من أبرز المهمات التي تواجه العراق في المرحلة الانتقالية الراهنة، متابعة برنامج الإصلاحات الاقتصادية على كل المستويات بهدف زيادة النمو الاقتصادي وتعزيز دور القطاع الخاص ومعالجة الاختلالات المزمنة في مجالات عدة، لا سيما السياسة النقدية والمالية إضافة الى إيجاد فرص عمل وتقليص مساحة الفقر. وهذا يتطلب تحسين كفاءة الإدارة العامة ومؤسساتها وفاعليتها من خلال تطوير وسائل وأساليب تستهدف تطوير الموارد البشرية واستخدام واسع للابتكارات الحديثة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والإدارة الحديثة. لا شك في أن إصلاح الإدارة العامة يستهدف مجالات عدة، سببها التركة الثقيلة التي يعاني منها العراق والناجمة عن سياسات عمل النظام المركزي السابق وأساليبه، وما اقترن به من عزلة وابتعاد عن النظام الاقتصادي العالمي. يُضاف الى ذلك استمرار تدهور الوضع الأمني وغياب الاستقرار والتباطؤ في تطبيق الإصلاحات، واتباع سياسات أحادية الجانب لا تتلاءم مع الأوضاع النوعية المميزة للحال العراقية. ومع أن مهمات الإصلاح لا تخرج من حيث المبدأ والوجهة العامة عن تلك التي تبرز في الاقتصادات الانتقالية Transitional Economy، الا ان العراق يتميز بالحاجة الى التركيز على ما يأتي: - معالجة الحجم المفرط للقطاع العام وضعف فاعليته، إذ أن الجزء الأكبر من هيكلية القطاع الاقتصادي تستند الى المؤسسات والشركات المملوكة من الدولة نحو 192 شركة ومؤسسة تجارية وصناعية وزراعية، ويترتب على ذلك إيجاد الصيغ المناسبة لتقليص هذا الحجم من طريق التخصيص أو التأهيل المناسب بما يكفل فاعلية هذه المشاريع وكفاءتها وربحيتها التجارية. - إيجاد المناخ الملائم لتمكين القطاع الخاص من لعب دور قيادي في الاقتصاد الوطني من طريق إجراء إصلاحات قانونية وإدارية ومالية، أي بكلمة أخرى تأمين بيئة حافزة للنشاطات الخاصة Business Environment من جهة، واعتماد استراتيجية بعيدة المدى لتنويع الاقتصاد الوطني Economic diversification من جهة أخرى. - توفير المناخ المناسب والوسائل الضرورية لتعزيز الروابط بين الاقتصاد العراقي والاقتصاد العالمي وكسر عوامل العزلة المزمنة التي عانى منها عقوداً طويلة. ولعل السياسة المالية والنقدية والقطاع المصرفي يبرزان في مقدم الإصلاحات الاقتصادية المنشودة، نظراً الى الأهمية المباشرة لتعزيز دور القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني وحفز النمو الاقتصادي ومعالجة معضلات البطالة والتضخم ورفع مستوى المعيشة، وغيرها من قضايا الإصلاح الاقتصادي الكلي Macroeconomic Reforms ، وهذا ما نسعى الى معالجته في هذه المساهمة. - إصلاح السياسة المالية والنقدية وتطوير القطاع المصرفي، ان أولويات الإصلاح الاقتصادي تستلزم تعزيز الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العام، بهدف تطوير الإدارة العامة للبلاد على أسس عصرية فاعلة ومتحررة من القيود البيروقراطية والمفاهيم القديمة. ولعل إصلاح القطاع المالي والنقدي والنظام المصرفي يشكلان ميداناً مهماً وواسعاً لتكييف ثنائية العلاقة بين القطاعين الخاص والعام في اتجاه تعزيز الصناعات والمشاريع الصغيرة والمتوسطة وتوسيعها، والمساهمة في تنويع الاقتصاد الوطني على المدى الأبعد. والمعروف أن إجراءات عدة اتخذت في السنوات الأخيرة لإزالة الاختلالات في السياسة المالية والنقدية وإصلاح موازنة الدولة، من أهمها تقليص الإنفاق الجاري Current Expenditure لمصلحة الإنفاق الاستثماري، من خلال الإلغاء التدريجي لما يسمى بالنفقات التحويلية الممثلة بالدعم الكبير Subsidies الذي تقدمه الدولة لعدد غير قليل من السلع والخدمات. وتستهدف هذه الإصلاحات تحرير الأسعار في نهاية المطاف ومعالجة التشوه في نظام التسعير بصفته أحد أركان آليات السوق، فضلاً عن تقليص العجز في موازنة الدولة. إلا أن الجزء الأهم الغائب في حزمة هذه الإصلاحات التي أُبرمت في الاتفاق القائم بين العراق وصندوق النقد الدولي Stand-by Arrangement لا تقدم حلاً لمعضلة الاعتماد الكلي على عائدات النفط كمصدر أساس لتمويل موازنة الدولة والنشاطات الاقتصادية الأخرى تبلغ حصة العائدات النفطية أكثر من 90 في المئة من موارد موازنة الدولة، كما تشكل أكثر من 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى رغم الخطوات الإصلاحية المتخذة في مجال تقليص