عشية رحيله، اعادت «دار نلسن» إصدار كتاب المفكر اللبناني منح الصلح «الإسلام وحركة التحرر العربي»، وهو يجمع بين دفتيه نصوصاً تتناول قضايا لا تزال ملتهبة في العالم العربي، امتدت من نظرة متنورة للدين الإسلامي في مواجهة موجات الظلامية، الى قضية العروبة في صلتها بالإسلام، وتنتهي بقراءة للعلمانية العربية كما يراها الصلح. في نص بعنوان «أمة عربية مدافعة، وجبهات «إسلامية» مفتعلة»، يتطرق الصلح الى الجبهة المفتوحة من إيران على الأمة العربية. يرى الى التحرك الإيراني في العراق والخليج منتهى العداء للأمة العربية، وهو عداء تجاوز مطامع الحكم البهلوي السابق على الثورة الإيرانية. لكن هذه الخلافات بين ايران والعرب اشتدت اليوم بفعل القوى المعادية للأمة العربية، غايتها «انتهاز ظروف الهزيمة لكسب مواقع جغرافية وديموغرافية واقتصادية وترسيخ أوضاع الكبوة القومية التي يعيشها العرب وتفتيت الطاقة العربية وجعل اسرائيل، لا القومية العربية قطب المنطقة». ويستكمل نقاشه للسياسة الإيرانية عبر نص بعنوان «الإسلام يتحرر من ضغط الرجعية»، فيرى ان هذه السياسة مضطرة الى خلع الثوب الإسلامي عن سياستها والتفتيش عن قضية قومية من النوع العنيف، تساعدها على إلهاء الشعب الايراني عن نضالاته السياسية في سبيل الحرية وعن النضالات الاقتصادية والاجتماعية، بما يجعل السياسة الايرانية قادرة على صرف نظر الشعب الإيراني عن رؤية أعدائه القوميين الحقيقيين من الامبرياليين والاميركيين وأعوانهم. من هنا تصعيد الطبقة السياسية الايرانية العداء ضد العرب والقومية العربية على السواء. يشير الصلح الى ان «الحكم الإيراني حريص في هذه الايام على ان يؤكد عظمة التاريخ الفارسي السابق للإسلام. ويكاد يصرح تحت ضغط حاجته الملحّة الى بتر الأواصر العربية- الايرانية التي خلقها الإسلام، بأن الإسلام نفسه كان خطوة الى الوراء». في المقابل، لا بد من رؤية استيلاء الرجعية العربية على الإسلام ومصادرته لمصلحة سياستها، وقد جعلت من الإسلام والأُخوة الإسلامية وسيلتها في الافتراء والتشهير بحركة التقدم العربي، مصورة ان الرجعية هي الدين وأن التقدمية هي الكفر، ويخلص متفائلاً الى القول «ان ظاهرة انفكاك الرجعية عن الإسلام، تبقى من السمات التاريخية التي نعيش فيها». في نص «رحلة الإسلام من اليمين الى اليسار»، يربط منح الصلح بين الهزيمة التي أصابت العرب بعد الخامس من حزيران (يونيو) وتغييب الدور الاستنهاضي الذي يمكن الإسلام ان يلعبه في مواجهة الهجمة الصهيونية والإمبريالية على العرب وعلى شعوب المنطقة بأسرها. لقد كان شعار الإسلام مرفوعاً على يد الطبقات الرجعية في مواجهة تطلعات الشعوب العربية نحو الوحدة ونحو التحرر الاقتصادي والاجتماعي. رفعت هذه الطبقات شعارات من نوع: لماذا تريدون الرابطة القومية، فيما يشكل الإسلام رابطة الأمة؟ ولماذا يجرى الاعتقاد بمذاهب التقدم والتغيير الاجتماعيين فيما يغتني الإسلام بالحلول العادلة لمصير الأمة؟ هكذا يكون الإسلام شعاراً مرغوباً ومطلوباً من الرجعية عندما تريد منه تمييع الصراعات الوطنية والاجتماعية، اما عندما يكون الإسلام نداء للدفاع عن الحرية والحق في فلسطين وغير فلسطين، «فليس له من نصير إلا الطلائع الثورية، والجماهير، ليس له في النهاية إلا الشاب والفقير، فالإسلام اليوم في اليسار شاء المتاجرون بالدين ام لم يشاؤوا». يتطرق منح الصلح الى «الإسلام وعروبة لبنان»، فيشير الى نجاح الاستعمار في إقامة دولة اسرائيل بالتعاون مع الحركة الصهيوينة مستخدمة الدين اليهودي وأساطيره حول حق الشعب اليهودي في دولة له على ارض فلسطين. في الفترة نفسها، راود الاستعمار ايضاً فكرة إنشاء دولة مسيحية في لبنان مشابهة لدولة اسرائيل في خصوصيتها ودورها في المنطقة، مستغلاً الخصوصيات الذاتية للمسيحيين في لبنان، ولا سيما منهم الموارنة. لم ينجح المشروع الاستعماري في لبنان لأسباب متعددة، أولها اختلاف المسيحية عن اليهودية لجهة الصلات بالتراب الوطني. فالمسيحية «أصيلة في جذورها الوطنية والتي كونتها ثقافة الشرق ككل بما فيها التراث الإسلامي». والسبب الثاني يعود الى ان الحركة اللبنانية المطالبة بإيجاد كيان لبناني خاص لم تكن حركة انفصالية عن الشرق بالمعنى المطلق، بل على العكس كانت متشبثة باللغة العربية والتراث العربي، وكان كثيرون من أرباب الدعوة الى الكيان اللبناني الخاص منتمين الى النهضة الفكرية والثقافية العربية. واذا كان الاستعمار قد لعب على استخدام الاسلام مستعيناً بالتكتلات السياسية المصلحية التي تعمل باسم الاسلام وحقوق المسلمين في لبنان، إلا ان هذه السياسة باتت مكشوفة وساعدت التطورات العربية والهزائم التي منيت بها الطبقات السائدة على «التمييز بين اسلام هذه الطبقات وبين اسلامية الجماهير المسلمة المدافعة عن عروبة لبنان ووحدته الوطنية ومكانته في محيطه العربي». لا شك في ان هزيمة حزيران 1967 فتحت سجالاً حول الإسلام ودوره، فكان هناك من رأى ان ابتعاد المسلمين عن الإسلام هو سبب الهزيمة، فيما رأى آخرون ان الإسلام يمكنه ان يشكل عنصراً في النضال الوطني والقومي العربي في المرحلة المستجدة من تاريخ الشعوب العربية. والهزيمة فتحت النقاش الواسع ايضاً حول حركة القومية العربية وصلتها بالإسلام، في الصراع ضد العصبية القومية التركية المتسلطة على العصبية القومية العربية بحجة الإسلام والحرص على دولة الخلافة. تحتل قضية العلاقة بالجماهير موقعاً مهماً في العلاقة بين الإسلام والعروبة، فيرى الصلح ان مضمون الإسلامية الجماهيرية من حيث الجوهر هو نفسه مضمون حركة التحرر العربي. وهو موقف يتعارض مع نظرة كثير من مثقفي الحركة الوطنية الذين يفتقرون الى النزاهة الفكرية في ممارستهم. يقول منح الصلح في هذا المجال: «فاذا كانت الجماهير تؤخذ في حالات استثنائية بمحاولة الضرب على وتر الرابطة الدينية ووضعها محل الرابطة القومية، فإن موقف المثقف العربي التقدمي هو دائماً موقف تهيّب من الاعتراف بالوحدة العميقة التي تجمع بين المضمونين». في نص ختامي بعنوان «العلمانية العربية»، يطرح الصلح موقفاً حازماً يرى ان ليس للحركة العربية خيار في ان تكون علمانية او لا تكون. «فصفتها التقدمية تحتم عليها ان تخضع في مفاهيمها الاخلاقية والمسلكية لتطور الجماعة وتجددها. وصفتها الشعبية تأبى عليها القبول بالحد من سلطان الشعب في انتقاء نوع الحياة التي يهوى، وتقرير نظم العيش الذي يريد. وصفتها الانقلابية الحرة تتناقض مع التسليم الإيماني بقدسية القانون او الدستور او الوضع الراهن». هكذا تبدو بذور العلمانية مترافقة مع ظهور البذور الاولى للفكرة القومية. كما ان العلمانية في الفكرة القومية العربية ليست راية ضد الأديان، انما هي يقظة على ضرورات الواقع والتاريخ. صحيح ان نصوص كتاب منح الصلح تعود الى عقود خلت... فقد لا تكون الأفكار التي طرحها تشكل إجابات عن الحاضر العربي اليوم. لكن هذه النصوص تحمل في طياتها مقدمات فكرية لما آلت اليها اوضاع الشعوب العربية في المرحلة الراهنة من تطورها.