ماذا تعني العودة الى المتنبّي اليوم، بعد أكثر من عشرة قرون على رحيله؟ بل ماذا يعني أن يعيد ثلاثون شاعراً عربياً قراءة المتنبي وكأنهم يعيدون اكتشافه، محاكمين إياه انطلاقاً من التهم التي كيلت له وما أكثرها؟ راجع ص 17 لم يعرف شاعر عربي ما عرف المتنبي من العداوات والخصومات، ولا ما عرف من المجد والعلياء، ومن الألم والأسى ومن الخيبات. حتى موته بدا مأسوياً وبطولياً، مثلما حدس به طوال حياته التي لم تطل كثيراً. هذا الشاعر الذي لم يكد يتخطى الخمسين سرعان ما أصبح أسطورة، بحياته وشعره، بشخصه وما حوى من خصال نادراً ما عرفها الشعراء قبله ومن بعده. شاعر قضى معظم أيامه ساعياً الى حلمه الأكبر: ان يزاوج بين صورة الشاعر وصورة الحاكم، جامعاً بين القصيدة والسيف، بين الألم والعظمة، بين الشعر والقوّة، بين الأسى والثورة. قيل الكثير عن المتنبي وعن مواقفه المتناقضة، عن عبقريته وأطماعه، وكان له خصوم بمقدار ما كان له محبّون ومعجبون فتنوا به وبلمعاته الشعرية البارقة وحكمه وبلاغته وبيانه. وحظي ديوانه بزهاء خمسين شرحاً منذ القرن الرابع هجرياً العاشر ميلادياً، وهذه ظاهرة نادرة في تاريخ الشعر العربي. وسمّى أبو العلاء المعرّي ديوانه"معجز أحمد"، وتلهى النقاد بما سمّوه"سرقات المتنبي"و"عيوب المتنبي"و"معاني المتنبي"و"بديع المتنبي"وحاول بعضهم الطعن به انتقاماً من تعاليه وكبريائه وعنجهيته التي سمحت له بأن يقول:"وما الدهر إلا من رواة قصائدي...". وكم أثارت"الأنا"النرجسية لديه حفيظة الخصوم والسلاطين، وما برحت حتى الآن تثير الكثير من السجال حولها: مَن هو هذا الشاعر المدّاح والرثّاء والهجّاء كي يقول:"أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...؟". ثلاثون شاعراً من العالم العربي، من مدارس وأجيال مختلفة، يتصدّون لأسطورة المتنبي، يحاكمونه، كل على طريقته، يعلنون حبهم الحارق له أو يخفون شيئاً من الغيرة حياله أو يجاهرون بمآخذهم عليه. الشاعر أدونيس يقرأ المتنبي في مرآة نفسه ويقرأ نفسه في مرآة المتنبي الذي"أوكل"اليه عبر المخيلة وضع"الكتاب"بأجزائه الثلاثة، ويعتبره"الشاعر - الغريب"عن الجماعة وداخلها. الشاعر غازي القصيبي يتناول بجرأة معنى انتقال المتنبي من موقع الشاعر - الأجير الى مرتبة الشاعر - العظيم بل"الأعظم في اللغة العربية". الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يُعرب عن عدم اطمئنانه الى"المكانة"التي وُضع فيها المتنبي داخل الشعر العربي، ويعترض على المبالغة في مديحه معتبراً انه ليس الشاعر الأكبر. الشاعر شوقي أبي شقرا، أحد رواد مجلة"شعر"يرى فيه شاعراً شديد الحرص على اللغة العربية، وذا كبرياء لا يطيق المهانة ولا الهوان، وقادراً، من فرط براعته في النظم، على الارتجال معبّراً عمّا يخالجه من الأوجاع. الشاعر سميح القاسم يعدّ نفسه من هجاة المتنبي على رغم إعجابه الكبير به، لكنّ هجاءه يطاول مسلكه السياسيّ أو"رياءه"و"تهريجه". إنه المتنبي في"محكمة"الشعراء العرب المحدثين والجدد والشباب، شاعر المتناقضات و"الأنا"النرجسية، العبقري الذي تمكن من كسر قيود الزمن منطلقاً دوماً نحو المستقبل.