كل الأمم تختلف وتتفق وتتصارع وتتحاور، وتتقاتل وتتصالح، إلا أمتنا فهي مبتلية بالعناد والمكابرة ووضع العربة أمام الحصان في كل مجال ولا سيما في مجال اتخاذ القرار المسبق والتشبث به قبل الحوار وفرضه على "الآخر" وتخييره بين القبول به كما هو او انتظار الويل والثبور وعظائم الأمور. فمصائب القرار قبل الحوار تنهال على رؤوسنا من كل حدب وصوب. أي من الآخر المعادي، والآخر الخارجي والآخر الداخلي، أي الذي هو منا وفينا ولنا، مع ان كل عاقل يدرك ان الحوار هو الملجأ الأخير عند الملمات وأنه المنقذ من "الأعظم". فكل خلاف لا بد ان ينتهي الى اتفاق مهما طال الزمن، وكل أزمة لا مفر من إيجاد حل لها مهما تعقدت الأمور، وكل حرب لا بد من ان تصل الى نهاية ما تتوج بالصلح وبمعاهدة تضع أسس السلام. هذه هي سنّة الحياة، وهذا هو ما قرأناه ونقرأه في كتب التاريخ والسياسة وما يُفترض ان نكون تعلمناه من دروس الواقعية والحكمة والحنكة والمرونة ومعانيها وفوائدها ومزاياها في تجنيب الإنسان ويلات الحروب وخسائر الأزمات. ولا حاجة لضرب الأمثلة في الولاياتالمتحدة التي اكتوت بنار حرب أهلية طاحنة انتهت بإقامة قوة عملاقة ودولة عظمى متحدة ومتساكنة، أو في أوروبا التي عانت الويلات من حروب متتالية من حروب الوردتين الى حرب المئة عام الى الحروب التوسعية والحربين العالميتين الى ان ساد العقل وتوصل الحكماء الى نتيجة حتمية وهي ان الحروب كلها شرور، وأن السلام هو السبيل الوحيد لحماية المواطن والحفاظ على المصالح والسير في طريق البناء، وأن الوحدة هي القرار والمصير والمستقبل المزهر والواعد. ولنا مثل آخر في الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي التي انتهت الى وفاق وتعايش وتعاون في سبيل البشرية المهددة في حياتها ومصيرها بالفقر والجهل والأسلحة النووية. ولهذا علينا ان نتساءل اليوم عن سر هذا الاستثناء الذي تحرم فيه منطقتنا وشعوبنا من أبسط قواعد العيش بأمان وسلام، وعن أسباب المضي في الظلم والجور واللجوء الى الشذوذ بدلاً من اللحاق بركب القاعدة القائمة على الحوار والتفاهم ومزايا الحلول الوسط. فعلى الصعيد الخارجي يطبق على العرب مبدأ"القرار قبل الحوار"في كل منحى وأزمة وصراع على رغم التزامهم شرعة الأممالمتحدة: من الولاياتالمتحدة التي حاولت ان تفرض هيمنتها على العالم ورسم صورة نظام عالمي جديد تكون فيه هي الآمرة الناهية وهي صاحبة القرار الأحادي الذي يفرض فينفذ، فتأمر وتطاع لكنها فشلت في كل مكان إلا في منطقتنا حيث مضت في طريق الفرض على رغم الضربات التي تلقتها. ففي العراق غزو واحتلال وقرارات مسبقة لا تقبل الحوار ولا الجدل حول خطط الانسحاب أو حتى وضع جدول زمني مرن لهذا الانسحاب. وفي فلسطين جاء الفرض من إسرائيل ومعها الولاياتالمتحدة والغرب في شكل عام وفق سياسة"القرار"الجاهز بلا حوار ولا حتى وعود بأمل إجراء حوار ما، فكل القرارات والمبادرات الوهمية والمبتورة يراد لها ان تفرض فرضاً على العرب وعلى الشعب الفلسطيني بصورة خاصة من دون ان تنفذ او حتى تقبل أي اعتراض فتنتهي صلاحيتها بعد مدة وتعود إسرائيل الى عاداتها القديمة في القتل وارتكاب المذابح والتوسع والتهديد وقضم الأراضي الفلسطينية ورفض البحث عن أي مخرج. وعندما تنازل العرب