كتب زينو باران من معهد هودسون، في مجلة"نيوزويك"كانون الأول/ ديسمبر 2006: تحدثت مع ضباط في الجيش التركي من أرفع المستويات، وأكدوا لي جميعاً أنهم لا يرغبون في قطع المسار الديموقراطي في البلاد، لكنهم قد يجدون أنفسهم مرغمين، بعد وقت قصير، على التدخل لحماية النظام العلماني". وهذا ما حدث"تقريباً"في أواخر نيسان ابريل الماضي، حين نشرت قيادة الجيش تحذيراً يذكّر بسوابقه التي مهدت لانقلابات عسكرية متتالية 1960، 1971، 1982، 1997. ولم يفاجئ الأمر أحداً، لكن المفاجأة تمثلت في الرد الفوري والحازم على مذكرة الجيش، على لسان الناطق باسم الحكومة:"إن الجيش هو تحت إمرة الحكومة، ومسؤول أمامها. وهي الحامي الحقيقي للعلمانية. لا يحق للجيش أن ينشر هذه المذكرة!". إنها المرة الأولى في تاريخ تركيا الجمهورية يتحدى فيها سياسيون قيادة الجيش، وبهذا الوضوح. في السابق كان هؤلاء، حين يتلقون تحذيراً من الجيش، يلملمون أغراضهم ويرحلون. فما الذي تغير، وهل باتت حكومة أردوغان أقوى من الجيش؟ قبل الإجابة، علينا التذكير بملابسات إبطال عملية انتخاب رئيس للجمهورية في البرلمان، فقد اتخذت المحكمة الدستورية قرارها ببطلان الدورة الأولى من الانتخاب، تحت ضغط مذكرة الجيش، وتظاهرات الشارع العلماني، وتهديد زعيم حزب الشعب الجمهوري دينيز بايكال، الذي صرح للإعلام، والمحكمة الدستورية في حالة انعقاد، قائلاً إن البلاد ستدخل في صراع وفوضى إذا لم يتم إبطال الدورة الأولى من الانتخابات. وذريعة نصاب الثلثين المزعوم، تحدث للمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية التركية، وبقرار المحكمة الدستورية تأسست سابقة لا يمكن التراجع عنها في أي انتخابات رئاسية مقبلة. أي أن قرار المحكمة الدستورية بات بمثابة التعديل الدستوري. هذا ما قال أردوغان، في أعقاب صدور القرار، وأضاف إن تركيا يمكن أن تواجه أزمة سياسية في كل انتخاب مقبل للرئاسة، إذ سيكون في وسع المعارضة دائماً تعطيل العملية الانتخابية بهذه الطريقة. وبنى أردوغان على تحليله هذا وجوب إجراء تعديل دستوري ينتخب بموجبه رئيس البلاد في الاقتراع العام، ويترتب على ذلك تغيير النظام البرلماني إلى نظام رئاسي أو شبه رئاسي، لا تريده جميع الأحزاب السياسية، بما في ذلك المعارضة العلمانية التي دفعت الأمور بهذا الاتجاه. الطبقة الجديدة"الإسلامية" شهدت تركيا تطورات كبيرة، في العقدين الأخيرين، خلخلت موازين القوى الاجتماعية الراسخة منذ قيام الجمهورية. فعلى الصعيد الاقتصادي - الاجتماعي، أدت التحولات الليبرالية في عهد الرئيس الأسبق تورغوت أوزال، إلى نمو طبقة رأسمالية متوسطة في مدن الأناضول، استطاعت خلق ما يشبه المعجزة الاقتصادية لنمور آسيا، وانكسر بذلك احتكار العاصمتين اسطنبول وأنقرة للمبادرة الاقتصادية، فضلاً عن خصخصة واسعة لما كانت تحتكره الدولة. هذه الطبقة الجديدة باتت تبحث عن حصتها في التمثيل السياسي، ووجدت ضالتها، في الانتخابات البرلمانية الأخيرة 2002 في حزب"العدالة والتنمية"ذي الخلفية الإسلامية، الذي لم يكن مضى على تأسيسه أكثر من سنتين. واستطاع الحزب بقيادة أردوغان، تحقيق فوز كاسح في الانتخابات، مكنه من تشكيل حكومة بمفرده، وهو ما يحدث للمرة الأولى منذ عقود، حكمت فيها حكومات ائتلافية لم يصمد أي منها إلى نهاية الولاية الدستورية. تمثل التطور الثاني المهم، في هذا الحزب الذي نقل