كان لموسيقانا الشرقية، منذ طفولتي، وقع مستعذب على أذني، اصبح على مر الايام زاداً روحياً لا يستغنى عنه. فهي اشبه بلغة موازية للغتنا العربية، ربما لطبيعة سلّمها الذي يتسم بطابعه الميلودي. وكنتُ أنا ميالاً الى الموسيقى المدنية اكثر من موسيقى الريف، التي كنت أجدها مبتذلة ربما عن غير حق. كان يستهويني غناء زكية جورج، ومنيرة الهوَزْوَز من بين الاصوات العراقية، وغناء محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم في شبابها، وأسمهان. وبدأت أتلقى، منذ مرحلة الدراسة المتوسطة ربما في 1945، دروساً في العزف على العود، بصورة غير مباشرة، مستعيناً بارشادات ابن عمي الذي كان يتلقى دروساً في العود على يد سلمان شكر. وقد عزفت بعض السماعيات البدائية، مثل سماعي بيات، وسماعي محيّر. لكنني في مرحلة البلوغ شهدت انقلاباً موسيقياً ملموساً في حياتي، عندما استمعت الى نماذج من الموسيقى الغربية وذهلت. لقد أحسست بأنني عثرت على كنز. كان ذلك اكبر اكتشاف في حياتي، قد يوازي اول تجربة في ممارسة عمل الحب... ولا اذكر بالضبط ما هي المقطوعة الموسيقية الغربية الاولى التي استدرجتني الى هذا العالم الآخر، الذي بدا لي ارفع وأغنى من موسيقانا. كان ذلك في العام 1946 على اغلب الاحتمال. وأذكر ان مدرس الرسم، الاستاذ الرسام عطا صبري، كان يُسمعنا متتالية شهرزاد عندما كنا نرسم في استوديو الرسم في مدرسة الاعدادية المركزية ببغداد. لكنني على يقين ان شهرزاد لم تكن اول عمل كوسيقي غربي استمعت اليه. كنت على معرفة يومذاك 1946 بعدد من المقطوعات الموسيقية، التي كنت استمع اليها مع اصدقاء في بيتنا، من بينها الرابسودية الهنغارية رقم 2، لفرانزلست، والمارش السلافي لتشايكوفسكي، وإيغمونت لبيتهوفن، وكذلك سوناتا رقم 14 ضوء القمر له، وآفا ماريا لكل من باخ وشوبرت، وافتتاحية حلاق اشبيلية لروسيني، وآنا كلاينة ناخت ميوزك لموتسارت، وكثر غيرها، بما في ذلك السمفونية الناقصة لشوبرت. فأي من هذه المقطوعات كان لها ذلك الوقع الانقلابي الاول المذهل على سمعي؟ لا أذكر بالضبط. لعلها رابسودية لست، التي عرفناها اول الامر بصيغتها الاوركسترالية الهادرة، أداء ليوبولد ستوكوفسكي، الذي حولها من البيانو الى الاوركسترا. وفيما بعد صرت استمع بصيغتها الاصلية على البيانو، بما في ذلك اداؤها من قبل القط في كارتون توم وجيري الظريف! هذه الموسيقى تنقلني الى عالم آخر، وجدته ارقى وأغنى من عالم موسيقانا وغنائنا. انه غني في لغته وآلاته الموسيقية واصواته الغنائية. ولا شك انني في البدء كنت أطرب للنماذج الموسيقية الغربية التي كانت غنية في ميلوديتها. لكن هذه الميلودية كانت تبدو لي أثقل وزناً من ميلوديتنا الشرقية التي كانت تؤدى بآلات محدودة جداً، وباصوات أقل تهذيباً. والأهم من هذا ان عالم الموسيقى الغربية غني جداً في بعده التأريخي، الذي يرقى الى اكثر من خمسمئة عام، في حين ان موسيقانا لا تكاد تتجاوز مرحلة القرون الوسطى. نحن لم نكد نتخطى عالم الاغنية والطقطوقة، مما كان يؤلف في العهد العباسي وما بعده، عدا المقامات التي لها سحرها الخاص. اما في الغرب فقد طوروا وابتكروا آلات موسيقية جديدة، وابتكروا اشكالاً وصيغاً موسيقية عديدة، مثل: المتتالية، والسوناتا، والكونشرتو، وموسيقى الحجرة لعدد محدود من الآلات، والسمفونية، والقصيدة السمفونية، والأوبرا، الخ، الخ... وهناك تلك الذخيرة الهائلة من المؤلفات لكل آلة، ولعدد من الآلات. وأنت تقف مأخوذاً امام بحر من المؤلفات على البيانو وحده، فما بالك ببقية الآلات؟ بل ان هناك سوقاً اليوم لما يسمى بالموسيقى القديمة، والآلات القديمة، والمنقرضة، يتزايد محبوه، بمن فيهم كاتب هذه السطور. فبعد ان جربت سماع الكثير من النماذج الموسيقية على مدى نصف قرن، صرت ابحث عن كل ما يدخل في باب"الموسيقى الاخرى"، بما في ذلك موسيقى الآلات المنقرضة، مثل الفيولا دا غامبا، آلة أقرب الى التشيلو، وأقدم منه، ويتسم صوتها برنينية خاصة، بمزاجية انطوائية اكثر من التشيلو، تأتي على مرامي، لأنها تجعلني أشعر بتلك السعادة الغريبة التي تجترحها الموسيقى الكئيبة او السوداوية وهو موضوع تطرقت اليه بشيء من التفصيل في كتابي اسرار الموسيقى. لكنني اعود الى البدايات: في مرحلة دراستي في الولاياتالمتحدة بين 1949-1952 تلقيت درسين في موضوع تذوق الموسيقى. كان استاذنا المحاضر، البروفسور يوكيم نين كولميل، تلميذ الموسيقي الفرنسي بول دوكا، الذي كنا نعرفه من خلال مقطوعته الشهيرة صانع الساحر، التي كانت احدى المقطوعات الجميلة في فيلم والت ديزني الكارتوني الشهير فانتازيا. كان هذا الاستاذ يشرح لجميع متلقي هذا الدرس، في قاعة كبيرة مدرّجة، الدروس الموسيقية بمصاحبة البيانو، الذي كان يعزف عليه للايضاح. فأهّلتني هذه الطريقة في التعليم جيداً لتذوق وتفهم الموسيقى. وفي هذين الدرسين اللذين استغرقا عاماً كاملاً درسنا الاشكال الموسيقية من بداياتها الاولى حتى العصر الحديث. وكنتُ الى جانب ذلك استمع الى برامج اذاعة موسيقية كلاسيكية تبث على مدار الساعة... استمع اليها بمعدل قد لا يقل عن عشر ساعات في اليوم كنتُ أراجع دروسي في الرياضيات وأحل المعادلات على أنغام الموسيقى. وكنتُ أتردد ايضاً الى دار الاوبرا في سان فرانسيسكو، التي لم تكن تبعد عن مدينتي الجامعية بيركلي سوى 13 ميلاً. وفي دار الأوبرا هذه أتيحت لي فرص ثمينة لمشاهدة ارقى الفرق الموسيقية، وسماع اشهر العازفين والمغنين. وبعد ذلك، في العراق، كنا مجموعة من الأصدقاء نلتقي في"مشتمل"الصديق جميل لويس، العازف على الكمان، مساء كل خميس، لسماع الموسيقى. وكانت مكتبة جميل لويس الموسيقية ومكتبتي تمداننا بألوان مختلفة من الموسيقى. كانت هذه الأمسيات الاسبوعية الموسيقية متعتنا الروحية بعد ايام العمل والنضال السياسي الذي تتوج، بقدر تعلق الأمر بي، بالاعتقال مدة عامين، بعد انقلاب 1963. وبعد اطلاق سراحي فوجئت بوجود بيانو في بيتنا. كان ذلك هدية لي من صديق في تلك المناسبة. فرحت اجرب ملامسة مفاتيحه باصابعي التي تفتقر الى خبرة سابقة، لكن معرفتي بأبجدية المفاتيح لم تكن أمية تماماً. وبمرور الأيام، ازدادت معرفتي بلغة المفاتيح، وبطرق العزف عليها، بما في ذلك ترعيش الاصابع، وملامسة المفاتيح بدرجات متفاوتة من القوة، والعزف باليدين في آن واحد، لأداء لحنين مختلفين، والى حد ما استعمال السلم الخماسي ايضاً، الى جانب السلم السباعي الطبيعي... كان ذلك في ايام عطالتي عن العمل. ثم توقفت عن العزف بعد عودتي الى العمل، والزواج... ونسيت فيما بعد حتى تلك القدرة على الخربشة المتواضعة. واستعضت عن ذلك بالسماع. عدت الى علاقتي المتلقية فقط بالموسيقى، وقطعت علاقتي الفاعلة أو المتفاعلة معها، وهو ما ندمت عليه كثيراً فيما بعد. ولا شك ان أحداً لا يستطيع ان يحيا بدون الاستماع الى الموسيقى اية موسيقى كانت. لذلك اذكر ان عذابي في ايام الاعتقال كان مضاعفاً، لأنني كنت محروماً من نعمة الاستماع الى الموسيقى. وانا الآن، مع تقدم العمر، ومع هذا الانحدار المريع في الاوضاع السياسية والاجتماعية في عالمنا العربي والعراقي بخاصة، ازداد التصاقاً بالموسيقى، لأنها تبقى عندي افضل وسيلة لمحاولة التغلب على الكآبة