لم يستقبل ترشيح الرئيس الأميركي جورج بوش لأحد مهندسي كارثة العراق بول وولفوفيتز لرئاسة البنك الدولي بالترحيب حتى من قبل حلفائه الأوروبيين ولم يكن هذا الترشيح متوقعا وما كان منتظرا هو أن يواجه وولفوفيتز نفس مصير كارل روف ودونالد رامسفيلد وريتشارد بيرل. وكان حرياً بالرئيس بوش كرئيس دولة تدار من قبل المؤسسات وتسودها معايير صارمة في الترشيح للمناصب الوطنية والدولية أن يختار شخصاً من ذوي الكفاءات العالية وغير الخلافية. وولفوفيتز أكاديمي يفضل الحروب على السلام ومن ثم فسجله يتعارض مع أهداف البنك الدولي وتسميته كبنك للإنشاء والتعمير، وهو ليس رجل اقتصاد وصلته بالعالم الثالث فوقية ولم يتخلص من ثقافة الحرب الباردة والساخنة، وحلمه بهيمنة أميركية على العالم وقناعاته هي نفس قناعات المحافظين الجدد حول أهمية هيمنة أميركا باعتبار أنها تمثل الخير ومن يختلف معها فهو الشر بعينه. الرئيس بوش بلا شك ارتكب غلطة إضافية تضاف إلى غلطاته القاتلة عندما رشح في آذار مارس 2005 أحد صقور الحرب وليس أحد أنصار السلام والتنمية المنحاز للأغنياء وليس للفقراء ليتبوأ منصب مدير البنك الدولي خلفا لجيمس وولفينسون. وما قام به بوش ليس سابقة فقد عُين من قبل وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت مكنمارا رئيسا لهذا البنك وهو أحد الوزراء الذين ارتكبوا جرائم حرب في فيتنام. وبهذين التعيينين تتضح العلاقة الوثيقة بين الحرب والاقتصاد في السياسة الأميركية وأن حروب أميركا هي حروب اقتصادية في المقام الأول، وأنه ليس صحيحا بالمرة أن حرب فييتنام كانت لمحاربة الشيوعية والدفاع عن العالم الحر مثلما أن غزو العراق واحتلاله لا علاقة لهما بنشر الديموقراطية في المنطقة بدءاً بالعراق ثم ما يجاوره من دول"محور الشر"الكبرى والوسطى والصغرى المعلنة وغير المعلنة، ونزع اسلحة دولة ألحق الحصار الاقتصادي بها وبشعبها أضراراً بالغة في الإثني عشر عاما التي تلت تحرير الكويت وسبقت الغزو الأميركي والبريطاني. تم تعيين وولفوفيتز وسمعته في الحضيض والعالم يشير إليه كأحد المتهمين بتدمير العراق و قتل الأميركيين والعراقيين من أجل إسرائيل والنفط. وولفوفيتز لم يكن الأصلح لتولي هذا المنصب كصاحبه جون بولتون الذي كان أسوأ من مثل بلاده في الأممالمتحدة وجون نغروبونتي النائب الحالي لوزيرة الخارجية الذي يتهم السودان بارتكاب جرائم حرب وينسى ما ارتكب بلده من جرائم في أميركا الجنوبية ودعمه للديكتاتوريات فيها. أليس هذا فسادا أخلاقيا تمارسه دول؟ وعند تسلمه منصبه كان على وولفوفيتز أن يقرأ سجل سلفه الذي عرفت عنه نزاهته وجديته في مساعدة العالم النامي والنصح بأعلى صوت بأن دوله لن تحقق أي نجاح تنموي ما لم تحارب الفساد. وولفنسون كان ينفذ سياسة البنك وليس سياسة خاصة به وكان يدرك أن هذه السياسة تحاط بالشكوك في دول العالم الثالث ولم يحل اعتناقه اليهودية دون دعمه الشعب الفلسطيني بنصف مليار دولار من ماله الخاص لإعادة بناء ما دمرته إسرائيل في السنوات التالية للانتفاضة الثانية. والمقارنة بين الإثنين ستكون نتيجتها لغير صالح وولفوفيتز المنحاز كلياً لإسرائيل والمعادي لحقوق الفلسطينيين السياسية. بعد أن هدأت عاصفة