تتجدد صبيحة الخامس من حزيران يونيو عام 1967، مع كل اطلالة صبيحة عربية، تعاند وتقيم فتأبى ان تذهب الى سكون السرد، لأنها ما زالت تضيف يومياً، الى خيوط الرواية العربية الثقيلة. تداول الرواة الحكاية بلسان قديم واحد، ولمّا يملّ السامعون - الجماهير، من التلذذ باستعمال اذنهم الواحدة. التواطؤ مشترك: حاكم راوٍ، غائب تاريخياً، ومستمر سياسياً، الدلالة على وجوده، اقامته على حراسة ذاكرة غابرة... ومحكوم مشدوه ما فتئ يشحن احتماله، في مقام السماع، من نوستالجيا يوتوبيا متخيلة... يمارس الطرفان فعل الجمود فوق مسرح الانكسار الواحد، ويروجان لاحتمال الحركة، بالاستدارة، دائماً، الى وعود... الماضي السحيق!! ما الذي بقي من الهزيمة الحزيرانية الشهيرة؟ لا أقل من"حزيرانات"متتالية!!، لقد تشظى جوهر الهزيمة - الأم، فأنجب ابناءً واحفاداً وسريعاً، اشتد ساعد"النكسة"فأطيح بالآمال الغاضبة، التي خرجت بالصوت والقلم وبالجسد والسلاح، لتكتب على طريقتها: ان غفلة العرب في ذلك الخامس من حزيران لم تكن إلاّ كبوة!! لذلك فليس للحدث العابر ان يصير الى سقوط مريع راسخ... بعد عقود مريرة، قالت الايام وقائعها، فتناثر ركام الكلام والنصوص... والى الآن، لم ينتبه بعض"الآفلين"الى ان دجى النص ليس إلاّ سراباً في ازاء شمس الوقائع العنيدة. كانت هزيمة، تلك التي نزلت بالعرب، انقسم حولها الناس فكراً وسياسة، وذهبوا في تأويل معانيها وفي شرح اسبابها مذاهب شتى. حالف الصواب شيئاً من التحليل، وجفت الحقيقة اشياء من التعليل، لكن الحقيقة التي"أتت أكلها"هي تلك التي جسّدها العجز عن ابتكار الردود، في الفكر، وعن اقتراح الخطط في العمل. تلك كانت الحصيلة العامة، التي لا تلغي تاريخاً حافلاً كان له طعم آني حلو، لكن تراكمه"الكمي"لم يفلح في تبديل"كيف المرارة"العربية العامة. ربّ قائل، على شيء من صواب، ان طبيعة الردود على هزيمة الخامس من حزيران، كانت نوعاً من"الاستثناء الثوري"الذي عاد ليسلس القياد الى"قاعدة المحافظة"العربية العامة. لقد تعمق"نص الهزيمة"في فترة الانشغال بالمناظرات، صار الوهن الذي اورثته الانظمة العربية لمجتمعاتها اوضح، وفي هدْي الوضوح، صار جلياً اكثر، ان المجتمع العربي قد اجتاز مسافة خطرة، فابتعد وأوغل في القبول باقالته من قضاياه. لحثّ الذاكرة، وللانتباه من"قيلولة فكرية"نسأل اليوم، وبعد عشرات الاعوام على ذكرى"النكسة": ماذا بقي من معنى الوحدة العربية؟ هل ما زالت حلماً"قبالة العين"يفترش المسافة"الواحدة"ما بين"محيط هادر وخليج ثائر"؟! بل ما الزرع الذي نما في متاهاتها؟ وماذا يعني التقدم والتحرر والحرية، انداد الوحدة واشباهها، وثمارها المشتهاة؟... في ثنايا كل جواب، تطالعنا"استقالة الوضع العربي"من همومه العامة، وتتراءى لنا بجلاء مفاصل ارتداده الطوعي، او القسري الى شجونه الخاصة، باختصار تطالعنا"القطريات"الراسخة التي كانت موضع هجاء كل قول وحدوي، كما كانت موضوع كل فعل تحرري لا يرى خلاصاً للعرب إلا في دنيا وحدتهم الجامعة. كانت هزيمة حزيران قوس التضاد وسهمه. أصيبت مصر، فعادت مصرية، وارادها البعض القليل فرعونية... وعلى هذا المنوال استعاد كل وطن عربي وطنيته الداخلية، أو هو أعاد اكتشافها، فأقفل النقاش جدياً، حول عناصر القوة الوطنية وحصاناتها العروبية. اما