الدعم، إلا أن عواقبها الاقتصادية ما زالت ثقيلة بالنسبة الى الضائقة الاقتصادية التي يعيشها المواطنون، كما باتت سبباً مباشراً من أسباب زيادة التضخم في البلاد. ومن المحتمل إجراء خفوضات أخرى للدعم وفق اتفاق الترتيبات الإصلاحية مع صندوق النقد الدولي قبل نهاية السنة الجارية، ما سيؤدي الى متاعب جديدة للمواطنين ما لم تعالج مشكلة انخفاض المداخيل وارتفاع معدلات التضخم. أما السياسة النقدية فشهدت إصلاحات مهمة في السنوات الأخيرة، تمثلت في إصدار قانون جديد للبنك المركزي العراقي يستهدف الحفاظ على استقلاله وقيامه بالدور المطلوب في الانتقال الى اقتصاد السوق كركن أساس من أركان المهمات الانتقالية للاقتصاد الوطني. كما أُصدرت عملة وطنية موحدة جديدة، إضافة الى اتخاذ خطوات ناجحة لتعزيز الاحتياط الدولي للعملة الوطنية، إذ تمكن العراق من بلوغ هذا الهدف وهو يمتلك الآن 17 بليون دولار كاحتياط للعملة، وهي ظاهرة لم يسجلها منذ العام 1980 عندما كان حجم الاحتياط نحو 40 بليون دولار. غير أن السياسة النقدية التي أعلنها البنك المركزي أخيراً والقائمة على زيادة سعر الفائدة على الإيداع والإقراض، أوجدت أوضاعاً صعبة للقطاع الخاص وتوجهه لزيادة الاستثمار وتطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة. فالسياسة المشددة المتبعة Tight Policy أضعفت فرص الشراكة بين القطاعين الخاص والعام وإمكاناتها، لزيادة النمو الاقتصادي ومعالجة مشكلة البطالة وغيرها من المهمات الضرورية. إذ لا بد للدولة ومؤسساتها العامة، في ظروف العراق الراهنة، أن تعتمد سياسة نقدية تؤمن تسهيلات مصرفية سخية لتمكين القطاع الخاص من المساهمة في زيادة النمو الاقتصادي وتوسيع دائرة نشاطاته. أما الحجة المقدمة لتبرير هذه السياسة الانكماشية، فهي غير مقبولة لدى الاقتصاديين ومنظمات رجال الأعمال. فمع الإقرار بالحاجة الى تقليص التضخم الذي ارتفع في نهاية السنة الماضية، تؤدي السياسة الانكماشية الى عواقب جدية تتمثل بالكساد وتدني الاستثمار وعدم المساهمة في تأمين فرص العمل في بلد تزيد البطالة فيه على 50 في المئة. ولابد من التأكيد أن معالجة المشاكل كالتضخم، بمعزل عن بقية المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد، يؤدي الى سيادة نظرة أحادية الجانب بدلاً من إستراتيجية وطنية شاملة للتنمية والإصلاح. فالتدابير المتخذة لمواجهة التضخم تقود الى تعميق الكساد، وإضعاف دور القطاع الخاص وحرمانه من التسهيلات المصرفية لتطوير نشاطاته وزيادة استثماراته. ويشار الى أن سعر الفائدة التي اعلنها البنك المركزي بلغت 23 في المئة أخيراً، وهي نسبة لا تتيح إمكان التوسع في الإقراض المصرفي وتحرم المستثمرين الوطنيين من فوائد قناة تمويل رئيسية، ما أدى الى توقف مشاريع وخطط كثيرة كان القطاع الخاص يعمل على تنفيذها. والواقع أن سياسية البنك المركزي الانكماشية تسترشد بالنظرية النقدية Monetary Theory الكلاسيكية التي يعتمدها صندوق النقد الدولي، والتي سببت مشاكل وعواقب اقتصادية وخيمة على حساب التوسع في النمو الاقتصادي وتطوير الاستثمار الوطني ومعالجة مشاكل البطالة والفقر. والأصح في هذا المجال تبني النظرية الإنمائية الهادفة الى معالجة المعضلات الاقتصادية وتحقيق الإصلاحات الكلية في حزمة واحدة ومترابطة. من هنا نرى أن السياسة الانكماشية لا تخدم تعزيز الشراكات مع القطاع الخاص لتطوير الاقتصاد الوطني. ويأتي بعد ذلك إصلاح النظام المصرفي العراقي كمهمة عاجلة لإيجاد اقتصاد سوق فاعل وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص بهدف تحقيق الأولويات الاقتصادية المطروحة على الأجندة الوطنية. والخلاصة فإن الصناعة المصرفية في العراق لا تعمل في الوقت الحاضر في شكل سليم، ولا تؤدي المصارف وظيفتها الرئيسية كوسطاء ماليين. إذ يلاحظ توافر سيولة ضخمة داخل الجهاز المصرفي يجب تحويلها الى أيدي القطاع الخاص من طريق الإقراض المصرفي. كما باتت الممارسات المصرفية القديمة ترهق هذه الصناعة في وقت تواجه فيه مشاكل جديدة. والى جانب ذلك تبرز حاجة ملحة الى وضع برامج تدريبية وبناء القدرات المؤسسية والبشرية، لتمكين القطاع المصرفي من القيام بدوره المنشود. كما يجب الاعتراف بالحاجة الى التحديث على مستوى آليات التنفيذ والأداء الفاعل من خلال التكامل مع الاقتصاد العالمي. * خبير اقتصادي ووزير عراقي سابق