مع توالي الانكسارات والهزائم في حياة الأمة، وصولا الى احتلال بغداد في 2003، يمكن رصد اتجاهين بارزين على صعيد الخطاب العربي المعاصر الذي يجعل من الانكسارات والهزائم موضوعا له، والذي يظل مسكوناً بهاجس البحث عن سبل النهضة وعن أقوم المسالك. الاتجاه الاول ويمتد من هزيمة 1948 واحتلال فلسطين وصولا الى احتلال بغداد. فعلى طول تلك المسافة ظل هذا الخطاب لدى مفكرين عرب مرموقين ينشد الكارثة ليحصد النهضة، فقد كانت نكبة عام 1948"نعمة"كما كتب نديم البيطار، لأن من شأن توالي النكبات أن يقودنا الى البحث عن"الفعالية الثورية للنكبة"، كما يشهد على ذلك كتابه المعنون بهذا العنوان. ومن شأن النكبة أن تقودنا أيضا الى القوانين الثورية بما يمهد لإنقلاب حقيقي في حياة الامة. الموقف نفسه يمكن رصد تواتره في خطابات عدة، بخاصة عند احتلال بغداد، اذ راح بعضهم يدعو أن ينزل بنا مزيد من الكوارث والهزائم، علّها تكون بمثابة صدمة، فمن شأن الصدمة، كما ذهب الى ذلك هواة التحليل النفسي من العرب، أن توقظ العقل وتدفع بالعرب الى النهضة. الإتجاه الثاني رأى ان النكبات فاقت كل النعم التي يمكن استخلاصها، كما علّق عبدالله العروي على أطروحة نديم البيطار، ولذلك آثر البحث عن الهزيمة في جذور الأيديولوجيا العربية المعاصرة. وفي هذا الإطار جاء كتاب العروي"الأيديولوجيا العربية المعاصرة"الذي ترجم الى العربية اثر نكسة حزيران يونيو 1967، ليفضح تناقضات الخطاب الأيديولوجي العربي الذي ما انفك عن الالتحام بمتناقضاته وعن خطابه الأحادي البعد الذي يرد نكبات الأمة وتخلفها الى عامل واحد، إما"لبعدنا عن الإسلام"كما يقول الشيخ، أو"لبعدنا عن الصناعة"كما يقول داعية التقنية أو بسبب الاستبداد كما يقول الليبرالي الذي سيبعث من رماده قبل احتلال بغداد بقليل ليبشرنا من جديد بأن الاستعمار هو الحقيقة الوحيدة في تاريخنا، كما دأبت على ذلك خطابات ليبرالية عدة يمكن رصدها بدقة في خطابنا المعاصر. وعلى طول المسافة الممتدة من"الأيديولوجيا العربية المعاصرة"كتاب العروي، الى كتاب محمد جابر الأنصاري"مساءلة الهزيمة"الصادر مع بداية الالفية الجديدة، مرورا بكتاب"الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة" لياسين الحافظ الصادر مع نهاية السبعينات من القرن المنصرم، لم يكف الخطاب العربي عن طرح التساؤل النهضوي المضاعف: لماذا تخلفنا نحن وتقدم الآخر، بخاصة أن الآخر لم يعد يعني الغرب وحده، بل بات يعني أمما أخرى كاليابانيين وغيرهم. وهذا ما يفسر تلك المقارنات المكثفة بين العرب والغرب، وبين العرب واليابانيين، ثم بين العرب والفيتناميين كما كتب ياسين الحافظ في وقت مبكر عن"التجربة الفيتنامية"، والتي ترجح من كفة الآخر على حساب العرب في إطار حال سيكولوجية هي شاهد على يأس مستحكم في نفوس الباحثين من إمكانية نهضة العرب، وهذا ما يفسر هذا التحول مع بداية الألفية عن السؤال المضاعف: لماذا تخلفنا نحن وتقدموا هم؟ الى التساؤل النكوصي المضاعف: هل يحسن العرب التفكير؟ ولماذا فقدوا حيويتهم الثقافية؟ كما يطرح خلدون حسن النقيب في كتابه"فقه التخلف"الصادر مع بداية الألفية الجديدة التي أثبتت أننا ما زلنا"في قعر برميل النفط"، والتشبيه لمحمد جابر الأنصاري. كانت مساءله الهزيمة تكتسي طابعا ملحا من النخبة التي بنيت عليها آمال كبيرة في عقلنة المجتمع العربي بكيفية شاملة ومسترسلة كما طالب العروي، لكنها كانت تستبطن ضربا من جلد الذات ودفعا بها في اتجاه الانتحار. ألم يقل ياسين الحافظ في مقدمة"الهزيمة والايديولوجية المهزومة"1978 أن فكرة الانتحار راودته مرارا بعد هزيمة حزيران 1967 لولا بقايا ثقة ميتافيزيقية بالشعب العربي ولولا زغب القطا الذي لا يعرف لمن يتركهم؟ وهذا جزء من سيكولوجية الانسان المقهور كما عودنا هواة التحليل النفسي العربي الذين يزعمون تشخيصا لكل مشاكلنا. يعترف محمد عابد الجابري في كتابه"المشروع النهضوي العربي"أنه، وفي كل مرة يتساءل فيها عن المستقبل العربي وعن إمكان النهضة، يجد نفسه أمام كومة من الضباب تدفعه الى النكوص على عقبيه والدعاء على من يقف في وجه المستقبل بالموت والزوال. لكنه سرعان ما يستدرك بأن ذلك من شأنه أن ينحي فعل الإرادة الذي لا يمكن له أن يقوم إلا بمساءلة حقيقية للهزيمة، مساءلة تنهض كما يرى الأنصاري على قاعدة من ثقافة المراجعة. فمن شأن ثقافة المراجعة أن توقف التراجع وأن تنحي جانبا ما يسميها خلدون حسن النقيب"ثقافة التخلف وثقافة الذل"، تمييزا لها عن تخلف الثقافة الذي يمكن استدراكه، أما ثقافة التخلف التي تؤبد التخلف وتمجد الطاعة فيجب أن تتوجه اليها الاسئلة وكل الحفريات، القديمة منها التي لا تزال ناجعة في قراءتها لظاهرة التخلف، والجديدة التي من شأنها أن تجعل من مساءلة الهزيمة رؤية معرفية تنحي جانبا الرؤية الأيديولوجية التي ما زالت تعشش بين ظهرانينا، والتي تدفع في إطار مساءلتنا للهزيمة الى مزيد من الهروب الى امام. ألم يقل الجابري في تشخيصه لعيوب الخطاب العربي المعاصر، أن هذه شيمة الخطاب الأيديولوجي العربي في عقود النكبات؟ كاتب سوري