الفرصة لا تزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    الأمن.. ظلال وارفة    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    ضيوف برنامج خادم الحرمين يؤدون العمرة    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    التحليق في أجواء مناطق الصراعات.. مخاوف لا تنتهي    من «خط البلدة» إلى «المترو»    أهلا بالعالم    كرة القدم قبل القبيلة؟!    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    استثمار و(استحمار) !    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    وسومها في خشومها    وانقلب السحر على الساحر!    منتخبنا كان عظيماً !    الضحكة الساخرة.. أحشفاً وسوء كيلة !    النائب العام يستقبل نظيره التركي    نيابة عن "الفيصل".. "بن جلوي" يلتقي برؤساء الاتحادات الرياضية المنتخبين    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة العراق في خليجي 26    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    آل الشيخ: المملكة تؤكد الريادة بتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن حكومة وشعبا    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    موارد وتنمية جازان تحتفي بالموظفين والموظفات المتميزين لعام 2024م    "التطوع البلدي بالطائف" تحقق 403 مبادرة وعائدًا اقتصاديًا بلغ أكثر من 3مليون ريال    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العروبة والإسلام ... نظرة جديدة إلى جدال الوفاق والافتراق
نشر في الحياة يوم 19 - 05 - 2007

اكتشف العرب ذاتهم التاريخية في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين بالعروبة، ولم يكن الآخر التركي المهيمن أو الاستعمار الأوروبي القادم إلا منبه وعيهم الذاتي للتغلب على التجزئة والتخلف، وكان عليهم أن يستعيدوا وحدتهم ويحددوا هويتهم على ضوء معطيات العصر الجديد، ممثلاً بالحداثة والبعث القومي ونشوء الأمم والدول الحديثة. وفرضت هذه المعطيات على النخبة الفكرية والسياسية إعادة تأسيس وعيها العروبي بما يتلاءم مع تلك المستجدات باستلهام واستعارة النموذج القومي الأوروبي الحديث، إلا أن الإسلام ديناً وتراثاً وإطاراً ثقافياً فرض نفسه ركناً أساساً لا يمكن إزاحته أو زحزحته بالسجال الدائر حول الهوية.
وبالعودة إلى التاريخ نستنتج أن الاسلام بنى أمة جديدة على أساس العقيدة عبّرت عن ذاتها بالأخوة الدينية والمساواة وحاولت تجاوز العشائرية والقبلية من دون جدوى فلم تمت العصبية القبلية بل طبعت تاريخ الإسلام السياسي وكمنت فيه، فكيّفت وتكيّفت مع الإسلام التاريخي وتحول الإسلام في العصر الأموي إلى دين قومي بالتعصب القبلي العروبي ضد الفرس.
وانكفأت العروبة على مفهوم عرقي قائم على رابطة الدم والأصل الواحد، وأصبحت معطى طبيعي قبلي لا يعترف بالعناصر الثقافية في تكوينها، وعليه فلم يكن الإسلام بما صاغه من مفاهيم الهوية كالأمة الإسلامية أو الوحدة الإسلامية، رداً أو نقضاً للعروبة التي لم تشكل ثقافياً بعد، بل كان رداً حازماً على العصبية القبلية والتكوينات العشائرية ونقضاً لها، وذلك لعدم توافر الشروط الموضوعية والفكرية حتى ذلك الوقت لبلورة الوعي الذاتي العروبي لأسباب أهمها، تدني مستوى التحضر والتمدن بما يسمح بنشوء واستمرار نمط اجتماعي مديني قائم على الاستقرار والثبات، كاف بحد ذاته لخلق مصالح مشتركة، ووحدة اقتصادية ونفسية تؤطِّر التفاعل والتبادل في المدينة الدولة أو المدنية نواة الدولة التي تخلق الوعي الاجتماعي والسياسي الشامل، والقادر على تحويل العروبة إلى رابطة وطنية، وانتماء على أسس ثقافية ولغوية.
