تتلألأ المخطوطات الفارسية المفردة في قاعة المعارض الشرقية في مكتبة الإسكندرية، والتي يحتويها المعرض الماليزي المتنقل"معرض أنغام وآيات روائع الفن الفارسي"، حيث يتقاسم متحف الفن الإسلامي في ماليزيا هذه المجموعة المنسوخة ما بين القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر الميلاديين. يضم المعرض مجموعة بديعة من الصحائف المفردة أو المدرجة في ألبومات، والتي لم تحظ باهتمام العديد من الدارسين في الماضي. ويحفز المعرض الهمم على رصد تاريخ واضح لتطور هذا الفن، مع إبراز لدور الخطاطين في هذا المضمار. ومن خلال جولة سريعة بين أرجاء المعرض نستشف عن قرب أسلوبية هذه المنتجات الخطية وطرائق تلاوتها، بحيث تنساب الأصوات القدسية لتزدان بها تلك الصحائف. ومن ناحية أخرى، فإن أنماط الكتابة سرعان ما تكشف عن إيقاع القصيدة، والنغم الشجي للنثر، وإعجاز الرنين في الآيات. كما تطغى اللمسات الفنية للخطاط ببوصته والتي تكشف عن الأبعاد الجمالية لريشة الخطاط، وعن الحكمة الصدوقة للمخطوطات المنفردة. فقد أخذ الخطاط المسلم على عاتقه مهمة تنميق الخطوط وطرائقها المختلفة ليضفي عليها ثوباً من الجمال ينطق للرائي بإعجاز القرآن الكريم، والحديث، والحكم والأمثال، على أن مسؤولية الخطاط تضاعفت من واقع رغبته في الكشف عن تجويد الآيات القرآنية، وطبقات نغماتها وإيقاعها، ومن ثم انصب هم الخطاط على إخراج مخطوطته في شكل منغم، وذلك من خلال ريشته من أقلام البوص، حتى تخرج كل كلمة من الآيات الكريمة ذات وقع موسيقي على الصفحة بكاملها. المخطوطات المنفردة التي يحتويها المعرض تروي رحلتها في بلاد الفرس من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر الميلاديين، وجمعت المدارس الفنية الملكية في بلاد الفرس وتركيا، لوحات كثيرة لمنمنمات ومخطوطات وضمتها إلى ألبومات المرقع من دون ترتيب معين"منها ألبوم"الفاتح"في متحف"التوبكابي سراي"الذي يعتقد بأنه من أعمال مدرسة تبريز التي نقلت إلى إسطنبول ضمن الغنائم التي نقلت على يد السلطان سليم الأول 1520. وفي كثير من الأحوال أضيف إليه توقيعات الخطاطين في فترات متأخرة لكي تزداد قيمةً وأهميةً. وبعد أن تحرر الفنانون والخطاطون من سطوة الحكام وقيودهم، أصبحت لديهم الحرية في التعبير عن ذاتهم، الأمر الذي أدى إلى ظهور أفكار جديدة واضحة، وإلى إدخال أدب جديد على مخطوطاتهم، وشهد هذا الحدث ظهور توقيعات الخطاطين كجزء أساسي على اللوحات. وفي أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر الميلاديين حدث تحول هائل في الحياة الاجتماعية والثقافية في إيران، وغزت المخطوطات المنفردة أسواق كل من إيران والهند، وعند هذا المنعطف انقطعت الصلة بين الفنان والخطاط، ولم يعد أحدهما يكمل الآخر، وقبل ذلك بقرن، كانت الشارات في المخطوطات تشير إلى التعاون بين الاثنين في المشروع نفسه، ومن الأمثلة على ذلك ما نجده في مخطوط إبراهيم ميرزا"هافت أورانج من امي"الموجود حالياً في مرسم فرير، وكذا في مخطوط"أقا ميراك"وپ"مظفر علي"، فقد تولى هذان الأخيران الرسومات في المخطوطة، في حين تولى"مالك ديلمي"مهمة الكتابة بخطه. ومن هذا التحول ظهر نوعان من المخطوطات المنفردة، أحدهما يفصح عن ملكة قلم البوص والإبداع في الخط، والآخر بفعل الريشة الشفرية التي ساهمت في ترقية فن النقاش وپ"المصور"معًا. وهنا يمثل التطور من جانب آخر بمحاذاة للخط المتوارث السائد، خروجاً عن المألوف في الحروف، من حيث الحجم، والمادة العلمية، والقيود الدينية، والذوق الذي كان يتلذذ به السادة الملوك، وهذه الآليات التي راحت المخطوطات تزدان بها هي التي جعلت كلاًّ من الفنانين والخطاطين يسيرون في اتجاهين مختلفين في عالم الفن الفارسي. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين أصبح للأوراق المخطوطة سوق معروفة في إيران. وصار الورق المخطوط مطلوباً من جانب المجتمع وليس الملوك، فظهرت شريحة جديدة في المجتمع وهي المفكرون والأدباء الذين ينافسون الملوك في شراء الورق المخطوط واللوحات وجمعها، فتطورت العبارات والآيات واختلفت مواضيعها. وفي عهد"شاه طهماسب"ظهرت تجمعات ثقافية معروفة بالتجمعات السماوية، وفي هذه التجمعات ترتب لوحات الورق المخطوط وتوضع في المرقع الملكي. وكلمة مرقع"هي مفرد كلمة مرقعات وهي مرادفة لكلمة ألبوم. وظهر المرقع بكثرة كبديل عن المخطوطات الكاملة الكبيرة الحجم. وتضمن كثير من ألبومات الإمبراطور المغولي"جاهنجير 1605-1627 وشاه"جهان"1628-1657 روائع خطوط الفنانين الإيرانيين، ويضيف شمس الدين محمد منظم ألبومات مرقعة:"حتى هؤلاء الناس الذين لا يستطيعون القراءة والكتابة ينظرون إلى الرسومات بإعجاب شديد، وفي عصر الإمبراطور"أكبر"تطورت صناعة المرقع فصار له نمط متفق عليه يوازن بين اللوحات التي تحوي المنمنمات والتي تحوي الخط. وفي القرن التاسع عشر الميلادي في إيران، ظهرت ألبومات كاملة من الخطيات، وكانت تلقى قبولاً ملحوظاً، وهذا التوجه نحو الخطيات بات واضحاً أيضاً في تركيا، إذ عُرف باسم"ترتيب المرُقع"، والذي كان يتضمن فكرة بعينها أو نسقاً خاصاً يستخدمه الخطاط لنفسه. هذا وقد تطلب فن"المرقعات"تطوير نوع من الورق المقوى ليستخدم كخلفية للمخطوطات المنفردة، وفي كثير من الحالات كانت الأوراق الهشة تقطع وتلصق على هذه الأوراق المقواة، بعد أن تزين بطبقة نباتية، وإن كانت هذه الزينة النباتية سرعان ما تتشقق، غير أن هذا الفن الخاص بالورق المقوى تطور في إيران بطريقة تضمن تحاشي فعل الرطوبة من نتاج المادة اللاصقة، كما راح الفنانون يضعون الأوراق الواحدة فوق الأخرى وفق كيانها النباتي وخواصه، حتى لا تتجعد هذه الأساليب الجديدة للمرقعات بحيث يُجمع العديد من أوراق الفنانين والخطاطين جنباً إلى جنب. واللافت في هذا المعرض العناصر الجمالية في المخطوطات المنفردة، فلقد راعى الخطاطون التناسب السليم بين الخط والزخرفة لتؤدي الدور المساند للخطوط بالشكل الراقي الذي تستحقه، وترجع فكرة زخرفة الخطوط في المخطوطات المنفردة إلى عهد الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب، ولقد أضفت الزخرفة بعداً من الجلال للنصوص، ومع مرور الوقت صارت تخدم الوقفات، والأجزاء، والآيات في مخطوطات القرآن الكريم، وتزخر المخطوطات الكلاسيكية للقرآن الكريم بزخرفة متألقة للعناوين، يتبعها النص مخطوطًا في صفوف أفقية على مسطح أبيض أو مذهب، مع هوامش مزدانة بورود زخرفية. وفي هذه الحالة يقع توقيع الخطاط في السطر الأخير من الصفحة بخط مخالف عن خط النص، هذا وقد ظهرت صورة أخرى من المخطوطات"فنجد الآيات المختارة من سور مختلفة، تتسابق جميعاً في تناغم لتملأ الصفحة كلها، وهذا الجمال المتسم بالمرونة يعزز من قيمة الصفحة الواحدة كلوحة زخرفية، بحيث تطال بركة هذه الآيات البينات قلوب من يتطلع إليها. وفي العصر الصفوي، اكتسبت المخطوطات المنفردة القطع شكلاً جديدًا في الإخراج أطلق عليه"المائل"شاليبا، وهذه السطور المائلة للشعر الفارسي صارت تكتب في خط"نستعليق"، مرتبة في مساحة مستطيلة الشكل، وكان يفصل بين كل مقطعين مؤلفين من بيتين بزخرفة نباتية، لضمان ضبط الإيقاع، وكانت بعض الحروف تمد لإيجاد التوازن بين أطوال كل مقطع شعري، وللإشارة إلى انسياب الكلمة لتحقق وقع الإيقاع والنغم الشعري لكل مقطع في القصيدة، وفي هذه الخطوط المائلة نجد مثلثًا في الركنين العلوي والسفلي من الصفحة، يتضمنان توقيع الخطاط وتاريخ الكتابة، وهذه المثلثات تزدان بأشكال من الزهور