ما المدخل الصحيح الى فهم الكاتبة النمسوية إلفريده يلينك؟ ما مفتاح شخصيتها التي تبدو للوهلة الأولى لغزاً عصياً وكتلة متشابكة من التناقضات؟ "عازفة البيانو" كاتبة لاذعة السخرية تخصصت في انتهاك المحرمات والمقدسات، وفي الوقت نفسه امرأة بالغة الحساسية، خجولة، انطوائية إلى حد المرض العصبي. أديبة لا تطالع سوى الروايات البوليسية ومجلات الأزياء، وتقضي الساعات الطوال أمام شاشة التلفزيون. وعلى رغم عشقها العزلة، فإنها لا تعيش في برج عاجي، بل تشارك أحياناً في التظاهرات السياسية، كما تعبّر بانتظام عن رأيها في الموضوعات الآنية على موقعها على شبكة الانترنت. حصلت يلينك على كل الجوائز المهمة في النمساوألمانيا وصولاً إلى جائزة نوبل، على رغم ذلك ليس هناك إجماع نقدي أو جماهيري على أدبها. يلينك قادرة على خلق حالة من الاستقطاب، فهي إما تثير الإعجاب البالغ أو النقمة الشديدة. إنها في نظر البعض "عملاقة اللغة الألمانية" التي"حققت إنسايبية موسيقية"في أعمالها، ولكن آخرين يعتبرونها روائية تكتب أدباً سطحياً محلياً بورنوغرافياً. كيف يمكن الجمع بين كل هذه التناقضات؟ الإجابة عن هذا السؤال تحديداً هي إنجاز الكتاب الصادر حديثاً عن دار روفولت الألمانية، وهو أول كتاب يتناول سيرة الحاصلة على جائزة نوبل عام 2004. بأسلوب شيق، ومعلومات غزيرة تجمع بين تفاصيل سيرة حياتها والتحليل الأدبي لأعمالها، نجح مؤلفا الكتاب النمسويان فيرينا ماير ورولاند كوبيرغ في تسليط ضوء كاشف على معظم الجوانب في شخصية الكاتبة النمسوية. في البدء كانت الموسيقى. الموسيقى الكلاسيكية هي النقمة التي حلت بالطفلة إلفريده التي ولدت يوم العشرين من تشرين الأول أكتوبر عام 1946 في مدينة فيينا، المدينة التي عاش فيها هايدن وموتسارت وبيتهوفن ويوهان شتراوس. في سن السادسة قررت الأم المسيطرة أن تتلقى ابنتها دروساً في البيانو. في الحادية عشرة نجحت الفتاة في اجتياز اختبار القبول في كونسرفتوار فيينا الذي يتقدم إليه الآلاف من كل أنحاء العالم. كانت أصغر طالبة في المعهد العريق، ولذكائها وموهبتها لفتت على الفور أنظار أساتذتها. في تلك الفترة لم تكن لدى الفتاة ساعة واحدة شاغرة. كانت تذهب إلى المدرسة لتتلقى دروسها ثم تنهمك في التمرين على آلات موسيقية عدة مثل البيانو والأرغن والكمان والغيتار. كانت تتمرن، بينما أقرانها يحيون. هذه الفترة بكل تفاصيلها المدمرة للطفولة يطالعها القارئ في روايتها شبه السيرة"عازفة البيانو". وربما كانت حياة إلفريده يلينك ستسير كما سارت حياة بطلتها إريكا كوهوت في الرواية المشهورة وهي قالت يوماً: إريكا هي الفتاة التي كنتُها وكان الأمر سينتهي بها مدرّسة للبيانو أو عازفة من الدرجة الثانية في أحد المعاهد الموسيقية - لولا الأزمة النفسية التي أصابتها ووصلت إلى ذروتها عام 1968. آنذاك شلها الخوف من الناس، وقيدها الرعب من المستقبل، فانزوت في بيتها لمدة عام كامل، لا تعزف، لا تدرس، بل حتى لا تخرج إلى الشارع. عام من العزلة الكاملة. كانت