- 1 - " أنا، في أمة تداركها الله، غريب ...": ذلك هو المفتاح الأول لكي نفهم ظاهرة المتنبي، شخصاً وشعراً. مفتاح"الغربة"داخل"الأمة"- داخل"الجَمع"واللغة التي ينطق بها. غربة"لغة"تُعبر، جمالياً، من جهة على نحو يغاير ما هو مألوف في الحياة اليومية. وتحمل، من جهة ثانية، رؤية للعالم تغاير الرؤية التي تسوده. غربة مزدوجة: فكرياً وجمالياً. - 2 - الشاعر /"الغريب"، بدئياً، لا يقيس نفسه بالجمع الذي ينتمي إليه، ذلك أنه"غريب"فيه، وعنه. ثم إن الجمع ليس هو من يكتب القصيدة. وإنما يكتبها الفرد الشاعر. والشاعر بوصفه خلاقاً لا"يُصلح". إنه، على العكس،"يهدم"من أجل الوصول الى ما هو أجمل وأفضل. حين يكون الشعر"إصلاحاً"يلغي نفسه. والشاعر، إذاً، ليس صوت"الجمع"، وإنما هو صوت الوجود والمعنى، وصوت نفسه عبرهما. وبوصفه كذلك، يجيز لنفسه كل ما يُجيزه فعل الخلق:الوحدة، والتميز، والفرادة. ولا"أَنَوية"فردانية في هذا كله، وإنما هي أنوية الذات الشعرية. هكذا نرى أن الذات الشعرية التي تُفصح عن"غربتها"داخل"الجمع"وعنه، ليست"تضحية"فردية، أو أنانية، أو"فحولية"، لكي نستخدم المصطلح القديم، وإنما هي ذات"غريبة"، ذات شعرية - رؤيوية. غير أن ثقافة الجمع، أو ثقافة القبيلة لا ترى من طبقات هذه الذات، المتعددة، المتنوعة، المتصارعة، المتناقضة، إلا الجانب الأكثر التصاقاً بالقبيلة - السطح المبتذل. ذلك أنها لا تقيس الشاعر على الشعر، وإنما تقيسه على الجمع. ولا تراه بعين"الإبداع"، وإنما تراه، على العكس، بعين"الاتباع". وفي قياس الشاعر على الجَمع لا على الشعر، ما يضمر نفيه بوصفه شاعراً، أولاً،وإثباته بوصفه، أولاً، مجرد عضو في قبيلة. - 3 - داخل هذه الغربة، عاش المتنبي وكتب، وقُتل: في الترحل، الى الأمام، في المخيلة. لا لكي"يصل"، بل لكي لا يصل. لكي يخلق دروباً يمحوها، فيما يخلق غيرها. لكي يرى، لكي يظل يقظاً، لكي يحلم، لكي يبقى نبضاً، توتراً، استبصاراً واستقصاء. لكي يلمس، ويُحيط، ويستدرك، ويتقدم. لكي يُغل في فهم الأشياء، في حطام البشر ورُكام العالم، في بهاء البشر وبهاء العالم. لكي يضع السماء والأرض في ثوب واحد. لكي يرتدي هذا الثوب. لكي يزاوج بين المرئي واللامرئي، ويحضر أعراس هذه المزاوجة. لكي يزرع اللغة فتنبت في كل شيء، كأنها عشب الأرض. لكي يقشر اللغة كأنها البصلة الكبرى: البصلة - الوجود. لكي يوحد بين الظل والضوء، النهار والليل، ويكون كمثل إيقاع ينسكب في هذا التوحيد. لكي يستأصل الجدران التي تحول دون الرؤية، والسير، والتحرر. لكي يبقي الفضاء مفتوحاً، والكون بلا حدود. لكي يرفض أن يكون"الجمع"فوق كل شيء. لكي يقول: الانسان الفرد هو سيد نفسه، ووجوده، ومصيره. لكي ينفصل عن عمال القبلية عمال"العقيدة"وپ"التمذهب"وپ"التسيس". لكي يضع هو نفسه شروطه غير قابل إلا بها ألم يشترط ألا يقرأ شعره أمام سيف الدولة إلا جالساً، فكيف، إذاً، لا نرى في"مدحه"له، إلا مجرد المدح له؟ ألم يقل مزدرياً أولئك الذين انتقدوا علاقته مع كافور:"وما كان شعري مدحاً له ولكنه كان هجو الورى"? هجو"الجمع"الذي دفعه لكي يذهب الى كافور. لكي يلغي الخضوع الى ما يقوله"الجمع". لكي يلغي نفسه، إذا ضعفت وخضعت. لكي يلغي الآلة الاجتماعية: السيد/ العبد، العبد/ السيد. أحميك إذا خدمتني/ أخدمك إذا حميتني. - 4 - "مدح"المتنبي أشخاصاً كثيرين، لكن ليس لكي يُمجدهم، بل لكي يملأ فراغ الغربة والرغبة. كان في"مدحه"يستبطن تخيلاته. شهواته. ومطامحه، بوصفه رائياً، لا"مستجدياً". كان يستقصي مخيلته - يمتحنها، يرجها، فيما يزن حياته، ويعركها، ويعلو عليها. كانت"مثلنة"الممدوح وليدة البحث عما يحلم به. كانت صورة لذاته في الآخر. كان يتماهى مع الآخر، لكي يصبح هو نفسه الآخر - السيد. كان يعارض نفسه لكي يثبتها فيما يعارضها. كان يخلق فوضاه الخاصة، فيما يخلق نظامه الخاص. وفيما كانت