يحدث كثيراً في مهرجان"كان"كما في غيره ان يتوقف كثر عند فيلم من هنا أو آخر من هناك... أفلام تبدو كالمفاجأة الطيبة، حتى وإن أتت من أماكن وبلدان لم يكن ثمة أمل في ان تنتج يوماً أفلاماً من هذا النوع. بل تلك هي واحدة من أهم اختصاصات المهرجان: الاكتشاف. ونحن نعرف ان مهرجانات، مثل"كان"و"البندقية"و"برلين"، لكي نقصر حديثنا على هذه التظاهرات الأوروبية الاساسية الثلاث، كانت المكان الذي منه انطلقت سينمات صارت لاحقاً كلاسيكية آتية من الهند ساتياجيت راي... أو اليابان أكيرا كوروساوا... او حتى مصر يوسف شاهين.... والحال انه كان يحدث دائماً، في كل مرة يصار فيها الى اكتشاف من هذا المستوى، ان يدور الحديث عن انبثاق سينمات أخرى وظيفتها الايديولوجية بالنسبة الى البعض، ان يجابه السينمات الكبرى الرائجة ولا سيما منها الاميركية. على هذا النحو نعيت هذه السينما كثيراً ودفنت اكثر. ولكن دائماً كجزء من موقف سياسي هو في حقيقته موقف معاد للسلطة الاميركية، عن حق، لكنه ندر ما عرف كيف يفرق بين سلطات البلد ومبدعيه. وفي المهرجانات الثلاثة التي تحدثنا عنها، وصلت الهجومات المعتادة على السينما الاميركية الى ذرى مدهشة ولكن مضحكة أحياناً. ومع هذا ها نحن اليوم بعد نصف قرن وأكثر من بدايات هذه الحال، نرصد في"كان"انه اذا كانت هناك سينما لا تزال حية كأفراد أو ككتلة، فهي السينما الاميركية. وليس السينما التجارية الرائجة بالطبع. بل تلك السينما الأخرى التي تقارع الأوروبيين والخليجيين في العالم في عقر دارهم، في عالم سينما المؤلف والأفلام التي لديها، حقاً، شيء تقوله. خيبات أقل هذا العام، في"كان"يبدو هذا الواقع حاضراً أكثر من أي عام مضى. وذلك، بكل بساطة، لأن السينما الأميركية حاضرة أكثر من أي عام مضى. حاضرة بأفلامها التجارية وبأفلامها الفنية وبأفلامها"السياسية"وكذلك في افلامها التي تقف على مسافة واحدة من هذه الافلام كلها. صحيح ليس هناك، هذا العام، فيلم لوودي آلن او دايفيد لنش، او جيم جارموش. ولكن في المقابل هناك غاس فان سانت، والاخوان كون، ودايفيد ننشر وجيمس غراي ومايكل مور وخصوصاً كونتن تارانتينو... ثم ستيفن سودربرغ الذي يؤمن الجانب الجماهيري وإن كان خارج المسابقة. ونعرف ان مجرد تعداد هذه الاسماء معناه رسم صورة طيبة لما يحدث في الفن السينمائي الأميركي اليوم. وإذا كنا في بعض رسائل"كان"اليومية قد تحدثنا عن بعض خيبات الأمل إزاء أفلام كانت منتظرة بقوة فأتت ادنى من التوقعات، لا بد ان نقول إن ما جابه الأفلام الاميركية في هذا المجال، كان أضأل شأناً بمعنى ان خيباتنا ازاءها لم تكن كبيرة حتى وان جاء"بارك بارانويد"لفان سانت اقل مما كنا نتوقع من صاحب"الفيل"و"آخر الايام". في المقابل، وبعد تفكير طويل يمكن القول إن"لا وطن للرجل العجوز"للأخوة كون يعتبر تحفة سينمائية وتجديداً لدى هذا الثنائي الذي لم يكن عن التجديد منذ سعفته الذهبية ل"بارتون فنك". المدهش لدى الأخوين كون هو أنهما مهما بدلا من المواضيع والأجواء، تظل همومهما هي هي نفسها ونبض لغتهما السينمائي دائم التجدد، وهو أمر سنعود اليه في رسائل لاحقة، اذ يقيناً ان هذا الفيلم سيسيل حبراً كثيراً خلال الفترة المقبلة. وكذلك الحال مع فيلم مايكل مور الوثائقي"السياسي"الجديد"سيكو"الذي استخدم فيه أعلى آيات التحريض واللوم لفضح نظام الرعاية الصحية في