هذه الفترة جحيماً بالنسبة الى الفتاة. للمرة الأولى تعيش ليل نهار مع أمها المتحكمة وأبيها الذي كان يعاني مرض ألزهايمر منذ إحالته إلى التقاعد. كانت حياة الأب تراجيدية بكل معنى الكلمة، فهو يهودي نجا بأعجوبة من الملاحقة النازية لزواجه من نمسوية"آرية"، ثم عمل كيميائياً في خدمة النظام الذي يريد تدميره وإفناء شعبه. ولعل هذا التوتر المستمر الذي عاش فيه خلال سنوات النازية هو ما أودى به في ما بعد إلى الجنون. تحتم على الابنة أن ترى الأب يتحول تدريجاً من إنسان بالغ الذكاء إلى معتوه كامل. هذا أمر لم تغفره الابنة لأبيها، ومثل كثير من الأبناء انحازت إلفريده إلى الطرف الأقوى، إلى الأم التي كانت الابنة تحبها وتكرهها في آن. وإذا كانت الكاتبة قد صفّت حسابها مع الأم في ما بعد في"عازفة البيانو"، فإنها لسنوات طويلة لم تستطع أن تتحدث عن الأب الذي لم تذكره في روايتها إلا في مشهد يتيم بالغ القسوة، مشهد نقله إلى المصحة العقلية في سيارة الجار الجزار الذي ينقل عادةً"أنصاف العجول":"كان يوماً من تلك الأيام الربيعية المتألقة ببهاء خبيث عندما قامت السيدتان كوهوت بتسليم الأب المعتوه، الذي لم يعد يعرف رأسه من قدميه، إلى المصحة... يمنعون عنه أشياء كثيرة، ويمنعونه عن فعل أشياء كثيرة. ما يفعله خطأ، هذا شيء ليس جديداً بالطبع، فهو قد اعتاده من حرمه المصون". بعد سنوات وصفت الكاتبة السنوات الأخيرة في حياة أبيها التي اتسمت بالتقوقع والصمت، وهو شيء آلمها للغاية لأنها كانت تحب لغته الفصيحة العتيقة، وتحب سخريته اللفظية. فقدَ الأب اللغة، وانسحب تدريجاً من الحياة إلى أن فقدَ الحياة. ولعل الأهمية الكبيرة التي توليها يلينك للغة نابعة من هنا، أو كما قالت ذات مرة:"كل شيء لغة، واللغة هي كل شيء". في الفترة التي تحتم عليها أن تلزم المنزل اكتشفت إلفريده يلينك الكتابة طريقاً للتحرر من مخاوفها. تخلصت الفتاة من قوالب التمرين الجامدة ووجدت لذة في الكتابة الإبداعية. مما كتبته آنذاك أرسلت نصوصاً شعرية ونثرية إلى مسابقة للكتّاب الشباب، ففازت بجائزتين عن النثر والشعر معاً. في عمر الثانية والعشرين نشرت يلينك أولى رواياتها"ما نحن إلا طُعم يا حبيبي!"التي أثارت اهتمام النقاد وهجوم المحافظين في آن واحد وهو أمر سيلازمها طوال حياتها الأدبية. ويجد النقاد في باكورة أعمالها السمات الرئيسة في أدبها: تراجع الحدث إلى الخلفية، الاهتمام الشديد بالتفاصيل، استخدام الاقتباسات والعبارات الشائعة ثم تحويرها أو السخرية من خواء مضمونها. ما قرأته يلينك يتداخل مع ما سمعته وعايشته وما تؤلفه. نص إلفريده يلينك كالكونشرتو: آلة منفردة تحاور أوركسترا من عشرات الآلات الموسيقية المختلفة. أما دافعها إلى الكتابة فهو ? كما قالت في ما بعد - الكراهية،"الكراهية العميقة المتجذرة، كراهية عامة تشمل كل القضايا الاجتماعية وكل ما أعاني منه. إنني أحاول نقلَ كل ما أعانيه في حياتي الخاصة إلى مستوى عام". في عام 1972 انتقلت الكاتبة الشابة من فيينا إلى برلين، من