تأخذني الذكرى إلى اواسط السبعينات. وقتها كانت إيران تعتبر نفسها شرطي الخليج، وكان الشاه محمد رضا في أوج فخره على كرسي الطاووس المذهب. وقتها أصر صديق خليجي مرموق في نقاش مكثف على أهمية أن نتعلّم الفارسية! تصريحات شاه إيران وقتها كانت ساخنة ليس تجاه دول الخليج التي كان يقول علناً انه يحميها، بل وتصريحاته المضادة تجاه الغرب. إيران في اواسط السبعينات كانت قوة يتحسب لها الجميع. وفي آخر عام 1977 قررت حكومة الشاه أن تنشئ جامعة تسميها جامعة الخليج. من اجل تنفيذ تلك الفكرة كلف الشاه جامعة هارفارد الأميركية أن تخطط لإنشاء تلك الجامعة. واختير كاتب هذه السطور للمشاركة في الحلقة النقاشية الممهدة للفكرة، وهكذا كان اجتماع آخر كانون الاول ديسمبر من ذلك العام. وصلت إلى طهران متأخراً يوماً واحداً عن مجموعة هارفارد التي كانت تضم أيضا أكاديميين من الجامعة الأميركية في بيروت والقاهرة الذين سبقوني إلى مدينة جميلة في شمال إيران هي مازندران مقر الاجتماع. صباح ذلك اليوم البارد من شتاء طهران وعلى وجه التحديد في آخر من عام 1977، سمعت جلبة خارج الفندق في ساعات الصباح الأولى، وعندما نظرت وجدت تظاهرة من مجموعة لا تتجاوز الخمسين شخصاً يهرولون، وخلفهم ضعف عددهم تقريباً من الشرطة معتمرين الخوذات جادين في اثرهم. كانت هناك تظاهرة في طهران لا اعرف سببها إلا أن الملفت أنها كانت في الصباح المبكر. ولما التحقت بفريق الاكاديميين في اليوم نفسه، بعد أن انتقلت بالطائرة إلى مازندران حدثت الجميع بما رأيت، فما كان من المجموعة الإيرانية في الاجتماع، وكان عدد اعضائها خمسة تقريبا من أساتذة الجامعة الشباب، الا أن اخذ كل واحد من افرادها يسألني منفردا: ماذا رأيت هذا الصباح؟ فأحكي الحكاية من جديد، وجميعهم من دون استثناء كانوا يهزون رؤوسهم باستغراب. مستحيل قيام تظاهرة في طهران، ما هذا إلا من تدبير السافاك، وهو الاسم الذي كان يسبب الرعب في ذلك الزمان حيث كان جهاز الاستخبارات القوي لحكومة الشاه. الحدث الذي وصفته كان في اليوم الأخير من عام 1977 والاجتماع تم في الأسبوع الأول من عام 1978 وقتها وفي الأسبوع نفسه تقريبا زار جيمي كارتر رئيس الولاياتالمتحدةطهران وشرب نخب"واحة الاستقرار في الشرق الأوسط": هذا بالضبط ما تناقلته الأنباء وقتها. بعد ذلك بسنوات نقل آخر سفير بريطاني في عهد الشاه عن الأخير قوله بعد أن اشتدت التظاهرات في طهران ومدن إيرانية أخرى في الأشهر الأولى من ذلك العام: هل هؤلاء المتظاهرون ضدي أم هي تظاهرات تأييد لي؟! بعد ذلك المشهد الذي لم يصدق زملاء أكاديميون إيرانيون أن تحدث تظاهرة واحدة في طهران، وفقط خلال اثني عشر شهرا كان روح الله الخميني قائد الثورة هو المتحكم في العهد الجديد في طهران وكل إيران. رويت هذه الرواية كي أصل إلى نتيجة أن قوة البلدان ليست في وقوفها متحدية للعالم أو طموحاتها في الجوار، كما يحدث الآن في طهران، وبصرف النظر عن الأسباب المختلفة التي