لقد كانت البداوة والترحال الدائم أهم ملامح الحياة الاجتماعية، ولم يطابق هذا النمط الاجتماعي إلا القبيلة كوحدة اجتماعية محددة ومحدودة الموارد والسكان والتركيب الطبقي ومحكومة بواسطة الدم، والأصل، والطوطم، وهي بظروفها تلك كانت قادرة على التكيف والرد السريع على تحديات البيئة الطبيعية والبشرية التي حولت صراعها إلى صراع وجودي يحتمل الموت والفناء.
ولم يكن علم الأنساب إلا سجل القيم القبلية وانعكاس العصبية وهوس العربي بالأصل والأصول وماهية الأشياء. وعكس التباين في سُلّم النسب الموقع الاجتماعي والسياسي وتمييز الذات عن الآخر والصراع القبلي والاجتماعي، والترويج لقيم النخوة والتفاخر والازدواجية والعصبية والشرف القبلي والتعصب وتم إغفال قيم الإسلام النبيلة، وقسَّم الناس إلى:صرحاء ووضعاء. أشراف ورعاع عرب عاربة وعرب مستعربة عرب وموال.
علماً أن التحديد والتعريف القرآني للعروبة والعرب لم يتم إلا على أسس ثقافية، أي: بالانتماء إلى اللغة العربية، ولم تظهر أهمية وخطورة هذا التحديد إلا في العصور اللاحقة للعصر العباسي الأول، عندما نجح العرب في تعريب وأسلمة الشعوب الأخرى، وتحولوا من أسياد الفتح إلى أقلية في محيط إسلامي من الشعوب غير العربية، فتدهورت سيادتهم وامتيازاتهم الاقتصادية والسياسية، فتم تعريب العروبة أي: تأسيسها ثقافياً على الانتماء إلى اللغة العربية وقبول الموالي المتعربين كعرب، لذلك فلا غرو أن نجد تعريفاً للعربي عند ابن منظور يختلف عن تعريف قاموس العين للخليل بن أحمد.
ونعود إلى ما سبق هذا التحول، أي: إلى العصر الأموي الذي حول العروبة إلى قبيلة كبيرة، ووسَّع نطاقها واعترف بها رابطة عضوية تقوم على الشعور بالأصل الواحد، ودخل طرفاً في التعصب والصراع بين القيسية واليمنية ثم طرفاً في التعصب ضد الموالي والفرس، وأصبح الفارسي الآخر بالنسبة إلى الذات العربية التي اكتشفت فيه عنصراً مغايراً تماماً ثقافياً ولغوياً ودينياً وحضارياً، وبولغ في التعصب والفوقية إلى الحد الذي امتنع فيه الأمويون عن رفع الجزية عمن أسلم من الفرس وترددهم في جبايتها من القبائل المسيحية العربية، وإزاء هذا الظلم والتمييز رد الفارسي وهو صاحب الثقافة والحضارة العريقة على التفوق والعصبية العربية ببعث الشعور القومي الفارسي أو الشعبوبية للنيل من العرب الذين وحّدوا نفسهم بالإسلام واعتزوا وتفاخروا به فاستعاد الآخر الفرس أمجاده الثقافية والحضارية وما تبقى من دياناته ولغته وقارنها بتراث العربي البدوي الفاتح، فشعر بالتفوق وبالغ في تحديه وشعوبيته التي جوبهت بانتفاضة ثقافية عربية بما يسمى بعصر التدوين في القرن الثاني والثالث الهجريين - الذي شهد تطوراً بالغ الخطورة والدلالة فنشطت الدراسات اللغوية والفقهية والتاريخية التي تركّزت حول الذات ونصها الخالد القرآن الكريم.