السلطة، آنذاك، رهان العرب الأول، وفيما كان يمتدح بعض ممثليها، كان يعلن رهانه الخاص:"ولا أعاشر من أملاكهم أحداً/ إلا أحق بضرب الرأس من وثن". في هذا كله، كان المتنبي يهدم الأنا القبلية، والأنا المذهبية. لا ينتمي إلا الى ما يتسع لتناقضاته، ويحتضنه، ويتيح له أن يقيم فيه: اللغة. كانت اللغة وطنه الحقيقي. كانت بيته الحميم. باللغة صاغ مشروعه: تحرير الحياة، جمالياً، وتحرير الإنسان، شعرياً. وكانت السياسة عنده طوباوية إنسانية تؤسس لها طوباوية جمالية ? شعرية. - 5 - شعر المتنبي قطيعة وانشقاق. فهو مليء بالتمزق، والانتهاك، والمخالفة والحيرة، والمرارة، والتصدع، والترحل، والفسخ، والفصم. مسكون في الوقت نفسه بحسب العظمة التي يسميها بعضهم"فحولة"، فيما هي نقض كامل وجذري للفحولة. فهذه تجسيد للأنا التقليدية القبلية، وشعره هدمٌ منظم للقبيلة والقبلية. وهي، كذلك،"أنا"صغيرة أنا ارتكاس وارتداد، والأنا التي يلهج بها، عالية: انفتاح على الكون. هجوم واقتحام، نحو ما هو أعلى وأبعد. - 6 - ثمة ركام من الآراء حول المتنبي وشعره لا تشوه شخصه وحده، وإنما تشوه كذلك تجربته وشعره. وليس سهلاً زوال هذه الآراء. فهي تحتاج الى عمل مزدوج: القراءة - الفهم - النقد، على نحو حاذق وخلاق، من جهة. ومن جهة ثانية، الخرق الكامل للمعايير والنماذج والقواعد والضوابط العادية، المألوفة. وهذا ما نراه في الثقافات المدنية، في العالم، عندما تدرس شعراءها. فالصفات التي تطلق على المتنبي كمثل"الفحولة"، وتضخم الذات... الخ، لا تطلق، مثلاً، على نيتشه أو رامبو، اللذين يشبهانه، من هذه الزاوية، حصراً. فلا ينظر إليهما إلا بوصفهما خلاقين. العقل هنا شعري - فني. إنه عقل إبداعي. أما العقل الذي"يحاكم"المتنبي فهو عقل"أمّيّ"نسبة الى الأمة، ولتسمح لي اللغة بهذا"الخطأ"، عقل فحولي، بوصف الأمة هي، وحدها،"الفحل". عقل لا يرى في المتنبي الشاعر، أولاً، وإنما يرى فيه، أولاً وأخيراً،"الجمع"، وپ"دينه"، وپ"انتماءه". عقل"جمعي"نوع من التوهم، لا عقل شعري - فني. "الجمع"خندق مليء بالسلاسل، يتدوّر أو يتكوّر حول"قائده"وطبيعي أن يرفض من يخترق هذا الخندق. أو أن"يقتله"، بشكل أو آخر. وأولئك الذين يقومون بهذا"القتل"إنما هم"حراس"هذا الجمع، اللغويون، أو الناطقون باسمه - نظاماً، وقيماً. - 7 - في هذا السياق تقاس الأهمية الفنية والثقافية والإنسانية لشعر المتنبي وتجربته. وتقاس قوتهما وقيمتهما. لكن هذا يقتضي مستوى عالياً من الإدراك والفهم والخبرة الشعرية - الجمالية، كما أشرت، وهو ما افتقده النقد الشعري العربي، ماضياً، ويفتقر إليه اليوم. المتنبي عالم متنوع ورحب يفرض علينا أن نعيد تحديد العلاقات بين الشعر والحياة، الشعر والزمن، الشعر والتاريخ، الشعر والبشر. وأن نجدد فهمنا لمعنى الشعر، ولمعنى التجربة الشعرية. عندما يعيش بشر في مناخ يهيمن عليه ثلج الانتماءات، وشراسة السياسات، فإن علينا أن نعطي الأولية للخرق، وپ"الهرطقة"، والتجاوز، للتمرد/ والخروج وما يتولد عنهما أو يصاحبهما من نشوات وانخطافات، وأن نتهيأ داخلياً، نفسياً وفكرياً، لكي نحسن فهم الطرق التي تتيح للشاعر أن يبني نقاط انطلاقه واستدلاله، وعلاماتها، وآفاقها، وكيف يعطي لهذا كله معناه، وكيف يكشف عن هذا المعنى. ولا بد لنا، في هذا كله، من أن نتمتع بالقدرة على تخيل الشاعر منفلتاً من كل قيد إلا"قيد"الجمال، والإبداع، وپ"اللغة"يندرج في الكون بمتعة فكرية وجسدية بحيث يبدو كأنه يغامر في هذا الكون خفيفاً، وفي ما وراء كل حد. وفي هذا الإطار يبدو المتنبي مثالاً شعرياً لاسترداد إنسانية الشاعر العربي الذائبة في"الجمع"، وپ"القبيلة"وپ"الأمة". - 8 - "الكتاب"الذي كتبته مرتدياً قناع المتنبي، إنما هو نشيد داخل"غربته"القديمة وداخل الغربة الحديثة المتواصلة. نعم، لا يزال شعر المتنبي صامتاً. "الكتاب"محاولة أولى لجعله ناطقاً.