جمعت تحدي الشاه وبطريقته في وسط السبعينات إلى تحدي احمدي نجاد وبطريقته في فجر القرن الواحد والعشرين. التحدي الحقيقي هو تحدي الانجاز الاقتصادي الذي لا تقوم دونه دولة تريد أن تحقق لشعبها التقدم. مع الاختلاف الكبير إلا أن المقارنة قد تستحق التفكير، وهي مقارنة تحدي الاتحاد السوفياتي مع قدرته الاقتصادية الضخمة أمام المعسكر الرأسمالي. في نهاية المطاف فإن الاتحاد السوفياتي سقط من الداخل وتعثرت إمبراطوريته بعد ذلك في أوروبا الشرقية وفي وسط آسيا. التحدي الإيراني اليوم يشبه إلى حد كبير ذلك التحدي الذي تراجع، ليس لسبب غير انه لم يستطع أن يحتمل السباق الاقتصادي. الإمبراطوريات الكبرى التي تفشل في إقامة نظام اقتصادي يعزز من مكانتها السياسية، هي عملاق يقف على رجل خشبية، سرعان ما تتآكل تلك الأرجل الخشبية ليسقط العملاق على ظهره من دون حراك. اليوم نرى القوة الدولية تتجمع في الخليج وتبحر الاسلحة البحرية والبوارج الحربية جيئة وذهابا في هذا البحر الضيق، كما تضيق الحلقة على إيران في الدوائر الدولية ومن خلال قرارات متلاحقة في مجلس الأمن، وفي الوقت نفسه نجد أن المبعوثين الدوليين يخطبون ود إيران ويطالبون بالاجتماع بها تلو الاجتماع من اجل إقناعها بتغيير السياسة التي أعلنتها. ربما هنا يصيب إيران ما أصاب العرب أو بعضهم من قبل، في تفسير كثرة الوفود والحراك الدولي لخطب الود، وهو تحرك دافعه ليس الخوف من"القوة"المتصورة، بل هو محاولة لتجنب الصراع. فإذا اعتقد الايرانيون أن الخوف من قوتهم هو السبب فإن ذلك يؤدي بهم إلى خطأ سياسي كبير. كل ذلك هو وهم القوة التي يبدو أنها قوة كلامية لا تسندها قاعدة اقتصادية أو صناعية تستطيع أن تقف أمام الضغوط الدولية. وفي التقدير أن الكثير من تلك المحادثات الماراثونية هو فقط لإشباع غرور ساسة لا يعرفون ما إذا كانت المظاهر الشعبية حولهم هي مشجعة لسياساتهم أم دافعة إلى الصدام من اجل التخلص منهم. الفصل الأخير يبدو انه يكتب الآن في الصراع الإيراني الغربي، وهو فصل يبدأ أوله في أماكن بعيدة عن طهران وعلى وجه الخصوص في لبنانوالعراق، فهناك تعد العدة لبدء اللكمات الأولى في هذا الفصل الذي لا بد أن ينتهي أخيراً في إيران. بين الولاياتالمتحدة وبين إيران حرب غير معلنة ساحتها الآن العراقولبنان، وقد تتطور تلك الحرب إلى ما لا تُحمد عقباه. تعلّم الفارسية الذي بدا أن بعض المتفائلين قرر أن يقوم به في العشرين سنة الأخيرة، كما كانت أيام عظمة الشاه، هو الآن في طريق الاستغناء عنه. فكما لم يجد الشاه مكاناً لتطبيق نظريته في التفوق الفارسي القومي، لن يجد حكام طهران متسعاً من الوقت لتطبيق نظريتهم في الحكم القائمة على المرجعية الدينية. كلا الاثنين أخطأ الطريق لأن أبجدية العظمة تكمن في اقتصاد قوي يستمر لعقود طويلة، وفي ديموقراطية غير مقيدة، لتحقيق تنمية حقيقية تفيد الناس. وقتها يبقى للعظمة مكان للتحقق، ويصبح تعلّم الفارسية فرض عين. * كاتب كويتي