قيمة كل نص أدبي من امكانات التأويل الكامنة فيه، التي تجعله قديماً - جديداً ومتجدداً باستمرار، تستجيب هذه الفكرة رواية دانييل ديفو "روبنسون كروزو" المنشورة عام 1719، التي سمحت بأكثر من قراءة: رأى فيها إيان واط تعبيراً عن "الإنسان الاقتصادي الحديث" الذي يربط بين العقل وتجديد الحاجات، وأعطاها ج.ب. هنتر تفسيراً دينياً عن الخطأ والتكفير والغفران. فبعد السقوط في الرذيلة تأتي المغامرة المرهقة التي تقود الى درب الفضيلة، وهي عند إيتالو كالفينو "الكتاب - الطلسم" الذي يقدم حلاً متخيلاً للتساؤلات الأخلاقية - الدينية لمجتمع صاعد يتطلع الى السيطرة على الكون، واعتبرتها مارت روبير رواية مفضلة لدى الأطفال والبرجوازية في آن واحد، لأنها تبرر المشاريع البطولية الأكثر غرابة وجموحاً. وهي أيضاً أسطورة، بالمعنى الذي ذهب اليه كلود ليفي شتروس، تسرد حكاية أصول المجتمع الذي ولدت فيه، أما أستاذ الحقوق فرانسوا أوست فيقدم في كتاب صدر أخيراً عنوانه: "قصّ القانون - منابع الخيال الحقوقي" تأويلاً جديداً، انطلاقاً من معنى القانون البرجوازي. بعد أن تمرد على العائلة وانقذف الى عالم الرذيلة زمناً سافر روبنسون في سفينة انتهت الى الغرق، وكان الناجي الوحيد الذي كتبت له ولادة جديدة. وحيد مع عزلته على شاطئ جزيرة مهجورة، فهو آدم جديد أو بروميثيوس حديث الولادة، فُرضت عليه الإقامة في وادي الدموع، بعد أن حُكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. لا شيء إلا ناج من الغرق وجزيرة لا بشر فيها، على المحكوم عليه أن يبحث فيها عما يبقيه على قيد الحياة. ولن تكون اقامته فوق الجزيرة الاستوائية إلا مشروعه العجائبي، الذي يكفل له حياة آمنة، وينصّبه سيداً على أرضها بلا منازع. يوقظ المشروع في الناجي الوحيد بطولة العمل، كما لو كان معناه الإنساني هو معنى العمل المرهق الدؤوب الصادر عنه، الذي ينظّم الجزيرة ويروض حيواناتها ويزرع أرضها، مزوداً ببضع أدوات عثر عليها في السفينة الغارقة. يحوّل المشروع الجزيرة الى "مشغل" قبل أن تصبح مستعمرة، صائرة قريباً الى دولة. انها الفضاء الأخضر الغريب الذي تخترقه ارادة عاتية تكشف، شيئاً فشيئاً، عن هوية مبدع حسن التنظيم، يسجل يومياته ولا ينسى أن يكون له تقويم روزنامة، يذكره أبداً بقيمة الزمن، ذلك ان الذي يسيطر على اللحظة يسيطر على التاريخ. لم يكن لدى الناجي الوحيد، حين وصوله الى الجزيرة، إلا سكين صغيرة يعالج بها غليونه، الى أن وضعت السفينة الغارقة بين يديه أدوات قليلة، هي رواسب المجتمع البرجوازي الذي جاءت منه. أدوات قليلة في جزيرة عذراء، لم تعرف قبل روبنسون صوت اطلاق الرصاص، يذرعها "رجل الرب الانكليزي" ويكتشف أبعادها، كي يشتق منها اقتصاداً فريداً، لا يقوم على التبادل، بل على الاكتفاء الذاتي، الذي يحقق تراكمه البدائي، باللغة الاقتصادية، خلال ثمانية وعشرين عاماً. لم يشأ كروزو أن يقيم اقتصاداً على النهب، كما فعل الغزاة الاسبان لأميركا، بل بحث عن اقتصاد آخر صادر عن جهده الفردي "المبدع" قوامه: تحويل المعطيات الطبيعية الموجودة في الجزيرة بواسطة العمل والتكتيك. لهذا كان عليه أن يتعلم المهن جميعاً وأن يخترع جميع الأدوات التي كان بحاجة اليها، ملخصاً في مساره مسار المجتمع الإنساني كله. إنه العقل الديكارتي فوق أرض الجزيرة: "أنا أعمل إذاً فأنا موجود"، بل انه فلسفة الانكليزي جون لوك التي تحض الإنسان على الدفاع عن ممتلكاته ضد التهديد الخارجي، الأمر الذي يجعل روبنسون متحوّطاً وشديد الحيطة، يكاثر سبل الحماية لمواجهة أي تهديد محتمل. في المسار الممتد من لحظة النجاة الى زمن ترويض الجزيرة، يحقق روبنسون فضيلة برجوازية عليا هي: فضيلة التملك، التي تتيح للإنسان أن يمتلك ما صنع، وأن يتصرف بجهده الذي تموضع في أشياء خارجية كثيرة. بيد أن هذه الفضيلة التي تأمر الإنسان بأن يصنع وحيداً ما يحتاج اليه تفضي، منطقياً، الى أخرى هي: فضيلة "اعادة امتلاك الآنا"، حيث الجزيرة كلها آية على الإنسان الذي يعي ما يفعل ويدرك غاياته بلا انحراف ولا نقصان. فلا موقع للصدفة ولا مكان للشرود والنسيان. والعلاقات كلها خاضعة للتصنيف