حين طلبت مني مذيعة في راديو لندن أن أقول شيئاً عن موتسارت، في مناسبة الاحتفال به في العام الماضي، ارتبكت، فعلى رغم المنزلة الكبيرة التي يحتلها موتسارت في دنيا الموسيقى، لم يكن هو من بين من شغلوا اهتمامي في كتاباتي الموسيقية. ورحت أسائل نفسي: لماذا لم أكن أنا موتسارتي الهوى، مع أنني استمع الى الكثير من أعماله الموسيقية؟ يقول الموسيقي الألماني من أصل ايطالي، فيرُوتشيو بوزوني، عن موتسارت:"جليّ، أن موتسارت يجعل الغناء نقطة الانطلاق عنده، من هنا ينبع الطابع الميلودي المتدفق، الذي يومض في مؤلفاه مثل مفاتن المرأة التي تترأرأ من خلال طيات بدلة شفيفة". هنا يضع بوزوني إصبعه على نقطة مهمة في الموسيقى، أو اللغة الموسيقية. ولعله يشير هنا الى البعد الأنثوي في موسيقى موتسارت. وإلا لماذا شبّه تدفق ميلودياته بمفاتن امرأة تترأرأ من خلال طيات بدلة شفافة؟ أم أننا لا ينبغي أن نسلّم تماماً بما يقوله بوزوني؟ فموتسارت أكبر من أن يصنَّف في خانة، ان سطراً غنائياً ذا جمالية حسية، مهما كان متألقاً عند موتسارت، كما يقول عازف البيانو ألفريد بريندل، ليس هو المصدر الوحيد للسعادة. ذلك أن حصر موتسارت في بضعة أطر انما يعني الغاءه. فليس يصح أن نختزل موتسارت الى مقولة شومان"جمال إغريقي مصقول"، أو مقولة فاغنر"عبقرية الإشراق والحب"، كما يؤكد بريندل أيضاً. انه أكثر من ذلك، كما يُصرّ ديريك كوك أيضاً في كتابه لغة الموسيقى. فموتسارت كان مثالاً لأغنى شخصية في تأريخ الموسيقى كله، بحسب رأيه، لأنه كان أكثر الموسيقيين العظام شمولية. وإذا كان في هذا القول إفراط، فلنتصور، الجوانب الكثيرة في شخصيته، كما تعكسها موسيقاه: الحس الديني المسيحي، كما عند باخ، الحس بقوة الحياة وعظمتها، كما عند هاندل، الحس بالمرح، كما عند هايدن، الإحساس بالقوة التراجيدية وعنفوان الحياة، كما عند بيتهوفن، خفة الدم الزئبقية، كما عند روسيني، الرقة"البريئة"الكئيبة والطفولية، كما عند شوبرت، اللهفة الحساسة والنزعة الشيطانية، كما عند فاغنر، السوداوية الانعزالية والألم المبرح، كما عند مالر... وهناك أيضاً، بالطبع، السحر الطاغي الخاص، والألاعيب الهريرانية، التي لا وجود لها إلاّ عند موتسارت، والنقاء الخالص، واللذة الماكرة، اللذان لا يوجدان إلا عند موتسارت، والأناقة والذوق، الرفيعان، اللذان لا يتوافران إلا عند موتسارت. وهذه كلها تشكل وحدة الشخصية المتكاملة عند موتسارت. وفي واقع الحال إن الشيء الوحيد الذي تفتقر اليه موسيقى موتسارت هو ما نسبه اليه الموسيقيون الحداثيون: التجريد، انه ليس تجريداً بالمرة، كما هي الحال في تجريد بالاسترينا، انه أكثر انسانية من ذلك. لربما كان ديريك كوك على حق في ذلك كله، لكن هل ان هذه الشمولية في موسيقى موتسارت قمينة بأن تجعلها في عمق موسيقى باخ مثلاً، أو بيتهوفن، أو فاغنر؟ على أية حال، وكما تساءل الفريد بريندل:"ما الذي تتميز به موسيقى موتسارت؟ إن رسم حد فاصل بين هايدن وموتسارت قد يساعد في الإجابة عن السؤال، فموتسارت يقترب في أحيان من هايدن الى حد يدعو الى الدهشة، وكذلك هايدن من موتسارت، وقد شاركا في انجازاتهما الموسيقية بصورة أخوية، بيد أنهما كانا مختلفين بصورة أساسية في طبيعة موسيقى كل منهما. فبريندل يرى في هايدن وموتسارت تضاداً بين المزاجية الآلاتية والمزاجية الغنائية. لقد كان هايدن، وبيتهوفن، مع كل حبهما لما هو غنائي، موسيقيين آلاتيين في الإطار العام، ان الجمال الحسي للصوت لم يكن ميزة فطرية، أو اهتماماً أساسياً عندهما. أما مخيلة موتسارت، أو