لم ينته التاريخ، ولم تنته الأيديولوجيا بنهاية الاتحاد السوفياتي والمعسكر"الاشتراكي"كما زعم الزاعمون. تحرك التاريخ أكثر، وارتفع منسوب الأيديولوجيا في العلاقات الدولية بدرجة أكبر، فشهدنا فصولاً من صراعات حادة ومسلحة تدثرت بعناوين ثقافية وأيديولوجية أو بررت نفسها بها، مثلما شهدنا طوراً جديداً نوعياً وغير مسبوق من استخدام الموارد الثقافية والوسائط الايديولوجية الحديثة: المعلوماتية والإعلامية السمعية - البصرية الفضائية في المعركة الشاملة من أجل تحقيق الهيمنة. ثم لم يلبث الفكر السياسي الليبرالي الأميركي خصوصاً أن دخل ساحة المواجهة الايديولوجية مسلحاً بانتصارات الرأسمالية والليبرالية في الاقتصاد والسياسة من باب البحث لهما عن موضوع جدي وعدو جديد بعد زوال العدو التقليدي النظام الشيوعي. وسريعاً سيتحول اسم باحث اميركي متواضع التفكير - هو صمويل هنتنغتون - الى أحد أنبياء الليبرالية الغربية، في عهدها الجديد الوحشي، حتى من دون أن تكون أفكاره و"أطروحاته"بحجم ما كان لدى فرنسيس فوكوياما من اتساق و"عمق"! وإذا كانت قيمة"أطروحة"هنتنغتون بالنسبة الى القوى الليبرالية المحافظة، المنتصرة في الحرب الباردة ضد الشيوعية، تكمن في تزويدها فكرة جديدة عن الأخطار المتوقعة التي تهدد انتصارها ومكتسباتها الناجمة عن ذلك الانتصار، وتُجيب عن حاجتها الى عدو جديد - تتحرك بمقتضى وجوده آلة السياسة والحرب وتتبرر به مغامرتهما من جديد - بعد زوال العدو الشيوعي السابق، فإن قيمتها - بالنسبة الى موضوعنا الأيديولوجيا - في أنها نسخت وجبَّت فكرة"نهاية التاريخ"و"نهاية الأيديولوجيا"التي ادعاها أيديولوجيو الليبرالية غِبَّ انتصارها على الاتحاد السوفياتي والنظام الشيوعي، بل في ذهابها الى التشديد على القول صراحة ان العالم مُقبل على نوع جديد من الصراعات الحضارية والثقافية، أي - بلغتنا - الصراعات التي جوهرها الأيديولوجيات. وهكذا لم تكد"نهاية التاريخ"و"نهاية الأيديولوجيا"تبشران الليبرالية بانتصارها الكونيّ والتاريخي الحاسم على أعدائها، حتى أتى"صدام الحضارات"الهنتنغتوني يُنذرها بجولة جديدة من الصراعات التي لا تقبل تسوية لأنها من طبيعة دينية وثقافية. وكان على الإعلام الغربي أن يلتقط هذه"الأطروحة"وأن يحولها الى ثقافة جمعية والى رأي عام بعد أن يزوّد المخيال الجماعي الغربي صورة نمطية مخيفة عن العدو الجديد الإسلام، الصين، ويتعهدها بالتكرار وإعادة الانتاج في أشكال مختلفة قصد الترسيخ ووشم الذاكرة الغربية بها. وما كان الهدف من هذه الصناعة الإعلامية اختراع عدو جديد فحسب، يعوض عن غياب العدو التقليدي - ولو أن ذلك مما كان يحتاجه الغرب الامبريالي لتبرير سياساته أمام شعوب - وإنما كان الهدف في المقام الأول الاستذراع بهذا العدو الجديد لشرعنة استمرار النزعة العسكرية والإنفاق الدفاعي المفرط من أجل خوض مزيد من الحروب، لاتصال ذلك بمصالح قوى المجمّع الصناعي الحربي وشركات النفط التي تجد في أراضي هذا العدو الجديد وثرواته ضالتها. حين يستعيد المرء شريط الحرب الايديولوجية الإعلامية التي خاضها الغرب الامبريالي ضد عدوه الجديد، سيلحظ انه ميز فيه بين خطرين وبرمج أداءه على نحو يؤجل المعركة ضد خطر بعيد المدى - مثلته الصين في التقدير الاستراتيجي الأميركي ومعها روسيا بدرجة ثانية - ليتفرغ للمعركة ضد خطر آني يمثله الإسلام في نظره. وقد بلغ ما عُرف بالإسلاموفوبيا ? في أداء الآلة الإعلامية الغربية - الذروة في العهد الجمهوري المحافظ الجديد منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وذلك للأسباب التي ذكرنا أعلاه = مصالح قوى الصناعة الحربية وشركات النفط، لكنها الفوبياء التي ستشهد اندفاعتها الأكبر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001. من يقرأ الخطاب الإعلامي الغربي الأميركي بخاصة حول الإسلام، وعلى وجه التحديد ذاك الخطاب المرتبط بمراكز القرار، سيلاحظ أن مواطن الاشتغال الإعلامي على صورة الإسلام أربعة: الإسلام"بما هو"رديف للانغلاق وعدم الاعتراف بالآخر وقيمه، والإسلام"بوصفه"دعوة الى العنف والقتل وإهدار حياة المخالفين، والإسلام"بوصفه"ديناً يعادي الحرية وحقوق الإنسان، ثم"من حيث هو"استراتيجية كونية تهدد الاستقرار والأمن في العالم! لقد أتت الحملة السياسية والإعلامية الكثيفة على"الحجاب"في بلدان الغرب تختصر الصراع ضد الوجه الأول المخترَع للإسلام كرديف للانغلاق ولرفض الاندماج في مجتمعات الآخر أو التشبع بقيمه. ومثلما تحاشت تلك الحملة الحديث عن الحق في الاختلاف - وهو من صميم القيم الكبرى للحضارة الغربية - وعن عدم جواز التدخل في خصوصيات الأفراد وأذواقهم في المأكل والملبس، كذلك كشفت عن تهافت قضيتها أمام حقيقة تدعو الى الرثاء: كيف يمكن خرقة تضعها صبية على رأسها أن تهز منظومة القيم في مجتمع غربي؟ وكيف يمكن أي مواطن غربي يهودي أن يُطلق ضفائر شعره ويضع قلنسوة على رأسه - وهي رمز ديني كالحجاب - من دون أن يرى في ذلك مساس بقيم الغرب العلمانية؟! في الأثناء، انصرفت الحرب الإعلامية على الإسلام والمسلمين الى تشويه صورة المقاومة ووصمها بالإرهاب لمجرد أنها تحمل السلاح وتقاتل، متعمدة حجب الأسباب التي تدفع قوى مثل"حزب الله"و"حماس"و"الجهاد"و"كتائب شهداء الأقصى"والمقاومة الوطنية العراقية الى حمل السلاح من أجل تحرير الوطن من الاحتلال. وقد أتقنت الآلة الأيديولودجية - الإعلامية الغربية استغلال عمليات تنظيم"القاعدة"في نيروبي ودار السلام ونيويورك وواشنطن ومدريد والسعودية والأردن والجزائر، والتقاتل المذهبي في العراق، وتفجيرات لندن وتونس والدار البيضاء واسطنبول... الخ، للخلط بين أفعال المقاومة الوطنية فلسطين، العراق، لبنان وبين أعمال الإرهاب، ولتشويه صورة المسلمين والعرب منهم خصوصاً، وتصوير الإسلام كأنه عقيدة تدعو الى العنف والقتل، مستفيدة من فقر المعرفة الغربية العامة بالإسلام، عقيدة وتاريخاً وحضارة. وتلازم ذلك مع سعي حثيث في تفسير ظاهرة"الإرهاب"بغياب الديموقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية وبسيادة برامج تعليمية تكرّس ثقافة الكراهية وتنتج أجيالاً من الناقمين على قيم المجتمعات الغربية. وكان هذا التعيين لمصادر الإرهاب إيذاناً بإطلاق استراتيجية هجومية جديدة على بلدان العالمين العربي والإسلامي تحت عنوان"الإصلاح"، الذي يبدأ بتغيير مناهج التعليم والتضييق على المدارس والبرامج الدينية من دون أن ينتهي بإحلال نخب"ليبرالية"أو ليبرالجية عربية في السلطة عبر إسقاط مظلي لها من فوق وحيث لا أحد سمع يوماً بأسماء"رموزها"الذين سُلقوا سلقاً!. وإذ أسهبت هذه الآلة الإعلامية الغربية في رد الظاهرة الى مجتمع ودولة يعانيان من محنة للحريات وحقوق الإنسان، لم تفسر لرأيها العام الغربي لماذا يقوم مواطنون بريطانيون مثلاً ? وهم نشأوا في مناخ الحريات والديموقراطية - بعمليات إرهابية في قلب عاصمة وطنهم لندن؟! وأخيراً، كان على تلك الحملة الإعلامية أن تتفرّغ لتخويف البشرية من مخاطر امتلاك العرب والمسلمين العراق، إيران أسلحة استراتيجية نووية أو كيماوية أو بيولوجية، لأن ذلك سيسمح لهم باستعمالها ضد إسرائيل والغرب مدفوعين بمشاعر الكراهية وبالقيم الثقافية والدينية التي تدعو الى العنف وقتل غير المسلمين! أو لأن ذلك يهدد بامتلاك"الإرهابيين"لتلك الأسلحة واستعمالها ضد الغربيين. وفي الأحوال كلها، لا ينبغي السماح للعرب والمسلمين بحيازة سلاح استراتيجي لأنهم يهددون به السلم والاستقرار في العالم ولأنهم أتباع عقيدة تعتبر العالم غير المسلم"دار حرب"يجب إخضاعها بقوة! هكذا جرت صناعة صورة شيطانية لهذا العدو الجديد للغرب = الإسلام في وسائط الإعلام الغربية لتبرير ضربه. وقد جرى ضربه بقسوة عسكرية لا سابق لها في الوحشية منذ تدمير ألمانيا واليابان وصولاً الى احتلال بعض أمصاره أفغانستان، العراق، الصومال وتهديد بعض آخر منها سورية، السودان، إيران...، من دون أن ننسى حملات التضييق الأمني على العرب والمسلمين في المهاجر الأوروبية والأميركية، والاستفزاز المستمر لمشاعرهم الدينية في بعض صحافة الغرب. ولكن، لماذا نجح الإعلام الغربي في تجييش رأيه العام ضد الإسلام والمسلمين أكثر من تجييشه ضد الصينوروسيا استطراداً؟. لذلك - بداءة - علاقة ببرمجة المعركة مع الأعداء، وحيث المعركة مع الصين تحتاج الى إعداد أطول. غير أنه يتعلق - ثانياً - بأنماط ردود الأفعال لدى المسلمين ولدى الصين على الحملة الأميركية. لقد نجحت الصين في تجنيب نفسها أي صدام مبكر مع الغرب. أما العرب والمسلمون، فلم يُحسنوا ذلك إن لم يكونوا قد تبرعوا لها بالذرائع كما فعلت"القاعدة"!، ناهيك بأن خطاب المقاومة لم ينجح في تبديد الصورة النمطية التي كوّنها الإعلام الغربي عن المقاومة في المخيال الجماعي الغربي. * كاتب مغربي.