حكاية طويلة تنتظر حكاية طويلة من بياض الشعر واللحية، ولكن خمس مذكرات! وول سويينكا يهز كتفيه باستسلام كأنها فرضت عليه: "لست شغوفاً بالمذكرات ولا أحب الكتابة عن نفسي". في"أكي"وپ"إباوان"تحدث عن نفسه بصيغة الغائب، وفي الجزء الأخير"يجب أن تنطلق فجراً"الصادر في بريطانيا عن دار مثيون ينتقل بين الأنا والحرفين الأولين من اسمه. اختار العنوان من قصيدة له تعد المسافر ب"أعاجيب الساعة المقدسة"وتابع مسيرة بلاده ورحلته التي بدأ يكتب عنها منذ ربع قرن. يستلهم أوغون، إله الحرب والمعدن والتنكر والإرادة الصلبة لدى جماعة يوروبا التي ينتمي إليها، ويقول إنه بات"مجازاً لوجودي المبدع". ناشط سياسي وداعية حقوق الإنسان منذ نصف قرن، ونقلت رحلته مزاج بلاده منذ 1960، عام استقلالها عن بريطانيا. لم يعجب رؤساء نيجيريا بنضاله من أجل الديموقراطية فسجن في عهد غاوون ونفي في عهدي بابانغيوا وأباشا، وحكم عليه الأخير بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى وفرض عليه أوباسانجو الصمت. وفاة أباشا في 1998 مكنته من العودة الى وطنه الذي"ما كان يجب أن أتركه"وكانت الدافع الى كتابة"يجب أن تنطلق فجراً". يبدو مرحاً، نزيهاً، عنيداً، غضوباً، محباً للحياة والمآكل الشهية والنبيذ الفاخر. يروي كيف حاول سراً ترتيب وقف النار بين حزب الكونغرس الوطني الافريقي وزعيم الزولو في 1991. كيف مثّل دور باتريس لومومبا، رئيس الكونغو المخلوع، في فيلم فرنسي من دون أن يعرف الفرنسية. كيف سافر الى البرازيل ليسرق قناع يوروبا برونزياً ويكتشف بعد السرقة انه نسخة صنعها المتحف البريطاني وليس أصلياً. كيف يفتخر، مع شكه، بكونه الفائز الوحيد بجائزة نوبل الذي سجل أغاني منها"أحب بلادي"التي أصدرها في 1981 قبل فوزه بالجائزة بخمسة أعوام. كيف سيطر على إذاعة تحت تهديد السلاح، واستلقى ليال عدة بلا نوم متسائلاً ما إذا كان العقل البشري قادراً على تحمل الدعاية المسمومة كتلك التي بثها ضده نظام أباشا. منذ 1958 كتب عشرين مسرحية وثلاث روايات وخمس مذكرات وسبعة دواوين وأربعة كتب من المقالات. لا يملك المزاج اللازم لاعتناق المسيحية أو الإسلام، ويعتبر نفسه محظوظاً لأنه تعلم في انكلترا قوة الخرافة وطبيعتها المزدوجة، كونها وليدة الجماعة وصانعتها معاً، على يد أستاذ جامعي"وثني"."عزز قوة العقائد التقليدية يوم حاصرتها المسيحية والإسلام والحس الزائف بمحتوى المدنية الغربية". الليل كله ليلة تدور رواية هاروكي موراكامي الصغيرة الجديدة في عالمه المألوف السوريالي الحافل بالهلوسة والتهديد."بعد الظلام"الصادرة بالانكليزية عن دار هارفل سيكير، بريطانيا، تبدأ منتصف الليل وتنتهي قبل السابعة صباحاً في مكان تزدوج طبيعته."