اميركا، هذا النظام الذي يظلم الفقراء - يقول مور - الى درجة انهم اذا سمعوا بأن اسرى غوانتانامو يتلقون عناية صحية مميزة، توجهوا الى هناك طالبين ان يعتنى بهم اسوة ب"الارهابيين"الأسرى. هذا المشهد اوصل"سيكو"الى ذروة التهكم بالطبع. حيوية فيلم في الحقيقة يمكن التوقف مطولاً عند كل فيلم من هذه الافلام الاميركية التي تقول حيوية هذه السينما اضافة الى كونها حصناً أخيراً، وصلباً من حصون مجابهة ايديولوجية التسلط الاميركية. كوينتين تارانتينو في فيلمه الجديد أو الجديد / القديم بالأحرى"عصية على الموت"، لا يبدو من ناحية ظاهرية جزءاً من هذا الحصن. بل يبدو للوهلة الأولى منسجماً مع الأنواع السينمائية المنتمية الى سينما السبعينات، حيث العنف والجنس والحوار المكشوف اسياد اللعبة. في الأصل كان"عصية على الموت"جزءاً من مشروع ثنائي -- جزؤه الآخر حققه روبرتو رودريغز - يفترض ان يعرض معاً في الصالات الاميركية. لكن المشروع اخفق. وبعد ان نام تارانتينو بعض الوقت، اعاد هذا الاخير احياءه مضيفاً اليه قسماً آخر. فكانت النتيجة فيلماً مستقلاً ربما يصح وصفه بأنه أكثر الافلام حيوية في تاريخ هذا المخرج الذي لم يتوقف، اصلاً، عن ادهاشنا بحيوية افلامه منذ"بالب فيكشن"وپ"جاكي براون"و"كيل بيل"في جزأيه. مهما يكن لا بد ان نقول هنا ان"عصية على الموت"يتألف من فيلمين يبدوالرابط بينهما غامضاً للوهلة الأولى - لكننا سرعان ما نكتشف ان هذا الرابط هو مجرد سفاح يجوب الطرقات بسيارته المحصنة ليقتل الفتيات في سياراتهن. انه يصدم ويخبط كما يشاء لأن سيارته"عصية على الموت"، فهو رابط نفسه بأحكام. وله جسد صلب ومعرفة بهذا النوع من المجازفة، اذ ان هذه هي مهنته اصلاً: هو مجازف يستخدم في الافلام لاداء المشاهد الخطرة. وهو اعتاد على شراء السيارات المحطمة لاصلاحها واستخدامها في جرائمه التي صارت بالنسبة اليه تسلية يومية، مغطياً الجرائم بكونها حوادث سير تتسبب فيها حماقة النساء. غير ان هذا كله لا يبدو متوقعاً منذ بداية الفيلم. اذ هنا، وفي شكل ندر ان دنا منه تارانتينو في أي من افلامه السابقة، راح يرسم صورة لفيلم سرعان ما يبتعد عنها آخذاً متفرجه الى صورة فيلم آخر... ثم ثالث، بصرف النظر عما حكينا عنه اعلاه من انقسام الفيلم جزأين. في البداية نبدو أمام حكاية اجتماعية عن مجموعة من فتيات متحررات، تلتقين في سيارة تسير بهن نحو بيت قرب بحيرة - كما نفهم - وسيقمن فيه حفلة غير مسموح للصبيان المشاركة فيها. تبقى كاميرا تارنتينو في السيارة اكثر من ربع ساعة، فيما تتحدث الفتيات في ما بينهن بلغة حوارية صدامية رفاقية تكاد تعطي صورة حقيقية لأميركا اليوم ولغة اجيالها الجديدة وهمومهم التي لا معنى لها. كل هذا يدفعنا الى توقع فيلم شبابي صاخب، كالموسيقى الصاخبة. والكاميرا تنقلنا بعد ذلك الى الحانة حيث تواصل الفتيات حوارهن والتنغيم على بعضهن البعض والآخرين. هذان المشهدان يشغلان أكثر من ثلث الفيلم... لتنتهي الامور بعد ذلك بالقاتل السفاح الذي نراه في الحانة وقد طارد سيارتين ليصدمهما بعنف واضعاً نهاية لحياة الفتيات معاً، فيما يقاد هو الى المستشفى من دون أن تتمكن الشرطة من العثور على أي دليل ضده. في مشهد المستشفى ستبدو لنا الحكاية منتهية ويتساءل المرء ماذا، بعد، لدى المخرج يقوله؟ جواب الراعية على الراعي تارانتينو لا تعيه الحيلة هنا: عند هذه النقطة تحديداً سيبدأ القسم الثاني من الفيلم. سيبدأه مع فتيات جديدات، لسن هذه المرة في صدد اقامة حفلة ساهرة، بل في طريقهن الى العمل في فيلم يصور في المنطقة الجديدة البعيدة عن منطقة الحكاية الأولى. كل شيء تبدى هنا لكن ليس القاتل كيرت راسل ولا رغبته في القتل بواسطة سيارته.. المحصنة أيضاً هذه المرة والتي كان قال في القسم الأول لفتاة رافقته فكانت ضحية اضافية له: انها سيارة عصية على الموت. بهذه السيارة اذاً، سيقوم بمطاردة سيارة الفتيات الأربع الجديدات. لكن ما لم يكن في حسبانه، هو أن منهن من تمتهن المهنة نفسها: مجازفة بديلة في الافلام، وتقوم بالدور مجازفة استرالية حقيقية كانت حلت بديلة من نيكول كيدمان في أفلام عديدة. اذاً ما لم يحسب القاتل حسابه، هو أن المجابهة هذه المرة صعبة اكثر عليه. ومن هنا نصل الى فيلم وسباق مختلفين تماماً. طبعاً لن نواصل هنا رواية ما يحدث لأن عنصر المفاجأة فيه أساسي، والقارئ قد يريد لاحقاً مشاهدة الفيلم. لكن ما يمكننا قوله هنا هو ان تارانتينو أوصل تقنيته السينمائية في هذا القسم، واكثرها في القسم الاول، الى مستويات نادرة في تاريخ السينما، بحيث ان المتفرج ومهما كان ضليعاً في امور الخدع السينمائية والتصوير سوف يسأل نفسه في كل لحظة: كيف ترى المخرج تمكن من تصوير هذا؟ وللمناسبة لا بد ان نذكر بأن كوينتن تارانتينو يصور افلامه بنفسه ويولفها ويكتبها بنفسه وأحياناً يضع موسيقاها. غير انه سيكون ظلماً لهذا السينمائي ان يقتصر حديثنا عنه على الجانب التقني. فالفيلم أكثر عمقاً وثراء من هذا. الفيلم يعالج - في طريقه وفي نهايته - قضية، ربما يمكن الاشارة اليها من خلال الفرضية التالية: ربما كان المخرج يشاهد ذات يوم فيلم"تيلما ولويزا"لردلي سكوت. وهو، حتى وان كان سر بمشاهدة الفيلم أسوة بمئات ملايين المتفرجين، طفق يسأل نفسه: ترى افلم تكن هاتان الفتاتان تستحقان افضل من مصيرهما في الفيلم؟ أفلم يكن عليهما ان تقاوما أكثر؟ واستطراداً لهذين السؤالين لا بد من اشارة ايضاً الى فيلمين لا شك انهما كانا في ذهن تارنتينو وهو يصيغ مشروعه:"كراش"لدايفيد كرونبرغ عن رواية ج.ج. بالارد والتي لا تحصل فيها نشوة الابطال الجنسية الا على وقع اصطدام السيارات وتلمس الحديد المحطم، ومبارزة لستين سبيرغ، حيث المباراة القاتلة بين سيارة صغيرة وشاحنة معتدية تشغل زمن الفيلم كله حتى لحظة النهاية. نشير الى هذا، فقط، للتأكيد على المرجعية السينمائية المطلقة لدى تارانيتنو الذي يؤكد في"عصية على الموت"مرة أخرى، انه سيد كبير من سادة السينما. من السادة الذين حتى حين يقدمون العنف والقتل يقدمونه في لغة ساخرة قاسية... مثل لعبة في نهاية الأمر. والحقيقة ان كلمة"لعبة"هي التي تناسب وصف هذا الفيلم، حتى وإن كانت لعبة تعرف كيف تصور وفي عمق مطلق، حياة اليوم في أميركا. تصورها كما هي في قسوتها، في صراعاتها، في لغتها المبتذلة، وعلاقاتها الكئيبة... ولكن من دون أن يبدو على الفيلم أنه يقول هذا. ففيلم تارانتينو الجديد هذا، الذي أحدث صدمة ايجابية في بلادة"كان"أو قسم النقاد بين مؤيد بالمطلق ومعارض بالمطلق - كما هو حاله دائماً في كل افلامه - ينتهي الى سينما جديدة، سينما تعيد في كل مرة اختراع هذا العنف من جديد. تبدو لا تشبه ما سبقها، وستشبه كثيراً ما يليها. ترى اوليس هذا"أيضاً"دور الفن الحقيقي؟