواية "العائش في الحقيقة" أكثر من عمل، وكتب قبلها أعمالاً عن السلطة والتاريخ والمعنى، "أمام العرش" 1983 مثلاً، غير ان تلك الاعمال كانت هوامش على أعمال سبقت وإضاءات لها و"بحثاً عن الحقيقة ما تخلى عنه محفوظ يوماً". وقد آثر الروائي، الذي أبصر ما لا يراه غيره، ان يضع رؤيته الأخيرة في رواية - شهادة، واصطفى أخناتون موضوعاً وزميلاً ومرآة صقيلة. أراد الروائي في الماضي ان يكتب عن أخناتون ونسيه، وما نسيه، مشدوداً الى حاضر واعد وبذيء المفاجآت. وحين عاف الوعود وغادرته الدهشة، عاد الى الملك القديم، يحدثه ويستمع اليه، ويكتبان معاً حكاية واحدة. ولن يقع الباحث، في خطأ كبير، إن قارن، على مستوى الرؤية، بين "عبث الأقدار" 1939 والرواية الاخيرة. فالرواية الأولى، على رغم قيمتها الفنية المحدودة، تشكل موقعاً نادراً لقراءة تصور محفوظ الشاب للعالم، حايث أعماله اللاحقة من دون تغيير كبير. و"العائش في الحقيقة" نص نظير يفصح، بلا إبهام، عن نظر محفوظ الى الوجود، بعد ان دخل الى العقد الثامن من عمره المضيء، وتابع النظر الى حقيقة تموت في المنفى.