تتلخّص مفارقة المتنبّي المأسويّة بعدم اكتفائه بفرادته الشعريّة وإصراره العنيد والمُهين على إردافها بمكانة في السّلطة السياسيّة. هي حالة أنموذجيّة، بما تتمتّع به المفردة"أنموذجيّ"من ازدواج تأسيسيّ أشار إليه دريدا في غير موضع. فهو أنموذج فريد في التّعبير عن حالته الخاصّة، ولكنّه يطرح أيضاً نفسه قدوة تُحتذى ومثالاً يُنسَج على منواله. وبالفعل، طالما تكرّر مثال المتنبّي في تاريخ الأدب العربيّ القديم والحديث، ونحن نجد بين معاصرينا من تبلغ لديهم حالة المتنبّي، حتّى لا نقول عقدته، حدوداً من التّكرار واقتفاء الأثر تُشعر المراقب بأسف ورأفة عميقيَن. مبعث الأسف والرّأفة هو أنّ هذا التّكرار يحاكي بما يشبه الملهاة سلوكاً شكّل في حدوثه الأوّل، بحسب عبارة ماركس، حالة مأسويّة. ينبغي أن نحشّد كل معارف التّحليل النفسيّ، في صيغته الفرويديّة الأرثوذوكسيّة أو في صيَغه المنقَّحة، على يد رنيه جيرار مثلاً، لنفهم سرّ هذا الانجراف وراء سلطة متلمّصة وزمنيّة ينجرّ إليه كائن أسلسَ له الفنّ قياده بصورة مدهشة. ذلك أنّ في طمع المتنبّي بمنصب يأتيه من سيف الدّولة أو من كافور عمى عن قوّته الشعريّة وطمعاً بقوّة الآخرين. إنّ ذكاء مختلاًّ وموهبة فاسدة يصوّران له أنّ"سعادته لن تكتمل إلاّ متى باركتْها نظرة الآخرين"ريلكه. شهوة السّلطة كمناسبة لنيل الاعتراف تجد في نظرنا أحد تنويعاتها في شهوة الاعتراف الكونيّ والإقرار العالميّ التي يجنّد لها بعض الأدباء العرب اليوم طاقاتهم، وتجبرهم على إسداء خدمات معلنة أو مخفيّة لأكثر من سلطة، وعلى أن يتحوّلوا هم أنفسهم إلى سلطة أدبيّة أو إعلاميّة أو مؤسّساتيّة تهمّش المتمرّد وتستعبد القريب. وكلّما اتّسعت رقعة الاعتراف المرحليّ تعمّقت المسافة بينهم وبين الفنّ، بصورة تبشّرهم بزوال قريب ومأسويّ يعملون هم كلّ شيء لإزالة شبحه ولا يفعلون في الحقيقة إلاّ أن يزيدوه قرباً. ذلك أنّ ما فاتَ ماركس أن يلتفت إليه في عبارته الشّهيرة هو أنّ الملهاة تتحوّل بتكرارها إلى مأساة. ووراء هذا كلّه وليس يتّسع المجال لبلورة هذا التّحليل يقف فقر قديم لم يقبل به صاحبه أو مَن كان ضحيّته، وعمى عن سلطان الفنّ وإهانة له على أعتاب سلطات أخرى. هو مسار متعثّر يتبعه محرومون كثيرون من أعياد الطّفولة ووجاهة الأصول. يرى فرويد أنّ تكرار المأساة - الملهاة وتفاقم الجراح النّاجمة عن هذا الوهم المضني يهبان المرء الواقع في هذا الفخّ الأليم، إذا كان فطناً وفنّاناً حقّاً، صحوة تدفعه إلى تغيير مساره والاضطلاع بفقره والاكتفاء بالحظوة التي يقيمها له الفنّ في حاضره وفي ضمير الأجيال. لا نعرف إذا كان المتنبّي، لو طال به العمر وأخطأه سيف ابن أخت فاتك الأسديّ، مهجوّه القديم، سيحقّق مثل هذه الصّحوة ويطلق العنان لعاطفته التي بقيت ملجومة في مجمل شعره، لا تتفتّق عنها إلاّ أبيات معدودة. لكنّ في البطء الذي يبديه بعض معاصرينا في تحقيق مثْل هذه الصّحوة ما يجعلنا نأسف لعالَم الأدب ونأسى لأنّ درس فرويد الأساسيّ هذا لا يلقى تطبيقه إلاّ في ما ندر. * شاعر عراقي