الإسلام السياسي نحو التصالح مع قيم الحداثة. أي أنه اقترح نموذجه الخاص من الحداثة، المختلف عن نموذج الجمهورية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال في عشرينات القرن الماضي وتجاوزه الزمان. ولم يأت التحول الفكري للحزب الذي هو امتداد لحزب الرفاه بزعامة أربكان من فراغ، بل قام على أساس الإسلام الشعبي الحديث المتصالح مع علمانية الدولة. أي أن حزب"العدالة والتنمية"هو التعبير السياسي عن علمنة الإسلام من تحت. تراجع، في المقابل، نفوذ الأحزاب العلمانية التقليدية، تراجعاً كبيراً، نتيجة عقود من حكمها الذي اتسم بالفساد والقمع والفضائح، وعجزت عن تقديم تصور لمستقبل البلاد في ظل مفاعيل العولمة، وبات خطابها، الجامد أصلاً، فارغاً من أي محتوى ذي قيمة، مقتصراً على التهويل من الأخطار الوهمية على وحدة البلاد ونظامها العلماني، فجمع بين نزعة تقوقع قومي يرى في كل آخر، داخل البلاد وخارجها، عدواً متربصاً، و"علمانية"متشددة تبدو مجرد عداء للدين. وتجلى ذلك بأوضح صوره في الأزمة الأخيرة، حيث اختزل التيار العلماني السياسة إلى"نمط الحياة"، الأمر الذي ينطوي على مخاطر انقسام ماهوي شبه طائفي في المجتمع، بين"علمانيين"و"غير علمانيين". نعود الآن إلى موضوع موازين القوى القائمة، التي أتاحت للحكومة تحدي الجيش. تكمن قوة حكومة أردوغان، أولاً، في شعبية حزبه الواسعة التي لا تقتصر على الفئات المتدينة من الشعب. فقد ضم جمهور ناخبيه أيضاً علمانيين يتوقون إلى التحولات الديموقراطية، بعد قرن من إمساك الجيش عملياً بالسلطة، وجمهور الأقليات القومية والدينية التي تتوق إلى نظام منفتح يعترف بالتنوع، وطبقة رأسمالية صاعدة سبق الحديث عنها. وثانياً، في إنجازاتها الاقتصادية الباهرة أصبحت تركيا، في عهد هذه الحكومة، في عداد أقوى عشرين اقتصاد في العالم، وفقاً لتصنيف البنك الدولي والإصلاحات السياسية الهادفة إلى توسيع هامش الحريات، وتقليص دور الجيش في الحياة العامة، في إطار تلبية معايير الاتحاد الأوروبي، تمهيداً للحصول على عضويته. وثالثاً، في الدعم الغربي. هذه هي نقاط قوة الحكومة"الإسلامية". في المقابل، تتحدد نقاط قوة التيار العلماني، بالدرجة الأولى في مؤسسة الجيش التي نصبت نفسها حاميةً للنظام القائم. وثانياً، في جزء مهم من المجتمع، وإن كان يشكل أقلية، يتألف من ذوي الدخل المرتفع نسبياً الذين نالوا قسطاً جيداً من التعليم، يؤمن بالقيم الكمالية العلمانية ويخشى من زوالها، فضلاً عن طبقة سياسية ? اقتصادية منتفعة من الوضع القائم الآخذ بالتغير وغير مستعدة للتخلي عن امتيازاتها، منها مافيا مرتبطة بأجهزة الدولة العسكرية والأمنية. في سبر اجتماعي جرى مؤخراً، تم تحديد العلمانيين بنسبة 30 في المئة، والإسلاميين بنسبة 70 في المئة، والمتشددين من الفريقين بنسبة 10 في المئة من كل فريق، بحيث يشكل المعتدلون معاً نسبة 80 في المئة. وتعطينا هذه النسب المئوية مؤشراً الى موازين القوى داخل المجتمع التركي اليوم، لكن العوامل الأخرى لا تقل أهمية، ومنها الجيش من جهة والغرب من جهة أخرى. في ظل هذا التوازن الدقيق، يمكن القول إن فصول الأزمة السياسية في تركيا ستتوالى من الآن إلى موعد الانتخابات العامة في الشهر المقبل. وإذا كانت استطلاعات الرأي تعطي غالبية كاسحة لحزب"العدالة والتنمية"، فإن الجيش، في المقابل، لم يقل كلمته النهائية بعد. * كاتب سوري