وقدموا مبادرتهم الموحدة الرامية الى إحلال سلام عادل وشامل في المنطقة قوبلت بالرفض اولاً ثم سعت اسرائيل الى اقفال باب الحوار الذي فتحه العرب لأول مرة منذ سنوات طويلة باختراع الحجج والذرائع للتسويف والتأجيل وقطع الطريق على أي مسعى جدي لتفعيل هذه المبادرة وضرب هذه الفرصة النادرة التي أتاحها الغرب للجميع بالخروج من هذه الدوامة الدامية. وإذا كانت ممارسات الولاياتالمتحدة وغيرها، ومناورات إسرائيل وجرائمها غير مستبعدة بسبب العداء الصهيوني والتصميم على المضي في الغي وتكريس الاحتلال وتبني القرارات الجائرة من دون حوار مع العرب، فإن هذه الآفة غير مقبولة من العرب في تعاملهم مع بعضهم بعضاً على صعيد الدول والشعوب والعلاقات العربية - العربية ثم على الأصعدة الداخلية في مواجهة الأزمات والخلافات والصراعات الحزبية والطائفية والمذهبية. فالعدو يهدد المصير والتاريخ والحاضر والمستقبل ويقتل ويدمر ونحن نختلف على جنس الملائكة ونلجأ للخصام والتآمر والمقاطعة والعزل وإثارة الأحقاد والفتن، ولا نتعظ من تجاربنا المأسوية عبر تاريخنا المرير ولا حتى من دروس الآخرين وبينهم الأوروبيون الذين كان يمكن ان تفرقهم عوامل الدم والعرق والدين والمذهب وتراكم أحقاد الحروب الدامية والصراعات المريرة، ولكنهم تسامحوا ونسوا كل المآسي ومزقوا الصفحات السود من تاريخهم وتحاوروا واتفقوا واتحدوا على اسس سليمة لا غالب فيها ولا مغلوب ولا منتصر ولا مهزوم. كل طرف وضع همومه وهواجسه وشروطه ومطالبه على الطاولة وتفاوض عليها بعيداً من العقد والحساسيات وقبل بنتائج الحوار الى ان تم وضع لبنات الحلول الوسط لجميع القضايا المثارة من الزبدة والجبنة إلى السيارة والطائرة والمدفع والسياسة الخارجية والدفاعية وقضايا حقوق الإنسان والعدالة وسيادة القانون. أما نحن فما زلنا ندور في حلقات مفرغة على رغم كل ما يجمعنا من روابط ووشائج وتاريخ وجغرافيا ومصالح ومصائر مشتركة. وفي كل أزماتنا الحالية والسابقة نجد ان العناد هو سيد الموقف، والأحقاد هي التي تتحكم بزمام أمورنا، وأسلوب الفرض هو السائد في تعاملاتنا. فكل طرف يتخذ قراره اولاً ثم يطالب الآخر بالحوار على اساسه فإما ان يقبل به كما هو بلا تعديل او ان يستعد لمنازلة كبرى وحروب تبدأ بالتخوين والاتهام بالعمالة وتمتد لتصل الى العزل والإسقاط ومواجهة تستخدم فيها كل الأسلحة حتى ولو أدى ذلك الى تدمير الهيكل على رؤوس الجميع. ولنا في العراق أكبر مثال على هذا العناد المدمر، فكل طرف يتمسك بمواقفه وقراراته وشروطه المسبقة فيما الاحتلال الأجنبي يمضي في مشاريعه، وشريعة الغاب تتحكم بممارسات الجميع وتهدد العراق بالتفتيت والتقسيم والتدمير بعد حمامات الدم التي تسيل في كل مناطقه والحرب الأهلية التي تأكل الأخضر واليابس قبل أن تبدأ فصولها الخطيرة المرتقبة نتيجة لتغذية الأحقاد وإيقاظ الفتن الطائفية والعرقية والمذهبية. أما لبنان المنكوب فما زال يعاني من غياب الحكمة والتعقل ومحاولات فرض القرار قبل الحوار على رغم حديث كل الفرقاء عن الحوار والرغبة في استئنافه لوأد الفتنة القائمة. فالاعتصام مستمر والحوار تحول الى حوار طرشان والقرار متخذ سلفاً وفق شروط لا تنازل عنها حتى ولو احترقت البلاد وقتل من قتل من العباد وهاجر من