عاصمة الموسيقى إلى عاصمة التمرد الطالبي، وهناك قضت سنوات من الفوضى والإباحية والتجريب والتحرر من قبضة الأم الحديد. سنوات النظام الصارم التي تعلمت خلالها الموسيقى تركت أثراً باقياً فيها ككاتبة. في مطلع حياتها كانت الكاتبة تستيقظ في السادسة صباحاً، تفطر بسرعة، ثم تجلس إلى المكتب. لا تقرأ صباحاً، بل تبدأ على الفور والذهن صاف في استكمال ما بدأته في اليوم السابق. لمدة ساعتين تنهمك في الكتابة ثم تتوقف وتواصل العمل اليومي المعتاد، فتكتب المقالات وتقرأ أو تذهب إلى المقهى. وفي المساء تواصل القراءة أو تتفرج على التلفزيون. وإذا كان معظم الأدباء ينعون الثقافة الجادة في عصر التلفزيون، فإن يلينك من عشاق الفرجة. التلفزيون بديل الواقع - هذا أمر يناسب الكاتبة المنعزلة. إثر النجاح النسبي لروايتها الأولى كتبت يلينك أعمالاً عدة أصابت نجاحاً محدوداً، مثل رواية"العاشقات"1975 ومسرحيتها الأولى"ماذا حدث بعد أن هجرت نورا زوجها"أو"دعائم المجتمع"وهي مستمدة كما يتضح من العنوان من مسرحية"بيت الدمية"لإبسن. النجاح الحقيقي حققته يلينك بروايتها"عازفة البيانو"التي صدرت عام 1983 وتحولت عام 2001 إلى فيلم مثّلت فيه الفرنسية إيزابيل أوبير دور العازفة. منذ صدور الرواية ارتبط اسم إلفريده يلينك في ذهن القارئ بالأم، تماماً كما يفكر المرء في الأب عندما يسمع اسم كافكا. لكن علاقة الكاتبة بأمها كانت أكثر تعقيداً مما جاء في الرواية. عانت إلفريده يلينك كثيراً من سطوة أمها، غير أنها تدين لها بالكثير. كانت الأم توفر لها منذ بداية حياتها ككاتبة الأجواء المناسبة للعمل، وتقوم عنها بكل الأعباء الحياتية، وكانت الابنة تقابل ذلك بالتقدير والعرفان. عندما مرضت الأم رفضت الكاتبة أن تنقلها إلى بيت للمسنين، وراحت تعتني بها لسنوات طويلة مثلت عبئاً كبيراً عليها. وعندما توفيت الأم شعرت الابنة بالراحة، وتنفست الصعداء، إلا أنها سرعان ما افتقدتها، وسرعان ما عاودتها مخاوفها القديمة. رواية الاستحالة بعد"عازفة البيانو"كتبت يلينك روايات أخرى حققت بعض الشهرة مثل"طمع"2000 وروايتها الضخمة"أبناء الموتى"1995 التي تناولت فيها بالنقد تاريخ النمسا النازي. ولكن تبقى رواية"لذة"1989 عملاً فريداً في حياتها الأدبية، فهو العمل الذي حولها نجماً ساطعاً وحقق لها نجاحاً مجزياً. ولعل المسؤول عن الضجة الهائلة التي صاحبت ظهور الرواية هي يلينك نفسها، ذلك عندما اتصلت بها وكالة الأنباء الألمانية في صيف عام 1986 وسألتها عما تكتبه، فكانت إجابتها أنها تكتب"نصاً نثرياً طويلاً عن الشهوة. ومنطلقي هو استحالة الجمع بين الشهوة الذكورية والأنثوية"، وأضافت"عازفة البيانو"أن كتابها سيكون نوعاً من"البورنو الأنثوي"أو نصاً عن"الممارسة الجنسية الأنثوية بعين أنثى". هذه العبارات أضحت خلال الأيام والأسابيع التالية المحور الذي تدور حوله المقالات في الصحافة الأدبية، وراح الجميع يترقب صدور هذه الرواية"المضادة للبورنو"، ما جعل يلينك تندم على تصريحاتها، لا سيما أنها كانت