القاتلة التي تفرضها علينا ظروفنا القاسية. فأنا أجد في موسيقى الأورغن، ببعد اصواته الماورائية، ملاذاً ينأى بي عن هموم واقعنا المريرة. ويزداد اعجابي بهذه الموسيقى اذا رافق ذلك غناء. لكن غرامي بالبيانو لا حدود له. حتى الآلة، لا سيما بحجمها الكبير grand piano، تسحرني. ان لها حضوراً أُبّهياً... ويزداد اعجابك عند مشاهدة وسماع عازفين مذهلين في عزفهم... وأنا لا أملّ من سماع سوناتات بيتهوفن الاثنتين والثلاثين كلها بكل بانوراميتها، وتنوعها في التقنية، والتعبير، والاداء، انها تبقى أثمن شيء في مكتبتي الموسيقية الى جانب رباعياته الاخيرة. ولا يقل عنها اعجابي ببيانو كلود ديبوسي، الذي افضله على موسيقاه الاوركسترالية، رغم نكهتها الانطباعية الساحرة. ويعجبني بيانو موريس رافيل ايضاً اكثر من موسيقاه الاوركسترالية، التي لا تقل سحراً عن موسيقى ديبوسي، لكنني صرت انظر الى الموسيقى الاوركسترالية"الوصفية"او"التصويرية"، كموسيقى"خفيفة"الى حد ما، بما في ذلك باليه ذافنيز وخْلوية الشهيرة لرافيل. ولا اريد ان اتجاوز شوبان، الذي تعتبر موسيقاه على البيانو ذخيرة مهمة في دنيا الموسيقى الغربية. وكذلك فرانز لست، لا سيما في مجموعته الرقيقة جداً، سنوات الحج... وأنا لا احب موسيقى الجاز، بما في ذلك الموسيقى الكلاسيكية التي تستلهم الجاز، لكن عزف كيث جاريت يذهلني بارتجالاته الآسرة على البيانو، رغم نَفَسه الجازي الخفيف، ولا انسى باخ، لا سيما في آلام القديس متى، وآلامه الاخرى الرائعة. واحب هاندل في غنائياته الناتحة. اما موتسارت فعذب كله، بلا استثناء. الاوبرا؟ اعترف بانني افضل الموسيقى المجردة على الغناء بعامة. لكن علاقتي مع الاوبرا مع ذلك لا تخل من حميمية. فمنذ ايام دراستي في الولاياتالمتحدة، كنت لا اكاد اتخلف عن مشاهدة عرض من عروضها. وفي كل المدن الاوروبية التي اقمت فيها اغتنمت فرص مشاهدة الكثير من الاوبرات. ولا ارى ضرورة لتعداد الاوبرات التي شاهدتها. لكنني اود الاشارة الى انني منذ ايام شبابي كنت معجباً جداً باوبرا مدام بترفلاي ليوتشيني. ولم تستهوني كثيراً اوبرا كارمن لجورج بيزيه، رغم كل شهرتها وشعبيتها. وافضل عليها اوبرا فاوست لشارل غونو. كما انني ضجرت من اوبرا بالياز ومليزاند لديبوسي، التي تطنب كتب النقد الموسيقية في اطرائها. واحببت المدخل الطويل فقط لاوبرا بوريس غودنوف لموزورغسكي. ولا شك ان معظم اوبرات فيردي عذبة جداً. اما فاغنر، فلا يمكن لأي متذوق للموسيقى ان يستثنيه من عالم سماعه، والا اثار حفيظة برناردشو الذي كان مولعاً بفاغنر! واعترف بأن هناك شاغلين في حياتي الآن، هما الكتابة، والاستماع الى الموسيقى. فأنا لا اكاد اعرف معنى لوجودي من دونهما. ومع ان الكتابة اصبحت شيئاً لا استطيع التخلي عنه، ربما بحكم التعود، بعد ان احترفتها منذ اكثر من ربع قرن في البدء كانت هواية، الا انني اشعر انها، أي الكتابة، لا تلبي نوازعي الدفينة، كالموسيقى التي فرطت في احترافها ولم اتفرغ لها. انني اشعر الآن بخسارة كبيرة لأنني لم اتفرغ لدراسة الموسيقى، ومواصلة العزف، الذي يجعلك قادراً على الارتجال، وربما التأليف ايضاً. فمثلما اصبحت كاتباً بفضل الممارسة اليومية، بعد ان كنت افتقر الى موهبة الكتابة، اعتقد انني كنت استطيع ان امارس العزف على البيانو، واتقدم فيه، بما يمكن ان يحقق لي سعادة ذاتية تفوق لذة الاستماع الى الموسيقى... لكن ظروفي الذاتية والموضوعية لم تتح لي ان أواصل هذه المحاولة. فكانت هذه اكبر خسارة في حياتي! فأنا أشعر ان الموسيقى يمكن ان تكون وسيلتي المفضلة في التعبير، اكثر من اللغة.