الحراك الدولي والعربي الحالي يعطي مؤشرات ودلائل حذرة عن إمكان تحريك مسار السلام في الشرق الأوسط أو على الأقل التمهيد لمفاوضات شاقة وصعبة بين العرب والاسرائيليين برعاية دولية وغطاء دولي. ومع هذا فإن التشاؤم يسود عند العرب والفلسطينيين استناداً الى تجارب سابقة أليمة ومعرفة أكيدة بالمكر الصهيوني والتخاذل الدولي والتردد الأميركي إضافة الى الواقع المزري الذي تسبب به التطرف الاسرائيلي المتمثل في حكومة بنيامين نتانياهو الليكودية العنصرية المطعمة بعتاة الحقد الصهيوني. وبين الحراك الظاهر والتشاؤم المكرس تلوح في الأفق مواقف واضحة تؤكد جدية السعي نحو السلام وتوفر الرغبة والإرادة والحاجة الملحة الى إغلاق هذا الملف ووضع حد لصراع دام ومدمر طال أمده وازداد تعقيداً وتفاقم ضرره مع مرور الأيام منذ أكثر من 60 عاماً. المتفائلون بحذر يستندون في تحليلاتهم على مرتكزات ومؤشرات عدة ومواقف معلنة واتصالات متواصلة تصب كلها في خانة قرب انطلاق جهود فعلية أو إعلان مبادرة أميركية مدعومة أوروبياً وعالمياً تكون «خريطة طريق» جديدة لبدء مفاوضات السلام الشامل. ومع التحفظ الشديد تنطلق هذه النظرية من المؤشرات التالية: * حاجة أميركا الملحة للخروج من المآزق التي وقعت فيها في العراق وأفغانستان والمنطقة مما هدد مصالحها الحيوية وأمنها القومي. وقد عبر الرئيس باراك أوباما بصراحة مطلقة عن هذه الحاجة وبدأ خطواته العملية الجادة لمحو آثار التركة الثقيلة التي خلفها له سلفه الرئيس السابق جورج بوش بتحسين صورة الولاياتالمتحدة ومبادرته الى مد يد التعاون وفتح باب الحوار وتأكيد احترام الإسلام والمسلمين في خطابه التاريخي الذي حرص على إعلانه من القاهرة ثم في بدء حوار جدي مع سورية وربما قريباً مع إيران في حال عدم تأخره نتيجة لتداعيات انتخابات الرئاسة الايرانية وما تبعها من تظاهرات واحتجاجات وقمع وتبادل اتهامات. وبتركيز أكبر يمكن رصد مواقف متقدمة لإدارة الرئيس أوباما مثل التمسك بحل الدولتين، أي بمعنى آخر الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة ومطالبة اسرائيل بتجميد الاستيطان الاستعماري في الأراضي العربية المحتلة وإبداء الاستعداد للبحث في بنود المبادرة العربية للسلام كأساس من أسس السلام بعد أن تجاهلتها إدارة بوش ورفضت مجرد مناقشة بنودها. * الوعود والتعهدات التي قدمها الرئيس أوباما شخصياً وعدد من قادة الغرب بالتحرك الجدي لإحلال السلام هذا العام وعدم التوقف أمام التعنت الاسرائيلي. ليس لمجرد إرضاء العرب، أو حباً بسواد عيونهم، بل من أجل الحفاظ على المصالح الدولية المهددة وذيول وانعكاسات الأزمة المالية العالمية على أوضاع أميركا الداخلية والمخاوف من أن يتسبب اندلاع العنف أو نشوب حرب جديدة بانقطاع امدادات النفط أو ارتفاع الأسعار بشكل جنوني الأمر الذي يهدد بحدوث انهيارات كبرى في الاقتصاد العالمي، وفي اقتصاديات معظم دول العالم. * قيام تحرك أوروبي مواز للتحرك الأميركي في سباق مع جهود حثيثة من روسيا للدعوة لعقد مؤتمر سلام في موسكو قبل نهاية العام الجاري استكمالاً لما تم بحثه في مؤتمر