لم يتوقع الكثير من المراقبين أن يحصل ما حصل من خلاف بين روسيا وايران بشأن محطة بوشهر الكهروذرية الإيرانية لدواع تجارية، ذلك أن العلاقة الروسية الإيرانية يفترض أن تكون اكثر عمقاً وتعاوناً، فهي ليست محصورة في هذه الزاوية فقط بل متشعبة إلى أمور كثيرة تتصل بالتزام موسكو بناء العديد من المفاعلات النووية في إيران، وشراء طهران للسلاح الروسي المتطور، بالاضافة إلى المبادلات التجارية في مجالات أخرى، في حين هناك مسألة مواجهة سياسة التفرد والهيمنة الأميركية التي تشكل قضية مشتركة للدولتين. ومع ان موسكووطهران كذبتا المعلومات التي راجت عن تعهد روسيا عدم تسليم إيران أي وقود نووي لمحطة بوشهر قبل ان توقف تخصيب اليورانيوم، وأعلن عن حل الخلاف في ما بعد، إلا أن ذلك لم يبدد الشكوك في أن يكون القرار الروسي المفاجئ له علاقة بسياسة موسكو الخارجية، وعلاقاتها التجارية مع الدول الأوروبية من جهة، ووجهة نظرها الخاصة من موضوع الملف النووي الإيراني، والتي لا تتفق مع وجهة نظر واشنطن، ولا تلتقي في الوقت عينه مع الرؤية الإيرانية بالكامل من جهة ثانية. وما يثير الاسئلة حول خلفيات القرار الروسي أنه جاء متزامنا مع النقاشات الدائرة بين اعضاء مجلس الأمن عشية صدور القرار الجديد الذي نص على فرض عقوبات إضافية على إيران، إذا لم توافق على وقف العمل بتخصيب اليورانيوم. لكن إذا دققنا ملياً في خلفيات الموقف الروسي يمكن أن نقع على جملة من تفسيرات له: أولاً: أن تكون روسيا اضطرت إلى اتخاذ هذا القرار من اجل ارضاء الدول الأوروبية التي تربطها بها علاقات تجارية واقتصادية، اكبر بكثير من تلك التي تربطها بايران، لا تستطيع الاستغناء عنها وتريد المحافظة عليها، وهذا غير ممكن إلا إذا مارست ضغطاً على إيران، بما لها من تأثير نابع من دورها في بناء محطة بوشهر ومفاعلات إيرانية أخرى، وبالتالي التفسير الأول يكمن في أن روسيا عندما وضعت أمام المفاضلة بين خيارين: اما علاقاتها مع أوروبا، أو إيران، فضلت الخيار الأول. ثانياً: أما التفسير الثاني للقرار الروسي فينطلق من ان موسكو تريد أن تحافظ على علاقاتها مع كل من إيران وأوروبا في الوقت ذاته، وهذا غير ممكن إلا إذا أخذت موقفا، يبدو في الظاهر أنه على خلاف مع إيران، يتيح لها هامشاً من المناورة في مجلس الأمن يمكنها من العمل على منع صدور قرار متشدد ضد إيران تحت عنوان ان مثل هذا القرار لا يحل المشكلة وأن طريق المعالجة لملف إيران النووي يكون من خلال ابداء المرونة والتفاوض للوصول إلى تسوية على غرار ما حصل مع كوريا الشمالية، وهذا ما ظهر في المداولات. ويعتقد أن موسكو إذا أخذت هذا الموقف وهي على علاقة وفاق مع إيران، فان ذلك سيؤدي إلى حصول توتر في علاقتها مع دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما تسعى إلى تجنبه، لكنها بالمقابل لا تريد خسارة علاقتها المهمة مع إيران من الناحتيين الاقتصادية والسياسية، ويعزز هذا التفسير رد الفعل الأميركي والأوروبي على القرار الروسي، حيث قال مسؤول كبير في واشنطن: لسنا متأكدين من الدوافع السياسية والتجارية هنا، لكن من الواضح ان الروس والإيرانيين يضغطون على اعصاب بعضهم بعضاً وهذا ليس سيئاً. في حين قال مسؤول اوروبي كبير: نعتبر هذا القرار مهماً جداً من قبل الروس. إنه يبين ان خلافنا مع الروس حول مخاطر البرنامج النووي الإيراني هو تكتيكي.. فالروس ايضاً لا يريدون إيران نووية. ثالثاً: خوف وقلق روسيا من احتمالات حصول تفاهم أميركي إيراني، خاصة بعد فشل أميركا في العراق والمخاطر التي تكتنف توجيه ضربة عسكرية لإيران، وبالتالي بداية اتصالات إيرانية أميركية على خلفية شعور أميركا بأن إيران باتت لاعبا قويا أكبر من روسيا في العراق ومنطقة الخليج وبحر قزوين، حيث المصالح الحيوية الاستراتيجية بالنسبة للسياسة الأميركية، ولذلك من الممكن الدخول مع إيران في عملية تنازلات متبادلة في هذه المناطق، وهو ما يدفع روسيا إلى التخوف من امكان حصول اتفاق إيراني أميركي بنتيجة المفاوضات حول العراق، الأمر الذي سيكون على حساب دور ومصالح روسيا في هذه المنطقة الحيوية من العالم والقريبة من حدودها. من هنا فان موسكو تسعى من خلال قرارها إلى ايصال رسالة لطهران بهذا الشأن والقول لها إنها لا تستطيع التخلي عن روسيا. رابعاً: وجود احساس لدى روسيا بان إيران امتلكت القنبلة النووية، ما يجعل منها قوة اقليمية مستقلة غير خاضعة لسلطان، لا روسيا ولا أوروبا أو أميركا، خاصة أن هذه القوة قريبة من حدود روسيا وتقع على بحر قزوين وعلى الحدود مع افغانستان وجمهوريات سوفياتية سابقة وبامكانها اقامة علاقات قوية مع هذه الدول تؤثر على علاقتها مع روسيا، كما حصل أخيراً عندما وقعت إيران وارمينيا اتفاقاً لانشاء خط انابيب لنقل الغاز الإيراني. لذلك ليست لموسكو مصلحة في أن تصبح إيران قوة مستقلة قادرة على الاستغناء عنها. خلاصة القول إن القرار الروسي طرح بكل تأكيد طبيعة العلاقة الروسية الإيرانية، غير أنه مع ذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هذه العلاقة حديثة نسبياً وأن إيران لها مصلحة بالمحافظة عليها لاعتبارات عديدة اقتصادية وسياسية، في حين من المعروف أن السياسة الروسية تعتمد على الغموض احياناً ما يجعل من الصعوبة الجزم بتفسير من التفسيرات التي ذكرناها آنفاً للقرار الروسي. * كاتب فلسطيني