والترتيب والنظام، التي تضع الأشياء جميعها في أمكنة محددة، كي تكون في متناول العقل الانتاجي، الذي يحسن اقتصاد الحركة والعمل والزمن والطموح أيضاً. ولأن التسمية من حقوق الخالق، يعطي روبنسون للجزيرة التي أعاد خلقها الاسم الذي يريد: "جزيرة اليأس". فلا معنى لامتلاك المواضيع الخارجية ان لم يمتلك الإنسان نفسه أولاً. فكل شيء بحسبان: حساب لاستنطاق الجزيرة وترويضها، وحساب للأيام والشهور طوال ثمانية وعشرين عاماً، وحساب للمسافة الزمنية الفاصلة بين الغرق المحتمل والسيطرة على الجزيرة. هكذا تعود صورة الإنسانية المبدعة في صورة "الإنسان الحسوب" الذي هو روبنسون كروزو. لم يكن صدفة، بهذا المعنى، أن يتزود روبنسون، كما رسمه بول فاليري، ب"جدول لوغاريتم"، أي جدول حسابي يعود اليه بين حين وآخر، وهو يهندس حياته والأشياء في آن واحد. أفضى امتلاك الجزيرة، التي سمعت للمرة الأولى في حياتها طلقات بندقية انكليزية، الى امتلاك الذات، أو الأنا، التي تخلق ما تحتاج اليه وتفعل ما تريد، وأفضت العلاقتان الى روبنسون - السيد، الحاكم المطلق على جزيرته. جاء السيد الحاكم من جهده، الذي أعطاه ملكية جدير بها، وأعطاه سيادة مطلقة على ما أنجز. وعلى هذا، فإن روبنسون لم يغتصب أرضاً ولم يمنع عن آخرين حقوقهم، بل حقق ما يتفق مع المادة 544 من القانون المدني الانكليزي الذي يسمح للإنسان بأن "يستخدم ممتلكاته ويتمتع بها بطريقة مطلقة". إنه الحق في الملكية اعتماداً على القانون الطبيعي، الذي يشتق الملكية من فعل السيطرة على المواضيع الخارجية، ويمنح الفاعل حرية التمتع بما صنع، بل ان كروزو لا يفعل إلا بما قال به ديكارت: "تصرف كما لو كنا أسياد الطبيعة ومالكيها"، معبراً عن روح الأزمنة الحديثة، أي عن علاقة جديدة بين المجموع والأفراد. فبعد أن كان الأفراد، في الأزمنة ما قبل الحديثة، يخضعون الى حاجات الجماعة، أصبحت الأخيرة، في الأزمنة الحديثة، تتأسس على ارادة الأفراد. فالمجتمع الحديث تأسس على مصالح الأفراد، وجاء القانون، الذي فرضته الثورة الفردانية، كي يبرر المصالح الفردية ويسوغها. بل ان هذا البرجوازي المدني يقيم علاقته، مع العبد الذي التقى به صدفة "جمعة" على عقد تعاقدي، فالعبد يُكثر من علامات الخضوع الراضي، والسيد يكفل حماية العبد ومده بوسائل الحياة. هكذا تأتي مشروعية المغامرة العجائبية من أكثر من اتجاه: تأتي من العمل الصبور لإعادة إعمار جزيرة مهجورة، ومن العقد التعاقدي الذي أبرمه مع العبد وأبيه وأناس آخرين، ومن المجتمع المنظم الذي خلقه وملأه بحيوانات أحسن ترويضها وببشر يخضعون بملء رغبتهم، ومن القواعد القضائية التي تطبق بشدة للدفاع عن مصالح الفرد - السيد، الذي هو مرجع الجماعة. لن ينسى سيد الجزيرة، الذي قبّل العبد قدميه أكثر من مرة، أن يعود الى الانجيل، بين حين وآخر، محصناً ارادة العمل بالعناية الإلهية. يسبق الفرد، في هذه السيرورة، الحكومة التي تحدد مصالحه وتدافع عنها، ذلك ان الحكومات ينشئها الأفراد، الذين يعرفون مصالحهم. بهذا المعنى، أنشأ روبنسون "حكومته" متكئاً في القانون الطبيعي، الذي يساوي بين الملكية والعمل، وعلى القانون الإلهي، الذي يبارك المبدع الذي على صورة خالقه، قبل أن يصل الى سلطات تشريعية وتنفيذية تعينه حاكماً مطلقاً على الجزيرة. بدأ روبنسون من فلسفة برجوازية: "أنا أفكر إذاً فأنا موجود" ووصل الى صيغة لاحقة تقول: "أنا أريد إذاً فأنا لي حقوق"، انه الرجل المنتصر الذي يحدد معنى الدولة والقانون، كما جاءت به الفلسفة البرجوازية، وكما تعين في القوانين المشتقة من هذه الفلسفة. قرأ فرانسوا أوست، وهو فيلسوف وحقوقي، رواية دانييل ديفو من وجهة نظر القانون، وأضاءها بنصوص أخرى لكافكا ونصوص عن فاوست، متأملاً أيضاً "انتيغون" في وعيها المتمرد. قراءة رهيفة ترى الى الرواية في خصوصيتها الأدبية، وتتعامل معها بمقولات علم لا يجاورها، يرى في الرواية حكاية عن ولادة القوانين وتشكلها في أزمنة مختلفة. انها "القراءة البينية" الراشدة، التي تؤكد تكامل المعارف وتساندها، على مبعدة من تصورات مأخوذة بمراتب المعارف، تصفق لصوت وحيد وتزجر بقية "الأصوات الهابطة".