وعليه فليس هذا عصر التدوين عصر بناء الثقافة وتكوين العقل العربي فحسب، بل كان عصر الوعي الذاتي العروبي بامتياز، من خلال إبراز خصوصية الثقافة العربية وإعادة بناء وإنتاج المعطى الإبداعي والفكري منذ العصر الجاهلي وحتى لحظة التدوين في ذلك الوقت، وتم تحميل العصر الجاهلي ما لم يحتمل وربطه بالعصر الإسلامي من طريق العروبة لتسويغ الاستمرارية التاريخية للثقافة العربية قبل وبعد الإسلام. والتأكيد بطريقة غير مباشرة على الهوية العربية الخارقة للتاريخ والمتعالية عليه، وتوظيف الإسلام نفسه في معركة التعصب، فالعرب قادة الإسلام، وحملة راية الفتح، ومحمد النبي الأمي، نبي عربي أولاً وأخيراً؟!
وعندما يستعيد ميشيل عفلق في أربعينات القرن الماضي علاقة الإسلام بالعروبة قائلاً"إن ملحمة الإسلام لا تنفصل عن مسرحها الطبيعي الذي هو أرض العرب وعن أبطالها والعاملين فيها وهم كل العرب، فمشركو قريش ضروريون لتحقيق الإسلام ضرورة المؤمنين.."
ويضيف معللاً نزول القرآن بالزمان والمكان والطريقة التي نزل بها بالحكمة القومية التالية"فالحقيقة الباهرة التي لا ينكرها إلا مكابر هي إذن أن اختيار العرب لتبليغ رسالة الإسلام كان بسبب مزايا وفضائل أساسية فيهم وأن اختيار العصر الذي ظهر فيه الإسلام كان لأن العرب قد نضجوا وتكاملوا لقبول مثل هذه الرسالة وحملها إلى البشر... وإن تأجيل ظفر الإسلام طوال تلك السنين كان بقصد أن يصل العرب إلى الحقيقة بجهدهم الخاص، فالإسلام إذن كان حركة عربية وكان معناه تجدد العروبة وتكاملها".
والمسلم في ذلك الحين لم يكن سوى العربي.
ولا يتموضع هذا النص منطقياً وأبستمولوجياً إلا في عصر التدوين بصرف النظر عن الزمن التاريخي الذي انتجه، فهو بلغة شبنغلر معاصر مع الجاحظ أو عصر التدوين في معناه ومبناه، وفي إبراز فضل العرب على الإسلام وليس العكس.
وتم تصوير العرب أمة حققت هويتها القومية ووعت ذاتها وأصبحت مهيأة لحمل رسالة الإسلام، في حين أن العكس هو الصحيح، أي أن الإسلام هو الذي بلور وعي العرب بذاتهم وبخصوصيتهم وحدد كيانهم الجغرافي بالتعريب الملازم للإسلام.
وبقي السجال قائماً بين العرب والفرس، وتخلت الثقافة الشعوبية الفارسية عن أقنعتها وانتقلت إلى الممارسة السياسية فنجحت في إقامة دولها الساسانية الطاهرية والسامانية وغيرها وأحيت لغتها الفارسية واستعملتها في دولها المنشقة عن الخلافة العباسية وأصبحت الثقافة الإسلامية برأسين، أي: بلغتين وفيما بعد بثلاثة رؤوس بعد دخول العنصر التركي ولغته في قوام الحضارة الإسلامية.
وعلى الصعيد نفسه لا تُفهم أبعاد وغايات الزندقة والتيارات الدينية كالزرادشتية والمانوية كما يتصور السلفيون لهدم الإسلام أو النيل من حقيقته، فهي تاريخياً ردة رجعية بالنسبة إلى الإسلام التي تجاوز تلك الديانات معرفياً بالوحدانية وبمنظومته الشاملة بالمعاملات والعبادات كما تجاوزها تاريخاً بعد أن استنفدت دورها في الهداية والأخلاق. وباعتقادي المتواضع أنها لم تكن إلا رداً مبطناً على العروبة وعلى تفوق العنصر العربي الذي وجد نفسه بالإسلام، فلم يكن بإمكان الفارسي تقمص العروبة لتفجيرها من الداخل ولكن كان بإمكانه دخول الإسلام الذي جاء به نبي عربي للناس جميعاً، أي: بإمكانه مقارعة العرب بسلاحهم إسلامهم الذي أصبح عقلاً موضوعياً ومعياراً للحقيقة بين العرب والفرس أو في شكل عام بين الأقوام والشعوب كافة.