بين الوقت الذي يغادر فيه آخر قطار وذاك الذي يصل فيه أول قطار يتغير المكان: ليس هو نفسه نهاراً". ماري تقرأ في مقهى وتلتقي عازفاً يعرف شقيقتها عارضة الأزياء. تركت المدرسة هرباً من تحديد الأسرة الأدوار فيها كأنها ترسم أبعاداً نهائية لكل من الشقيقتين: ماري ذكية وآري جميلة. الأولى تتقن الصينية ويطلب منها الترجمة للشرطة بعد تعرض بنت ليل صينية للضرب في"فندق حب"على يد زائرها، تبزغ صداقة بين الفتاتين لكن رجلاً فظاً على دراجة نارية يصحب بنت الهوى بسرعة ويقضي على الوعد. في هذه الأثناء يدور التلفزيون من تلقاء نفسه في الغرفة التي تنام فيها أري منذ شهرين. يظهر على الشاشة رجل يضع قناعاً شفافاً على وجهه ويراقب الفتاة النائمة نوماً"عميقاً متعمداً كأن جسدها كله لف بشمع دافئ". يختفي الرجل وتنتقل الفتاة الى الشاشة ويتخذ بؤبؤ عينيها"لوناً موحشاً مثل غيوم رمادية عكستها بحيرة هادئة". تذهب ماري والعازف قبيل الرابعة فجراً الى حديقة عامة ويتحدثان عن الفتاة الصينية وأري. يسمي موراكامي فندق الحب"ألفافيل"تيمناً بفيلم لجان لوك غودار عن مجتمع استبدادي يدار بالكومبيوتر الذي يمنع المشاعر. يقول العازف أن أري قد تكون في مكان يشبه ألفافيل حيث تتعرض للتعذيب مثل الفتاة الصينية من دون أن يرى أحد دمها أو يسمع صراخها. لا يعيدنا الظلام أطفالاً مذعورين فحسب، بل يفتح هوة خطرة حقيقية قد تبتلعنا. المرايا تعكس صورتنا وتحتفظ بها بعد ابتعادنا عنها فتتحرك هذه وحدها على نحو لا نقوم به. هاتف نقال يرن بإصرار ويبث رسالة تتكرر:"قد تنسى ما فعلت لكننا لن ننسى". وشاشة التلفزيون تغطي ما يبدو عالماً آخر وتحث الرواة في"بعد الظلام"على الصراخ:"اركضي، نصرخ فيها. ننسى القاعدة التي تتطلب منا الحياد. صوتنا لا يبلغها، وهذا غني عن القول، لكن أري تدرك الخطر بنفسها". تتصدر أعمال موراكامي لائحة الأكثر مبيعاً في البلدان الناطقة بالانكليزية حيث يتمتع بأنصار مخلصين لعالمه الذي يجمع الخارق والعادي. كتب كوميديا سوريالية قاتمة في"مطاردة الغنم البري"وتراجيديا واقعية في"غابة نروجية"والحنين الماورائي في"حبيبة سبوتنيك". قد تكون"بعد الظلام"عن قلق الشباب وبحثهم عن مكان في المجتمع، وانسحابهم الذي يتخذ النوم مجازاً، وتجدد الحياة ورتابتها بلغة سينمائية تنتقل بين حركة وأخرى من دون تفسير. الكوميديا الأفريقية يتجنب بييي بانديلي الصراعين العرقي والاستعماري في روايته الكوميدية الممتعة"صبي بورما"الصادرة عن دار كيب ليركز على الأفارقة الذين حاربوا مع الانكليز ضد اليابانيين في الحرب العالمية الثانية. زعم رئيس أوغندا الأسبق عيدي أمين انه كان منهم، واستلهم المسرحي النيجري تجربة والده في قوة شنديت التي تسللت خلف الخطوط اليابانية لتعرقل عمل جنودها. أبدت القوة شجاعة وسعة حيلة وتناولها أدباء بينهم جيمس شو، لكنها لم تمنح التكريم الذي استحقته وبقيت هامشية. بييي يجعل شو شخصية ويسميه سامنجا جاميس شاو، ويروي بمرح مغامرات بطله علي بنانا الذي يفاجأ بأنه سيكون بغّالاً لدى وصوله الى الهند."بغال؟ لهث علي كأن نملة زحافة وخزته. هل تعرف من أنا؟ أنا ابن داوا ملك حفاري الآبار الذي استطاع أنفه المبارك شم المياه في سوكوتو عندما كان واقفاً في ساميناكا. أنا ابن هاوا التي كانت أمها تالاقو التي كانت أمها فاتيماتو ملكة غانو كوليكولي الرطب الذي لا تزال ذكراه تجعل لعاب الرجال العجائز يسيل حتى الآن. يقول شعبنا ان البعد مرض، والسفر وحده يشفيه. هل تظن أن علي بنانا، ابن داوا، حفيد ابنة فاتيما عبر البحر الكبير وبلغ هذا المكان البعيد ببندقيته المعلقة على كتفه لكي يهتم بالبغال؟". يفوز بنانا بالنقاش ويعين مقاتلاً في القسم"د"من دون أن يعرف رؤساؤه انه طفل في الثالثة عشرة. تساوي وحشية القتال والحرمان بين الجنود والضباط لذا تغيب ثنائية المستعمِر والمستعمَر أقله ظاهراً، وإذ تترك قوة شنديت القتلى على الأرض تتابع مسيرتها الى المدينة البيضاء، المعقل البريطاني في الغابة الذي أخذ اسمه من حرير المظلات العسكرية. يصف بانديلي التعب النفسي للانكليز والأفارقة بعد الهجوم الياباني المضاد، والإهانات المثيرة للضحك بين اليابانيين الذين يدعون الأفارقة الى ترك ساحة القتال فيتمسكون بوطنيتهم! رجل معلّق شرق غرب وطن منفى خيار وحتمية في رواية ديناو منغستو"أبناء الثورة"الصادرة في بريطانيا عن دار جوناثان كيب. تحدث الكاتب الأثيوبي في مهرجان هاي البريطاني أوائل الشهر عن باكورته الهادئة المتينة التي تهجس بعجز ثلاثة أصدقاء أفارقة عن الاندماج في المجتمع الأميركي. هاجر شفا ستيفانوس مراهقاً الى الولاياتالمتحدة بعد هبوب"الرعب الأحمر"الشيوعي الذي حصد والده. فتح متجراً في واشنطن يدخله نحو أربعين زبوناً في أيام السعد فيحس بأميركا جميلة، ساحرة، لكنه سريعاً ما يستسلم لليأس والبغض في الأيام العادية التي يكاد لا يرى فيها أحداً. سحر مع صديقيه كينيث الكيني وجو الكونغولي بالحلم الأميركي أول الأمر، وارتكبوا ذنب"التفاؤل المنتفخ والأمل اللاعقلاني". تبعثر الحلم مع مرور السنين، ولا يزال الأصدقاء الثلاثة يشعرون بأنهم لا يعيشون في وطن. لكن الصداقة تقدم العزاء والقدرة على تكرار الأيام اليائسة الكثيرة في"أبناء الثورة"التي تميل الى الشكوى والتعاسة. يهجس منغستو المهاجر الى أميركا من أثيوبيا بهشاشة البيت سواء كان منزلاً فخماً هبط من عز الى فاقة أو وطناً انحنى تحت الانقلابات والمجاعات. مثل كل المهاجرين يعتقد كينيث الحيي الابتسامة ان العلم يفتح الأبواب، ولئن اشترت شهادة الهندسة خزانة مملوءة بالملابس وسيارة يبقى بعيداً من عالم أهل البلاد الأثرياء الذين لا يلاحظون إلا أحدهم الآخر. جو، عاشق دانتي، يتخلى عن الشعر ويعمل نادلاً في مطعم يرتاده السياسيون. في موقف جميل موجع يحدق شفا وجو أحدهما بالآخر عبر الزجاج ويريان حقيقتهما على رغم الثياب الرسمية التي يرتديها جو. شفا الذي ارتبط بعلاقة مع جوديث الأميركية البيضاء الميسورة يحس بدونية نحوها، ولا يرى نفسه أهلاً لحبها. يبقى لا مبالياً عندما تتحسن المنطقة التي يعيش فيها فيغادرها المدمنون وبنات الهوى وينتقل اليها أبناء الطبقة الوسطى."الرجل العالق بين عالمين يعيش ويموت وحده"وبعد سبعة عشر عاماً على هجرته لا يزال ينتقل بين أفريقيا وأميركا، الماضي والحاضر."لم أجد أبداً المبدأ الذي يوجه الماضي الى مكانه الصحيح"يقول، وكيف يستطيع العثور عليه إذا كانت أيامه الأثيوبية ووالده لا تزال تنبض في الفضاءات الأميركية اللاهية عنه؟ خيبة شفا لا تفقده الدفء الإنساني والكرامة والقدرة على الحب التي تنتصر في رواية توقع لها كثيرون نجاحاً كبيراً لم تنله.