التعيين بدأ وولفوفيتز بداية جيدة دعت إلى التفاؤل إذ أكد على دور البنك الدولي في محاربة الفساد وعلى حرصه على أن تستفيد الدول الفقيرة الاستفادة القصوى من معونات البنك في التنمية وتعهد هو شخصيا بمحاربة الفساد من دون هوادة. ولكن النفس الأمارة بالسوء تجعل كبار المسؤولين يستثنون أنفسهم وينغمسون في مستنقع الفساد في الوقت الذي يتحدثون فيه عن محاربته. والفساد أنواع وبول وولفوفيتز غير متهم باختلاس المال من البنك الدولي، وفساده ينحصر فقط في محاباة صديقته شاها رضا بزيادة مرتبها بصورة غير قانونية توحي بضعف الرقابة في البنك لأن الموضوع لم يثر في حينه وأثير فقط بعد أن انتقلت رضا إلى وزارة الخارجية الأميركية لمساعدة ليز تشيني إبنة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني رجل الحرب الآخر في الامبراطورية على تحسين صورة أميركا في الشرق الأوسط، وتبين أن مرتبها يزيد عن مرتب وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس. ومن غير المستبعد أن يكون وولفوفيتز أراد مكافأة صديقته على دورها مع اللوبي العراقي عندما كانت تعمل مع مجموعة اميركية لدعم الديموقراطية وكان هذا اللوبي من المشجعين الذين ورطوا الإدارة الأميركية في العراق وتعبيرا عن قناعة لم يغيرها بأن قرار تدمير العراق كان صائبا. وقد تسبب ما فعله وولفوفيتز في خلق حالة غير مسبوقة من الارتباك في البنك الدولي تتجلى في مطالبة واسعة من داخله ومن موظفيه في مختلف دول العالم باستقالة الرئيس ليحافظ البنك على مصداقيته عندما ينصح أو يضغط من أجل إصلاح هنا أو محاربة فساد هناك. ولقد طالبت صحيفة"فايننشيال تايمز"البريطانية في اليوم التالي للاعلان عن الفضيحة باستقالة وولفوفيتز، فهذه الصحيفة البارزة المختصة بشؤون المال تدرك أنه يصعب على البنك أن يؤدي وظيفته في ظل هذه الغيوم. كما طالب آخرون في اوروبا بأن تعمل دول الاتحاد الأوروبي على تدوير منصبي رئيس البنك الدولي ومدير صندوق النقد الدولي بين الولاياتالمتحدة واوروبا وانهاء احتكار الأولى لمنصب رئيس البنك منذ عام 1945 باعتباره المنصب الأهم. ولكن الوفاء للرفاق في معسكر المحافظين الجدد يجعل الرئيس بوش يحابي وولفوفيتز ويعلن عن وقوفه إلى جانبه، بدلا من الضغط عليه كي يستقيل. ويخطئ الرئيس بوش وهو الذي يقول انه من دعاة الإصلاح ونشر الديموقراطية في وقوفه هذا الموقف لأنه يؤدي الى خسارة الولاياتالمتحدة فرصة مهما كانت صغيرة لاستعادة بعض المصداقية التي فقدتها على أكثر من صعيد حتى في الولاياتالمتحدة، مهما كانت قوة العلاقة بين منظر من المحافظين الجدد وبين منفذ لسياسات أخطأت كثيرا، لأن التنظير كان فاسدا مثل سلوك وولفوفيتز في البنك الدولي. ولكن لا غرابة في أن يقف الرئيس بوش هذا الموقف الذي سيدين فيه نفسه لأنه هو الذي عينه في هذا الموقع. فالفضيحة على رغم مرارة طعمها في حلق الإدارة الأميركية لم توقظها وقد توقظ دول العالم كله لجعل منصب مدير البنك من حق كل الدول الأعضاء والمطالبة بتخفيض مرتبات موظفي البنك وبالذات فئاته العليا والمتوسطة الذين يتقاضون مرتبات خيالية يمكن أن يساعد تخفيضها دولا صغيرة عدة على معالجة مشاكل الفقر التي تعاني منها. * كاتب يمني