شكّلت الحرب الأهلية اللبنانية التيمة المحورية لأعمال روائية عربية وأجنبية، وهي وإن اختلفت في منطلقاتها الأيديولوجية وأساليبها الفنية، فظلّت تجمع بينها سمة بارزة هي أنها بمعظمها روايات مدينية عن الحرب. من هنا تبدو "شجرة الآس" الرواية الثالثة، والثانية بالإنكليزية للروائي والشاعر اللبناني جاد الحاج، الصادرة حديثاً عن دار "بانيبال بوكس"، رواية مغايرة عن الحرب، لكونها تتناول من منظار القرية اللبنانية، وخصوصية تجارب أهلها ومعاناتهم فيها، انطلاقاً من موروث أخلاقي وديني واجتماعي ومعيشي ومآثر تاريخية تعود إلى زمن النضال الشعبي ضد الأتراك ثم الفرنسيين لاحقاً. ولعل إبراز الحاج هذا الموروث، بدا كأنه يتخطى حاجة الحبكة الروائية إليه لتغذية أفكارها الرئيسة ودفع السرد إلى الأمام، إلا أنه لم يتخذ طابع الحشو، لكون الكاتب أتقن توظيف هذا الموروث في البناء الروائي، بعفوية وسلاسة، لا يشعر معهما القارئ بأن ثمة خروجاً عن سياق السرد. لكأنّ الحاج سعى من خلال روايته هذه إلى تحقيق هدف آخر يتجاوز توفير الشرطين، الفكري والفني، لكتابة هذه الرواية، إلى التنبيه إلى هذه الثروة المعرفية التي في طريقها إلى الامّحاء من الذاكرة الجماعية، وتعريف الشباب اللبناني اليوم، المقيم والمهاجر، بزمن البراءة الأول وما حواه من عادات وتقاليد وقيم إنسانية وأخلاقية ينبغي ألا تتلاشى من وجدانهم لأنهم بها يتعزّز انتماؤهم إلى وطنهم ما دامت هي جزءاً من تراثه وتاريخه. غير أن هذا لا يعني أن الرواية موجهة إلى قارئ بعينه، فالقارئ عموماً، وخصوصاً الأجنبي، سيجد فيها صورة بانورامية غنية عن التراث والفولكلور اللبنانيين من الواضح أن الحاج بذل مجهوداً فنياً كبيراً لنقلها إليه. كذلك سيقع هذا القارئ على صورة مغايرة للحرب اللبنانية قلما صادفها في الميديا، تعكسها مواقف إنسانية وأحداث شخصية محضة، لا تركّز على السياسي والأيديولوجي في هذه الحرب بقدر ما تركز على معاناة الإنسان اليومية فيها، وعلى آماله وطموحاته وخيباته وصراعه الداخلي بين مسلماته وحاجته القسرية إلى نقضها. تجرى أحداث الرواية في سبعينات القرن الماضي، خلال الحقبة الأولى للحرب، في قرية لبنانية خيالية، اسمها"وهدة"، تعمّد الكاتب عدم تحديد موقعها الجغرافي أو ديانة أهلها، جاعلاً منها قرية نموذجية تضمّ معظم العناصر المشتركة بين قرى المناطق اللبنانية سواء على صعيد الاعتماد على الأرض وتربية المواشي كمصدرين أساسيين للمعيشة، أم على صعيد ما توطدت عليه العادات والتقاليد القروية العامة في طريقة إقامة الأعراس والجنازات، وفي طبيعة الرقص والطعام واللباس، وما يحويه المخزون الشعبي من أمثال وحكم وقيم... آدم عواد، بطل الرواية الرئيسي، الذي يجري السرد على لسانه، شخصية غير قروية في المعنى التقليدي. فهو رجل جامعي مثقف، اختار العيش في قريته مع زوجته وابنته البالغة من العمر أربع سنوات، على رغم مناشدة والدته له اللحاق بها إلى بيروت بعد وفاة والده. غير أن مقته لما تخفيه هذه المدينة خلف قناعها المزيف، ولفوضى الحياة فيها، وقد ساهمت الحرب في تعميق مظاهرهما، ساهما في إصراره على البقاء، خصوصاً مع صعوبة تخلّيه عن حلمه بإعادة تشغيل معصرة الزيتون التي كان خلّفها أبوه وراءه. عالم الميليشيات تبدأ الرواية بزيارة أحد قادة الميليشيات عم آدم في منزله، والأخير هو حكيم القرية، يوليه أهلها احتراماً كبيراً وثقة عمياء، ويلجأون إليه للفصل في مشاكلهم، والبتّ في القرارات المصيرية المتعلقة بأمن القرية وسلامتهم. تأتي زيارة هذا القائد بإيعاز غير معلن من"نمر"ابن مختار القرية، وهو شاب عاقّ، شرس، سيئ الأخلاق وانتهازي، من أجل إقناع عم آدم بتسليمه مفتاح قلعة قديمة يعتقد أهل القرية بأنها مسكونة، كي يتم تحويلها معسكراً لتدريب شباب المنطقة وتسليحهم للدفاع عن القرية في حال تعرّضها إلى اعتداء ما من القرى المجاورة. يجهد العم بحنكته لتفادي توريط قريته المسالمة في ما لا تُحمد عقباه، لكن أقصى ما يستطيعه، تأجيل تسليم المفتاح ثلاثة أسابيع، كي يتمكن الأهالي من قطاف محاصيلهم من الزيتون. ولن تفلح محاولة آدم برفقة الشاب فاعور، وهو تلميذ سابق لزوجته وبمنزلة أخ صغير له، في استثمار علاقة متينة كانت تربط والده بأحد الرجالات الفاعلين في قرية مجاورة، من أجل عقد اتفاق متبادل يضمن عدم تعرّض أبناء القريتين بعضهم لبعض. الحرب قلبت المقاييس كلها، ولم يعد القرار في أيدي العقلاء الكبار ممن كان لكلمتهم وزن في الضمير الجماعي، بل في أيدي ثلة من شباب الميليشيات"الزعران"المدججين بالسلاح، المتعاطين المخدرات والذين ليسوا كلهم بالضرورة من أبناء المنطقة. مع تواتر أحداث الرواية، يعمد الحاج إلى تغطية معظم مظاهر الحرب وآثارها السلبية على مجتمعَيْ المدينة والقرية، في سياق سردي يتراوح بين المشاهدة الحيّة، والتذكّر، والمراسلة، وحتى تأويل الأحلام. فنجده يشير إلى أمور مثل: القتل على الهويّة، الاغتصاب، الهجرة، الخطف لقاء فدية، الأدوية الفاسدة، إقفال المدارس، الرشوة في المؤسسات الرسمية، القناصة، المرتزقة، إفلاس الشركات، الاتجار بالسلاح والمخدرات، عصابات السلب والنهب، ضياع الأجيال الشابة، عقوق الأولاد، تلوث البيئة، حياة الملاجئ، انقطاع المواد الغذائية، السوق السوداء، آثار الحرب على الأطفال من خلال تعابيرهم، والقائمة تطول... عبثاً يسعى آدم، الإنسان المسالم المتمسك بأرضه وحلمه وأمله، إلى استبعاد فكرة الهجرة من رأسه، على رغم رفضه المبدئي لها. فهو مع تصاعد وتيرة الحرب وفقدانه عمه وجدته، ومع وقوع القرية تحت سيطرة عناصر ميليشوية، معظمهم لصوص وقتلة وحشاشون، لا يجد مناصاً من التعاطف مع رغبة زوجته في الهجرة إلى استراليا حيث تقيم شقيقته. وفي وقت يتباكى الناس على أبواب السفارات من أجل ترك البلد أو ترحيل أبنائهم عنه، تبدو عودة فاعور من الخارج مستغربة من جانب كثيرين، ومستنكرة لدى والده. وفاعور الشاب الواعد، هاوي القراءة والكتابة، كان هاجر إلى الأرجنتين هارباً من معسكر التدريب، ورافضاً المشاركة في لعبة الحرب القذرة. وهو لأسباب تتعلّق بحظه العثر، يضطر للعودة إلى قريته حيث يعيش وحيداً في خيمة قرب النهر، بعد تعنيف والده له، ويراوده حلم بأن يصبح كاتباً. ولن تطول وحدته قبل أن يقع في غرام زوجة نمر، وهي سيدة راقية كانت تعرّضت للخطف، واشترط عليها الأخير قبول الزواج به مقابل إنقاذه حياتها. مع اقتراب موعد الرحيل، يفلح آدم في إقناع زوجته وأمه وابنته بالسفر قبله إلى قبرص، على أن يلحق بهن عند تمكنه من بيع شقة والدته في العاصمة. ولاحقاً يعقد