ولم تتراجع العصبية القبلية ورابطة الدم العشائرية أساس العروبة في ذلك الوقت إلا باستقرار القبائل العربية في الحواضر والأمصار والمدن الناشئة وتغلغلهم في أرياف مصر والمغرب والهلال الخصيب، فتم تعريبها والانخراط بسكانها والاشتغال بالزراعة والتجارة والمهن الأخرى التي كانوا يأنفون من مزاولتها، ولم يعد هذا خيارهم بل ضرورة معيشية عندما أقدم الخليفة المعتصم على تتريك الجيش العباسي وإسقاط العرب من ديوان الجند، فخلق ذلك توتراً سياسياً، وتقارباً شعبياً في الحواضر أساسه المصالح المشتركة والأرض واللغة العربية وهي جميعها العوامل المؤثرة في تكوين الأمة والوعي القومي العروبي وسقط تلقائياً الاهتمام بعلم الأنساب فقوّى ذلك من عوامل التقارب والاندماج في الحواضر والمدن.
وفي رده على التعصب العربي الأموي لم يحفظ العباسيون حقوق العرب ولم ينصفوا غيرهم بل انتقلوا من النقيض إلى النقيض، فبدلاً من تحقيق المشاركة والمساواة للشعوب الأخرى في الثروة والسلطة نزعوا السلطة السياسية والعسكرية من أيدي العرب وأصبحت كرة تتقاذفها أيدي الفرس والترك والمماليك الشراكسة وغيرهم، مما دفع العرب في بغداد وغيرها للثورة والمعارضة.
ومع امتداد الإسلام شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بعيداً من نواته المركزية بالفتح والتجارة، لم يعد التماثل والتطابق ممكناً، على أرض الواقع بين التعريب والإسلام، فقد انتشر الإسلام بعيداً خارج الجغرافيا البشرية والطبيعية، للعروبة وأصبح مدلول الأمة الإسلامية يختلف اختلافاً جذرياً عن الأمة العربية، وصاحب ذلك نوعاً من الإرباك والإبهام في تحديد هوية الإقليم الذي ينتمي إليه العرب أو تشغله الأمة العربية فما يسمى بالوطن العربي هو: النطاق الجغرافي الذي تم تعريبه وأسلمته ولهذا فليس هناك حدود قارة أو مستقرة لرقعة أرضية اسمها الوطن العربي ولذلك فليس غريباً أن تصل حدود الوطن العربي جنوباً إلى البحيرات الإفريقية وشرقاً إلى جزر القمر؟!
وأما مدلول الهوية الإسلامية أو الإمة الإسلامية فأصبحت على جانب شديد التباين والتناثر ولم يعد هناك إقليم أو نطاق جغرافي متصل أو متماسك يستغرق الهوية الإسلامية أو يضم المسلمين، والأفضل كما هو شائع اليوم مصطلح العالم الإسلامي الذي يدل على الدول وجماعات الأغلبية والأقليات المسلمة المتناثرة في كل مكان.