أنابوليس العام الماضي، وقد بعثت الحياة بالدور الروسي بعد زيارة أوباما لموسكو وتفاهمه مع القيادة الروسية. * تصعيد التحركات العربية والاتصالات وتكثيف اللقاءات بين القيادات العربية المعنية بالوضع واحتمالات الحرب والسلام ولا سيما بين السعودية وسورية ومصر والأردن والفلسطينيين من أجل التوصل الى صيغة موحدة وتسهيل انطلاق أي مبادرة أميركية وتهيئة الأجواء لمحاصرة التطرف الصهيوني ومقابلته بهجمة سلام تكشف القناع الزائف عن وجه اسرائيل أمام العالم كله. * توفر القناعة لدة القيادات الفلسطينية، ولا سيما «فتح» و «حماس»، بوجوب المسارعة الى حل الخلافات وبدء اجراءات المصالحة ووضع حد للتشرذم والانشقاق والتعنت وحالة «التقسيم» الفعلي بين قطاع غزة والضفة الغربية انطلاقاً من المخاوف السائدة من خطط صهيونية معدة للتصعيد على مختلف الجبهات واليقين بأن فرصة السلام الجديدة، إن حان وقتها، لن تتكرر بل بأن ضياعها، أو إضاعتها، يؤدي الى إغلاق أبواب السلام لفترة طويلة وفتح أبواب الجحيم نحو المجهول والأسوأ. وهذا أمر لم يعد يحتمله أي فلسطيني في الداخل والخارج بعد أن نفد الصبر وتزايدت خيبات الأمل وآلام جروح التشريد والحروب والخلافات والصراعات العبثية. كل هذا يمكن وضعه في رصيد التفاؤل بقرب الانفراج لولا الوضع الاسرائيلي الشاذ القائم على التطرف والعناد والمكابرة والتعنت وبناء سياسة قائمة على العنصرية والأحقاد والكراهية ورفض البحث بأي حل عادل وإغلاق الأبواب والمنافذ أمام أي مبادرة جدية عبر الاصرار على شروط ومواقف من شأنها أن تنسف السلام من أساسه ومن بينها: * يهودية الدولة الاسرائيلية وهذا مبدأ خطير لا يمكن لأي انسان في العالم أن يقبل به أو حتى يفكر بحدوثه في القرن الحادي والعشرين وعصر العولمة والقرية الكونية وحقوق الانسان. * رفض تجميد الاستيطان والعمل على تنفيذ مشاريع جديدة وتوسيع مستعمرات قائمة إمعاناً في التحدي وفرض أمر واقع لا تريد اسرائيل الرجوع عنه أو مجرد مناقشته في أية مفاوضات ممكنة. بل إن اسرائيل لجأت أخيراً الى لعبة خطيرة وماكرة لكنها مكشوفة وكأنها تتقمص شخصية شيرلوك الشكسبيرية في «تاجر البندقية» عندما تطالب «جميع» الدول العربية بالتطبيع معها لقاء تجميد الاستيطان لتبلغ الوقاحة مداها الأبعد. * رفض أي بحث في مستقبل القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية والاصرار على عدم التخلي عن شبر واحد من هذه المدينة المقدسة وهي تدرك تماماً أنه ما من عربي أو مسلم أو فلسطيني يمكن أن يقبل بأي حل لا يتضمن تحرير القدس الشريف واستعادة المقدسات وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك. * الرفض المسبق لأي قرار دولي، أو توجه عالمي، لمنح اللاجئين الفلسطينيين حقهم المشروع بالعودة الى ديارهم أو التعويض عن ممتلكاتهم وحقوقهم وإقفال الباب أمام عودة أي فلسطيني الى أراضي فلسطينالمحتلة عام 1948 إن بيهودية الدولة أو بالمواقف المعلنة. * بدء تحريك خطة جهنمية لفرض حصار على عرب الداخل، أي حوالي مليون ونصف المليون فلسطيني صمدوا في أراضيهم على رغم ظلم وجور الاحتلال