والزخرفة، تطل من خلالها المقاطع الشعرية في شكل متعرج، يوحي إلى المشاهد أو القارئ بإحساس متناغم تنطق به القصيدة في جملتها، هذا وتعكس الموضوعات المتضمنة في المخطوطات المنفردة أنماطًا زخرفية بديعة على سائر صفحات الأوراق في العصر الصفوي في فارس. ولعل في هذا ما يفسر أهمية تخطيط كل موضوع وإتقانه من حيث هو على الورق قبل استخدامه لتزيين وسائل أخرى يكتب عليها، والواقع أنه كانت هنالك موضوعات زخرفية وقوالب في متناول الفنانين والخطاطين من قبيل: التنين الصيني، والعنقاء، وأعواد زهرة اللوتس، والسحاب، إلى جانب باقات الورد المعروفة لدى الأوروبيين، والتصاوير ثلاثية الأبعاد، وعالم الطيور على مختلف ألوانه. لقد استوعب الفنان الفارسي ذخيرة كل هذه التنويعات الزخرفية، وعلى رغم أن الهوة زادت اتساعاً بين المخطوطات المنفردة للخطاطين وبين رسامي المنمنمات في أواخر عهد الصفويين، إلا أن الرغبة في زخرفة المخطوطات المنفردة ظلت باقية يحس بها الخطاطون والفنانون على حد سواء. شهد القرن السابع عشر الميلادي وفود تجار من الصين وأرمينيا وأوروبا يجلبون سلعاً أجنبية على نطاق واسع إلى إيران، كان لهذه السلع الواردة فعلها على نفوس الرسامين الفرس وعلى الحرفيين لكي يخططوا مخرجات غنية جديدة، من بينها باقات الورود الأوروبية، والنباتات المجدولة، والحشرات، والطيور، إلى جانب بعض الموضوعات المستقاة من الإنجيل. ومن الأمثلة على هذه المسافات الجديدة ما نجده عند رسام البلاط الصفوي"صفي عباسي"، في تصاويره للزهور، والفراشة، والطيور على سطح الأوراق المطلية. ولقد صار مألوفًا في هذا المناخ بزوغ أنساق أوروبية - فارسية مهجنة، في المخطوطات المنفردة، وأيضاً في صناديق الريش المطلية، ومنذ عصر"قاجار"حتى القرن التاسع عشر الميلادي، خلق هذا الأسلوب المهجن فجوة واسعة بين ما هو روحاني وصوفي من جانب، وبين الفنانين ورسامي المنمنمات الإيرانيين من جانب آخر. لقد انتعش فن"المرقعات"في القرن التاسع عشر الميلادي، وجدير بالتنويه أن جزءاً من كتالوغ IAMM"أنغام وآيات"الصادر مع المعرض، أدرج في أطر ألبومات ترجع إلى مخطوطات تسير على النحو نفسه، إذ تضفي الحدود الزخرفية والألوان مسحات من الجمال على المخطوطات، وهذه الحدود المزخرفة تظهر في العديد من اللفائف"الأرابيسك"، في إيقاع ذهبي، يضاف إلى ذلك أن العديد من رسومات السحاب المحيطة بالنصوص المخطوطة أضيفت عند تصميم"المرقعات". كانت المخطوطات المنفردة تعتمد بشكل خاص على زخرفة الأوراق، وذلك لكي تلقى رواجاً في تسويقها والإقبال عليها، ولقد تطورت زخرفة المخطوطات المنفردة من مرحلة التظليل المذهب البسيط إلى التلوين المنقط"هال - كاري"، ثم إلى مرحلة التجزيع المرمري "كاغار - إي - آبري". وما من شك في أن زخرفة المخطوطات المنفردة تعكس محتوى تلك المخطوطات: فتضمنت في متونها سور القرآن الكريم، وآيات بينات مختارة، وأحاديث نبوية شريفة، وحِكَماً للخليفة علي بن أبي طالب وأقوالاً مأثورة عن الأتقياء، أما قصائد الشعر، والنثر، والمقتطفات الأدبية، والقصص الشعبي فكانت تخط في إخراج أكثر إتقانًا من الناحية الجمالية، ولقد عمل الخطاط الفارسي بكل وسعه من أجل إظهار امتيازاته وقدراته العقلية، فأخرج المخطوطات المنفردة وكأنها قطع موسيقية، ذات عبق سماوي، تذوب رقة"وانسجاماً"، ولما كانت الكتابة الفارسية تأتي في أساليب متعددة، فإننا نجد أشعار حافظ والرومي تنساب كالنسيج في بنية الكلمات، مما يؤدي إلى التوافق بين الكلمات، لتنطق بالرابطة الحميمة بين اللفظ الشعري ونغمة وطريقة كتابته، وعلى هذا فإن المخطوطات المنفردة تتلألأ بإيقاع راقٍ من القيم الجمالية التي تريح النفس، وتغذي العقل، وتضع المشاهد في حالٍ من الوجد الصوفي المتسامي.