العروبة، كرابطة، وثقى، فبات الاخذ بها فعلياً، دليلاً على الانتقاص من"الاستقلالية الوطنية"!! مورست السيادة في الداخل، بتشدد لافت، لامس احياناً حد"الشوفينية"، وأُخذ بالانفتاح على الخارج، بمرونة محيّرة، للفوز"بجائزة"الحداثة، ولنيل"سفعة الرضى"الديموقراطية. كان الفصام سيد الموقف، والازدواجية عنوانه. عطاء خارج الحدود للاستئثار بدواخلها، وكلام مرصّع في المحافل الدولية، للاستمرار في كتابة"غث الكلام"فوق كل الاوراق الداخلية... كان من نتيجة ذلك ان تباعدت الرؤى بين جوار وجوار، وان تبددت الثقة بين داخل وداخل، لذلك، لم يكن غريباً ان تتعمق هزيمة العام 67 وان تستشري، وان تستعرض مفاعيلها في لبنان مرة، وفي الخليج العربي مرات، هذا من دون ان تنسى المرور في فضاء افريقيا العربية!!... ومن حقلة الى حلقة، كانت تكتمل عناوين"الاقالة العربية"العامة، وتمحى عناوين الحضور العربية الخاصة، من جداول الاولويات المشتركة، لتستبدل، وحسب الطلب، بما يعوّض عنها، من سمات حضور سياسي أو اقتصادي أو اعلامي -اعلاني، يتناسب واحكام العصر الجديد، ولا يتناقض مع معطياته. في هذا السبيل، سبيل التطابق مع العصر!! أقيلت فلسطين! من يذكر اليوم خطب استعادتها والدعوة الملحاحة، الى تحريرها؟ من يعلن الحاجة الى ولادة نظامه باسمها؟ من يعلن روابطه بالعروبة من خلالها؟ من يجسر الهوة بين مشرق العرب ومغربهم بمتن قضيتها؟ لا اجابة سوى تلك التي يقدمها الشعب الفلسطيني، بدمه المتوحد، وبصوته الفريد... يقدم النموذج العراقي، عينات"اضافية"يشفي غليل اسئلة، ويقدم علقم اسئلة اخرى، ومثل العراق قالت بلدان عربية كثيرة كلمتها، عندما زُفّت لاقدارها، فاستفردت واهملت، وافردت امام انظار"الاسرة العربية"التي مرض اكثر من عضو فيها"فلم تتداع له سائر الاعضاء". في ساحة حزيران، تقف اسرائيل شامخة منيعة، حالفها الزمن الذي كنّا نروج لخذلانه لها، ربما كان لواء الامل العربي معقوداً لمواكب نهضة سريعة مقبلة، او لاستدراك فوات اصاب العرب على حين غرة. بدا ان الزمن الفسيح صار سجون افكار، وزنزانات اضطهاد، ومقاهي تمرغ بين الخيبات المتكاثرة. لم يبق من الزمن سوى رجعه البيولوجي، ولم يصمد في دنيا العرب سوى سلاح التكاثر!! عاد للفحولة اعتبارها، فهي قنبلة العرب النووية وسلاحهم الاهم، في مواجهة ترسانة اسلحة الدمار الشامل الاسرائيلية. ثمة اصرار على المواجهة، ومعاندة يلزمها كي تتطور وتلامس آفاقاً، نفض دمار الداخل اولاً وقبل شيء، يبدأ"رفع الركام"بمراجعة شاملة، تعمل مبضعها في جسد النظام العربي المتسرع عجزاً، والمثقل فساداً، والمعيب اخلاقياً، والمهين سياسياً، الصاد عن طرق ابواب الحداثة والاسهام في مسيرة الابتكار الانسانية. المراجعة اياها، ليس لها ان تغفل اكداس الافكار"التغييرية"المتكلة، وعليها ازاحة اساليب التكرار العقيمة التي ادمنتها"النخب"العربية، مثلما عليها تعرية مسوغات الانزياح التي تمارسها بين ايديولوجيا واخرى، وفنون التراقص بين"نوتات"العزف المتبدلة من دون انقطاع. بعد عقود من هزيمة الخامس من حزيران، ثمة مساواة في المسؤولية عن العجز، تتقاسمه النخب الحاكمة وتلك الطامحة الى الحكم - لذلك تم فراغ كبير يتحمل العروبيون من كل المشارب، مسؤولية حصوله ومسؤولية التأخر عن المبادرة الى ملء ساحاته الباردة!! كاتب لبناني