هاجر. ولم تنفع محاولات إيجاد تسوية على أساس"لا غالب ولا مغلوب"و"التفهم والتفاهم". وهما من المبادئ الأساسية التي لن تقوم للبنان قائمة إلا بالعمل بهما. وما الجريمة التي يندى لها جبين الإنسانية التي أودت بحياة شاب وطفل بريئين سوى عينة مؤلمة من عينات ما يخبأ لهذا البلد الجميل في حال استمرار التفتت وعدم المسارعة الى استغلال الفرصة المتاحة لاستئناف الحوار على أسس سليمة لا شروط فيها ولا فرض لنسب وأرقام وأعذار تذهب كلها أدراج الرياح ويذهب معها البلد برمته في حال حدوث تفجير لا قدرة لأحد على وقف مفاعيله أو حصرها في حدود معينة. وما ينطبق على لبنانوالعراق ينطبق على فلسطين وصراعات الاخوة فيما العدو يتربص بهم كما ينطبق على كل منحى من مناحي العلاقات العربية - العربية والأزمات القائمة ويمتد الى إيران وملفها النووي، فالعناد من الطرفين سيودي بالجميع الى كارثة لا حدود لها تحرق المنطقة بأسرها بعد أن تحرق أصابع ورؤوس كل اللاعبين. فكل الأطراف مدعوة الى حوار سريع لا قرارات جاهزة فيه ولا شروط مسبقة، وإيران بالذات مطالبة بالحكمة والمرونة وإثبات حسن النيات حرصاً على مصالحها وحماية لشعبها ومعه شعوب المنطقة بأسرها. فالتحديات لا تجدي، والعنتريات لم تعد تنفع في ظل التهديد الجدي. كما ان الولاياتالمتحدة والأطراف الأخرى مطالبة بالتروي والكف عن التهديد وفتح نافذة حوار لا تلغي حق إيران بالحصول على التكنولوجيا النووية السلمية شرط تعهدها بعدم الانتقال الى مرحلة التسلح النووي. وفي ظل هذه الأزمات بح صوتنا ونحن نطالب بالحكمة والتحكم بالأعصاب والبحث عن مخارج مشرفة للجميع فما لا يؤخذ كله لا يترك جله، ومبدأ خذ وطالب يصلح لجميع الحالات والأوقات والتسويات، والحلول الوسط هي في النهاية السبيل الوحيد للنجاة من المخفي الأعظم وإنقاذ المنطقة المنكوبة بالعناد والمبتلية بالمتفردين في رأيهم والحمقى والمتعنتين الذين اضيف اليهم المتطرفون الذين تحول قرارهم المسبق الى"تكفير"مسبق على رغم أن مبادئ ديننا الحنيف تدعونا الى الحوار على أن نبدأ بأنفسنا، أي حوار عربي - عربي وعربي - إسلامي وعربي - أجنبي، من أجل درء الأخطار وتحييد القوى غير المعادية وإعادة تجميع أوراق القوة العربية. والله عز وجل يهدينا الى ذلك في تنزيل كتابه:"ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وفي قوله عز وجل:"قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم". فما بالنا نعاند ونسهم في إشعال نار الفتن ونرفض الاستماع الى صوت الحكمة ونقصي الحكماء وأهل الحل والعقد ونمنعهم من القيام بدورهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والتوسط لرأب الصدع والحفاظ على شعرة معاوية في ما بيننا وسحب مبدأ"القرار قبل الحوار"في تعاملاتنا ومعالجة أزماتنا؟ وأختم مع طرفة من طرائف جحا التي ينطبق عليها أسلوب القرار قبل الحوار... أو التنفيذ في المتهم المدان قبل صدور الحكم وقبل أن تنتفي براءته. فقد شوهد جحا يهرول مذعوراً ويبحث عن ملجأ يختبئ فيه فسئل عن سر فزعه فقال: لقد سمعت أن الحاكم قرر أن يقطع رأس كل من له ثلاث آذان. فقيل له: لماذا الفزع وأنت ليس لك سوى أذنين فقط فرد قائلاً ولكنهم يقطعون الرؤوس أولاً ثم يبدأون بالعد! * صحافي وكاتب عربي