المتنبّي شاعرٌ كبير، وفي اللغة العربية هو الأكبر من دون شك. صحيحٌ أننا يمكننا لومه على أشياءٍ كثيرة، ولكن بالقياس إلى شعره وإلى ما استطاع إخراجه من ذاته ومن اللغة في أعلى لحظات وحيه، كل ما يؤخذ عليه يظل تافهاً. الشعراء هم أشخاصٌ مثل سائر البشر، وبالتالي يخضعون لأهواءٍ كحب السلطة والنفوذ والتبجّح والنرجسية والانعطافات السياسية الانتفاعية. عند كثير من الشعراء، العرب وغير العرب، لاحظنا مثل هذه الانحرافات وأخطر من ذلك. في فرنسا مثلاً، ما علينا إلا تأمّل الإسراف والطيش في حياة الشاعر فرانسوا فييون، أو مدى تأثير المصائب المالية التي عرفها بودلير على حياته. نعرف أيضاً أن راسين، الكاتب المسرحي الكبير ولكن أيضاً الشاعر الممتاز، كان جليساً courtisan، الأمر الذي لم يمنعه من الانسحاب من بلاط الملك لويس الرابع عشر، وهو في السابعة والثلاثين من عمره، للاهتمام فقط بأبحاثه حول الدين. الأمر الذي شكّل خسارة كبيرة للمسرح وللشعر الفرنسيين. يمكن منتقدي المتنبّي أن يقولوا ما يريدون عنه، لكن، مهما كانت هويتهم، سيظهرون دائماً كأقزامٍ أمام هذا العملاق. وأعتقد بأن سر أسطورة المتنبي يكمن أولاً في ذلك الادعاء المدهش، في اختياره"المتنبّي"كاسم مستعار، أي ذلك الذي يتوق إلى التنبؤ. يا للغرور! يا للمغالاة النيتشوية! يا للثقة بالذات أيضاً وبقوة كلمته! وحده، المتنبّي يختصر الصحراء العربية برمّتها وكل الإرادة العربية في السيطرة على مكان التجرّد هذا، الذي وصفه المستشرق الكبير جاك برك بپ"العالم المحروم". الشاعر الكبير يحيا بحدةٍ كبيرة ويبقى كامل الوعي والحضور لوضعه كإنسان. الحياة هي نسيجٌ من التناقضات والتمزّقات. في الأتون الموحِّد للغته المبدعة. أحرق المتنبّي كل تناقضاته وحوّلها إلى مادة صافية لنشيده. * شاعر لبناني بالفرنسية