منذ عام 1948 حتى يومنا هذا. وقد تمثلت هذه الخطة في تشديد الخناق عليهم ووقف ميزانيات مدنهم وقراهم ومنع المشاريع الإعمارية والتنموية وتخريب البنى التحتية والتضييق عليهم معيشياً وأمنياً وثقافياً وصحياً وتعليمياً. وتتزامن هذه الاجراءات مع حملة إعلامية ضد العرب وتوجيه التهم إليهم مرفقة بحملات عنصرية بغيضة تدعو لعدم التعامل معهم ورفض بيعهم أو تأجيرهم لشقق ومحلات تجارية تنفيذاً لمخطط الفصل العنصري وصولاً الى خطة التهجير (الترانسفير) المعدة منذ أمد طويل. ولكن كيف يواجه العرب هذا الواقع؟ وهل سيقبلون الاستسلام له؟ أم أن عليهم أن لا يغلقوا الأبواب التي فتحها أوباما وأن يواصلوا البحث عن مخارج لعل وعسى؟! الامتحان الأول للعرب، والقيادات بوجه خاص، يكمن في الاسراع بتحقيق المصالحات ورأب الصدع وتوحيد الجهود وإنهاء الخلافات وصياغة موقف موحد يقدم الى العالم كله كحد أدنى لا يمكن التنازل فيه عن أي مبدأ من مبادئ المبادرة العربية ومرجعية مؤتمر مدريد للسلام القائمة على مبادئ الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام. * مواصلة بناء القوة العربية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً لأن القوة وحدها تعيد الحق ولو من باب التلويح بعصاها، أما الضعف فهو السلاح الذي يستخدمه العدو للتعنت والتصلب والرفض. * لا بد من عقد مؤتمر قمة عربية طارئ لبحث كل هذه الأمور ومناقشة احتمالات السلام، إن اقترب أجله، أو الحرب وإن بعدت احتمالاتها. على أن يخرج بموقف موحد ويبدأ تحركاً جدياً يضع العالم كله أمام مسؤولياته. والأهم من كل ذلك هو الاستعداد الجدي لمواجهة أي طارئ ووضع خطة عمل حازمة لقطع الطريق أمام اسرائيل ومنعها من ممارسة لعبة الوقت والمماطلة والمناورة وتمييع المفاوضات وجرها الى متاهات جانبية تبعدها عن البحث في أساسيات الصراع والحل. وحتى لا يفشل أي مؤتمر سلام مقترح، وتتكرر نكسة مدريد بعد 18 عاماً على انطلاقه وخموده، لا بد من الاصرار على مبادئ يستند إليها، اضافة الى مبادئ الشرعية الدولية وهي: * تحديد الاطار العام للسلام والمبادئ التي يقوم عليها بموافقة مسبقة من جميع الأطراف والدول المعنية. * وضع جدول أعمال محدد لجميع نقاط البحث وتشكيل لجان فرعية لكل نقطة من النقاط. * وضع جدول زمني محدد لا يمكن تجاوزه مهما كانت المبررات بحيث يتم الاتفاق على مهلة محددة وموعد نهائي للاتفاق وتحميل المتسبب في الفشل المسؤولية الكاملة ومعاقبته. * الحصول على ضمانات وتعهدات مسبقة من الإدارة الأميركية حول مبادئ السلام ودور الولاياتالمتحدة اضافة الى ضمانات مماثلة من الدول الكبرى والأمم المتحدة، حتى لا يتم تمييع المواقف والتراجع عنها كما جرى في مدريد وغيرها أو ان تتذرع الولاياتالمتحدة بأنها لم تفلح في جهودها مع اسرائيل أو تتراجع عن ضغوطها عليها. أما العرب فإن واجبهم الأكبر الآن هو تأمين تضامنهم وتوحيد مواقفهم والتحلي بالحكمة والمرونة مع فتح الأعين والآذان واليقظة والحذر والاستعداد لكل الاحتمالات مع تجنب تقديم أي ذريعة أو حجة لاسرائيل للهروب من الاستحقاق القادم. * كاتب عربي