العزم على مساعدة فاعور وعشيقته سناء على الهرب من القرية والسفر برفقته إلى خارج البلاد. غير أن خطة آدم ستبوء بالفشل بعد اكتشاف الزوج لنيّة زوجته وإقدامه على قتلها، ليعود فيُقْتَل على يد فاعور بمسدس تعود ملكيته الأصلية له. آدم هو الآخر يموت على اثر اصطدام سيارته بشجرة سنديان أثناء محاولته الفرار من القرية برفقة فاعور، للحاق بعائلته. لكن موت البطل الذي يجري على لسانه السرد، يضع القارئ في حيرة، إذ كيف يكون الراوي شخصاً ميتاً؟ المفاجأة الحقيقية تتبدّى لنا في السطر الأخير من الرواية، فنكتشف في الخاتمة الخيالية لها، أن حلقة الأموات التي تجتمع تحت شجرة الآس، تخلو من توأمي سناء اللذين كان أشار الراوي سابقاً إلى نجاتهما من ثأر نمر، ومن فاعور الذي يتبين لنا أنه هو كاتب الراوية! تحقق مسعى الحاج في مقاربة الحرب الأهلية من منظار البيئة القروية اللبنانية وبناء على ما يجمع بينها من عناصر مشتركة، إلى حدّ بعيد، خصوصاً مع إغفاله المتعمّد للجانب الديني. غير أن ما قد يُخفى على القارئ الأجنبي، قد يلاحظه القارئ العربي، والأرجح أنه سيقابله بغضّ النظر، ألا وهو مظهر شرب العرق، الحاضر والمتكرر في السرد، تقريباً في كل مناسبة وكل بيت، وفي جلسات الأحياء والأموات، وهذا ما لا ينطبق على واقع الحال في القرى اللبنانية لأسباب ليس أقلها التحريم الديني. وثمة إشارة ثانية في الرواية تُحيل في شكل واضح إلى ديانة أحدهم، إذ يقول:"في ديانتي، نحن نؤمن بالاستمرار الأبدي للحياة، وبالتطهر من خلال التجربة والخطأ"، مؤكداً أن الحاج أتقن حَبْك أحداث روايته بطريقة لم تألُ جهداً في مقاربة الواقع الحقيقي للحرب، عبر تصويره فظائعها في تجارب حيّة تعيد إلى أذهان القراء الذين عايشوا مشاهدات مماثلة. لكن هذا السعي لم يغفل الأخذ بالشرط الفني للرواية، فجاءت عناصرها متوالفة وفق ما يتطلب البناء الروائي، حيث إنها تُقنع القارئ بتناولها كعمل إبداعي، في وقت تستثير أحداثها مشاعره بالقدر الذي تستثيرها فيه حقائق من سيرة ذاتية. في معنى آخر، استطاع الحاج أن يمنح الحَدَث الواقعي الجرعة الكافية من طاقته الإبداعية ليجعله حَدَثاً روائياً يتفوق على الواقع بواقعيته الفنية. من ناحية ثانية، تأخذ شخصيات الرواية كشخصية رامح مثلاً، مأمور القرية وبعض أحداثها كقصة اغتصاب الفتاة حلوة طريقها إلى القارئ عبر قنوات رمزية تحثّه على الوقوف والتساؤل أمام تفاصيل يصعب أخذها بظواهرها. من هنا قد تبدو أيضاً حوارات آدم مع قائد الميليشيا أو زوجته او ابنته أو غيرهم، مرايا تعكس سجالات ومواقف وآراء وصراعات تجري على مستوى فئات مختلفة من المجتمع، وعلى مستوى الشخص نفسه عند بلوغه حالات من الضياع قد تضطره إلى تغيير جلده ومخالفة قناعاته. قد يقول أحدهم: أف... رواية أخرى عن الحرب! أوَتنقصنا؟ نقول: نعم تنقصنا. روايات وروايات كثيرة كهذه تنقصنا بعد، هذا بافتراض أن للروايات قراء، ومن ثم القدرة على تحدّي أسياد الحرب. تأتي رواية الحاج في هذه الظروف الخطرة والحرجة التي يمرّ بها لبنان، لتذكّر بما يصرّ البعض على نسيانه، علّه يرتدع فلا يصرّ على أن يُلدَغ من الجحر مرتين! يوقع جاد الحاج روايته "شجرة الآس" بدءاً من السابعة مساء غد الجمعة في مكتبة "فيرجين" - سيتي مول، بيروت.