شوبرت، فهي غنائية في الغالب، حتى في مؤلفاتهما للآلات. بل لقد عاب ناجلي على موتسارت أن سمفونياته هي أوبرالية أكثر مما ينبغي. والظريف أن فاغنر كان على عكس ذلك سمفوني المزاج حتى في أعماله الأوبرالية. لكن الانطباع الأول والأخير الذي يورثه فينا موتسارت هو أنه"طفل"، ان موسيقاه تلهج بالبراءة الكريستالية، انها مصدر للإلهام والفرح، والمسرات الطفولية. هناك ومضة ملائكية عند موتسارت، وابداع طفولي خارق، لكنه لا يكاد يتجاوز هذه المرحلة، أي إن موتسارت يرفض أن يكبر. فلئن كنت تشعر بأن بيتهوفن وُلد وهو رجل، فإن موتسارت مات وهو طفل. وان كان ينبغي أن لا يغرب عن بالنا أنه توفي في الخامسة والثلاثين من عمره. وتنعكس النظرة الى موتسارت كشاب من طراز سماوي في كتاب هيرمان هيسة"ذئب البراري". ففي حوار بين ذئب البراري وغوته العجوز، جاء:"انه لم يكن طموحاً في حياته... كما كنت أنت. انه لم يعتبر نفسه ذا شأن! لقد غنّى ألحانه السماوية ومات، لقد مات في مقتبل العمر، فقيراً من دون أن يُفهم". بهجة الحياة وجمال الشكل واذ يُنظر الى موتسارت بإكبار، فإن البعض لا يعتبر موسيقاه ذات تأثير على الخَلَف. وهذا هو رأي أوليفييه ميسيان مثلاً. فإذ يُبدي ميسيان اعجابه بإيقاع موتسارت، إلا أنه يعترف بتأثيره. لكن كثيرين يرون أن ما من أحد لم يتعلم اتقان الشكل من موتسارت، وهذا هو رأي الموسيقي بوزوني:"بهجة الحياة وجمال الشكل". ان النصيحة التي أسداها والد موتسارت، ليوبولد، الى ابنه، بأن يؤلف الموسيقى لإمتاع المستمعين، تكاد تعطي صورة حقيقية عن موسيقى موتسارت، وهذه ربما جاءت متوازية مع عنصر الإدهاش الذي اقترن بموتسارت منذ طفولته. فلم يظهر في تأريخ الموسيقى كله، لا سابقاً، ولا لاحقاً، طفل في مستوى عبقرية موتسارت. ولا ننسى ذاكرته الخارقة أيضاً مأثرته، مثلاً، في حفظ عمل موسيقي طوله 13 دقيقة، من أوله الى آخره، مع كل تراكيبه الهارمونية والكنتربنطية، ذلك بعد سماعه مرة واحدة فقط، وقد كان عمره أربع عشرة سنة يومذاك. إن هذه العبقرية الفطرية، مع الرغبة في الإدهاش، أداءً، وارتجالاً، والتدفق في التأليف، مع الدافع الى امتاع الآخرين، قد تأتي على حساب العمق أحياناً، حتى عند موسيقي استثنائي مثل موتسارت، فالعمق في موسيقى بيتهوفن جاء نتيجة لتحبير مسودات فوق مسودات من الأوراق الموسيقية، وبعد المراجعة المضنية لكل فاصلة موسيقية تقريباً. أما موتسارت فلم يراجع موسيقاه بمثل هذه المثابرة، لأنه لم يكن بحاجة الى ذلك. لقد كان موسيقياً متدفقاً، وأكثر فطرية ربما من أي موسيقي آخر. ولعله أحب أن يبقى كذلك، نقياً وملائكياً... لكن سوناتات بيتهوفن، ورباعياته، تجعلنا نشعر أنها أعمق غوراً. وكذلك موسيقى باخ، وفاغنر. ان سوناتات بيتهوفن الاثنتين والثلاثين انجاز موسيقي لا يوازيه شيء في تأريخ البيانو كله، على رغم عذوبة بيانو موتسارت، وروعة بيانو شوبان، وديبوسي. واذا كانت أوبرات موتسارت تأتي في مصاف الدراما الشيكسبيرية، بشهادة النقاد، فإن عبقرية فاغنر في الأوبرا كانت شيئاً فريداً لم يتكرر في تأريخ الموسيقى كله. ان رباعية الخاتم وحدها، التي تستغرق عشرين ساعة في أدائها، تعتبر من بين أعظم الانجازات الموسيقية التي حققها البشر، الى حد قيل إن الأوبرا لن تبلغ المستوى الذي بلغته أوبرا فاغنر... لكننا ينبغي أن لا ننسى أيضاً أن موتسارت عاش نصف عمر فاغنر، ونصف عمر باخ، وأقل من بيتهوفن بعشرين سنة. فأية انجازات موسيقية كان يمكن أن يضيفها الى الذخيرة الموسيقية لو لم تخترم يد المنون حياته في سن مبكرة؟