ونعود إلى العصر العباسي الثاني الذي شهد تفككاً سياسياً وحضارياً على مستوى النظرية والممارسة، فقد أوغلت العناصر الفارسية والتركية في استبعاد العرب وكفّت يد الخليفة عن ممارسة مهامه كقائد سياسي وعسكري للمسلمين وأبقت له ممارسة سلطاته الدينية والشرعية، وهي في الحقيقة لم تستطع تمثل الإسلام أكثر من العرب لسلبهم وسلب خليفتهم هذا الامتياز والاختصاص، أو اختراق هذا الحاجز وتركهم عراة من الإسلام والعروبة معاً، فكانت السياسة كنظرية أفقر العلوم العربية الإسلامية، وأقصى ما فعلته الأدبيات السياسية هو تكييف مطالبها لتتسق مع الواقع القائم وتسويغ أو تبرير الممارسة فجاء أغلب الفكر السياسي فكراً معيارياً أو أدباً موارباً للنصح والإرشاد أو لاحقاً لتبرير ممارسة سياسية استقرت ولم يعد بالإمكان إلا قبولها وتبريرها بغض النظر عن شرعية وجودها أو استعمالها أو أصولها، ولم يتعدّ الفكر السياسي السني أفكار الطرطوشي والماوردي وابن جماعة، وحتى ابن خلدون الأشعري المالكي لم يخرج عن هذا النطاق، وبقيت تلك المساهمات أساس التجديد عند ابن تيمية والسلفية الحديثة، ومنذ ذلك الوقت أصبحت السلطات الدينية أو المعنى الروحي للخلافة بعد تجريدها من السياسة الرمز الدال على أهميتها ووجودها في حياة المسلمين، ومن هنا نفهم فاجعة الحركات السلفية من غياب أو تغيّيب الخلافة وإسقاطها وإصرارهم الدائم على استعادتها من جديد؟!
وعلى إثر انهيار السلطة والخلافة وظلم الولاة وعسكر الأتراك ظهرت في ذلك الوقت ظاهرة محيّرة ألا وهي ظاهرة الشطّار والعيارين وهم صعاليك العصر العباسي فلم يعد لأهالي الحواضر العرب من سند أو قوة إلا الاعتماد على أنفسهم وفرز هؤلاء الشطار لتنظيم أنفسهم والرد على التعسف التركي، إلا أنهم لأسباب مختلفة منها انخفاض مستوى الوعي والتنظيم عجزوا عن تحويل تلك الحركات إلى بدائل قادرة على تبني مطالب الأهالي العرب المضطهدين وتجميع قواهم وحشدها ورفع مستوى الممارسة من العفوية إلى الوعي، بالإضافة إلى انتهازية بعض رموزها وقادتها الذين استهوتهم لعبة الفتوة والقوة والعصبوية، وتحولوا لهذه الأسباب إلى أدوات ومرتزقة بيد هذا الوالي أو ذاك.
أما لماذا لم يتطور هذا الوعي العفوي العصبوي إلى وعي عروبي شامل فيعود في رأيي المتواضع إلى أسباب مادية وفكرية منها اغتصاب السلطة السياسية من العرب وما رافقه من الانقلاب على العقلانية والاعتزال فكرياً وتنظيمياً، وبالتالي فليس من المعقول أن تتفهم أو تراعي العناصر التركيبية الرعوية تلك الحركة العقلانية، وتتركها تتفاعل وتراكم ما يمكن الوصول إليه من بلورة الوعي السياسي على اسس عقلانية جديدة، وساهم تفكك النظام الاقتصادي والاجتماعي والتحول إلى ما يشبه النظام الإقطاعي العسكري الذي تعزز فيما بعد، في الوصول إلى ذلك الانهيار، ونذكّر أن الخليفة العباسي المتوكل الذي انقلب على العقلانية والاعتزال وأعاد سلطة السنة والحنابلة وطارد الفكر وحظَّر المناظرات والمجادلات الفكرية والكلامية إرضاء للعسكر التركي المتحكم بالحكم والسياسة، ذهب ضحية سياساته عندما انبرى للحد من سلطة العسكر التركي بلا حليف فانقضوا عليه وقتلوه وقتلوا العقلانية والوعي العروبي بالكامل وفي عصور الانحطاط التي تعمقت بالهجمة الصليبية والمغولية التي كانت سبباً ونتيجة للانحطاط الحضاري، لم يعد الإبداع إلا إعادة إنتاج لثقافة حققت ذاتها في العصر الذهبي وقامت النخب بشرحها وتلخيصها والتعليق عليها، وتصنيفها والاهتمام بالعمل الموسوعي اللغوي والفقهي، والتمسك بالمعطى التراثي لتوظيفه في المواجهة والتعبئة لصد الهجمة المغولية والصليبية وأدواتها المحلية التي تعمل على تفكيك الكيانات وتغيّيب الهويات الحقيقة والانتصار عليها؟!