لم تزل في مرحلة البداية. أثارت هذه الرواية عاصفة من الانتقادات بسبب إباحيتها، غير أنها حققت أرقام مبيعات قياسية، لم تحققه رواية أخرى لها. يلينك والمسرح قدمت إلفريده يلينك عدداً من النصوص المسرحية التي ربما أصابت نجاحاً نقدياً مثل:"سحاب - وطن"و"مسرحية رياضية" أو ضجة كبيرة بسبب تعرضها لتاريخ النمسا النازي أو صعود تيار اليمين المتطرف "مسرح بورغ"و"الاستراحة أو كلهم يفعلونها". وعلى رغم أن مسرحياتها عموماً غير جماهيرية، فإن كبار المخرجين يتسابقون على تقديم نصوصها على خشبة المسرح، ليس لعبقريتها، بل لأنها تمنحهم مجالاً واسعاً للابتكار، كما أن الكاتبة لا تتدخل أبداً في التنفيذ، ولا تكتب حتى إرشادات للمخرج. مسرح الكاتبة النمسوية نسيج من نصوص متداخلة، في المعتاد من دون قصة أو حدث أو حبكة، البطل هو اللغة. ولهذا كله، ليس من المستغرب أن يكون مصدر النجاح المسرحي الأكبر في حياتها نصاً اقتصر دورها فيه على الترجمة من الفرنسية، ونعني هنا مسرحية"فضيحة شارع لورسين"للفرنسي أوجين لابيش، أحد أبرز كتاب الكوميديا في القرن التاسع عشر. كان النجاح الساحق للترجمة سببَ إحباط كبير للكاتبة التي فكرت عندئذ في التوقف عن الكتابة للمسرح. غير أنها لم تتوقف. وتتمحور أعمالها الأخيرة حول مواضيع سياسية، كمسرحيتها"بابل"التي تتناول فيها حرب العراق وفضيحة التعذيب في أبو غريب. تتسم علاقة إلفريده يلينك بوطنها بتوتر دائم. مثل مواطنها توماس برنهارد واجهت يلينك تلك التهمة المطاطة الشائعة في بلادنا العربية أيضاً، تهمة"تشويه سمعة الوطن"أو الإساءة إليه. يلينك من المنتقدين الدائمين لشعبها الذي يعتمد - كما ترى - الكبت والإزاحة شعاراً للحياة. تتهم الكاتبة مواطنيها بنسيان الماضي النازي وإلقاء الذنب كله على الألمان، وهو ما عالجته في"أبناء الموتى"وفي"مسرح بورغ". كانت يلينك أيضاً هي الأعلى صوتاً في محاربة صعود نجم التيار اليميني المتطرف في النمسا بزعامة الشعبوي يورغ هايدر. ولعل من أسوأ الأشياء في النمسا - بحسب ما يذكر مؤلفا الكتاب - هو انتقاد النمسويين، لا سيما إذا كان النقد صادراً عن نمسوي. أما أن يقوم النمسوي بانتقاد بلده وشعبه في الخارج فهو جرم لا يغتفر. فإذا فعل المرء ذلك في ألمانيا، فإن الأمر يقترب من الخيانة العظمى. وهذا تحديداً ما فعلته يلينك أثناء تسلمها جائزة هاينريش بُل في كولونيا عام 1986 مثيرةً ضدها عاصفة من الانتقادات والاحتجاجات. وفي أواخر الثمانينات قادت يلينك حملة ضد الرئيس النمسوي كورت فالدهايم بسبب ماضيه النازي:"لقد نسيت ماضيك، ونحن نود أن ننسى أنك رئيسنا". وربما تنبع حدة هجومها على فالدهايم وأمثاله من المقارنة مع أبيها الذي فقد عقله لأنه لم يستطع النسيان، نسيان الفترة التي قضاها يعمل في مصنع ينتج الأسلحة لنظام يلاحقه هو شخصياً. وإذا كانت النقمة دافع يلينك إلى الكتابة، فإن أحد أهداف الكتابة لديها هو مقاومة النسيان. هذا هو الدرس الذي تعلمته من أبيها الذي حاولت ? من دون جدوى - طويلاً نسيانه.