وبهذا الوضع لم يعد للهوية العربية الإسلامية إلا الحفاظ على مكوناتها كما تواترت إليها، ولكنها عجزت عن تطويرها في عصر التصحير الفكري وتجفيف مصادر الحضارة والإبداع ممثلة بالذات المستقلة والعلم والعقلانية.
ولعبت الرُبط والطرق والتكايا الصوفية والتيارات السلفية الأخروية دوراً بالغ الخطورة في تحويل الإسلام والإيمان إلى خلاص فردي أساسه التعلّق بالآخرة والانسحاب من الحياة وما تتطلبه من استحقاقات ومواقف لا بد منها، بخاصة مع تصاعد وتراكم التحديات والمعضلات الاجتماعية والسياسية، وبقي الوعي الصوفي مهيمناً في عصر الانحطاط وهيمن على الوعي الاجتماعي الفردي والجماعي خصوصاً مع تفكك العقلانية، تعالي السياسة واحتكارها في نطاق طغمة من السلاطين والأمراء والأتباع، ولم يعد هناك مصالح عامة أو تداول سلطة تعمل فيها وعليها السياسة، فقد تحولت في النهاية إلى سلسلة من المؤامرات والدسائس لإدامة الاستبداد والامتيازات. ورافق ذلك انهيار الأمن وخراب الاقتصاد وتوقف التجارة الخارجية والضغط الأوروبي المتواصل. ولم يعد في الإمكان إلا الارتداد إلى مواقع أولية والتمسك بأنماط بدائية من الكيانات والوعي لتوفير الأمن والرعاية من خلال التنظيمات المحلية والطائفية والمهنية ولم يعد تعريف الذات بالإسلام والعروبة كافٍ بحد ذاته لتوفير متطلبات الأمن والوجود، وبقيت الهويات العصبوية هي المتحكمة في الوجود الفردي وعلاقاته الاجتماعية، وبقي الأمر كذلك حتى هبت رياح التغيير والحداثة في عصر النهضة العربية التي خلخلت تلك الكيانات والانتماءات وما طابقها من فكرويات أيديولوجيات.
وشهد ذلك العصر حركة الإحياء الديني وإعادة بناء الهوية الذاتية بالإسلام، فهو الأقرب والأكثف في تكوين الهوية والسلاح المجرّب في الصراع مع الهويات الأخرى والأنجح في صد الهجمة الغربية التي اتخذت أشكالاً دينية بغض النظر عن الدوافع الحقيقية الأخرى.
وفي غضون ذلك عبّرت الدولة العثمانية عن ذاتها وعن هويتها كدولة إسلامية وحامية حمى الإسلام، وكان على نخبتها السياسية والفكرية ترجمة هذا التوجه والانتماء فاصطنعت فكرة العثمانية والجامعة الإسلامية للحفاظ على تماسكها وصد الأطماع الغربية، إلا أن تلك الصيغ لم تستطع استغراق الهوية ولم تعد تلبي طموحات الشعوب العربية وغير العربية في الدولة العثمانية ولا حتى الأتراك أنفسهم، فبدأ تنامي الوعي القومي بالتأثير المباشر من الغرب، وأدرك العرب وغير العرب ما يميزهم عن الأتراك بغض النظر عن الأخوة الدينية - في الإسلام، وتعمق إحساسهم بعروبتهم وقوميتهم في ظل الوعي القومي التركي الذي انحرف وتحول إلى نظرية وممارسة شوفينية متعصبة ضد العرب، ولم يزل العرب يحاولون حل إشكالهم مع الأتراك، والبحث عن صيغ توحيدية وهويات جامعة تكفل الحد الأدنى من التماسك والتعاون من دون جدوى، حتى انبرى فريق من القوميين العرب للتنظير للانفصال التام، وتأسيس قومية علمانية وفك ارتباطها بالدين، وفك ارتباطها وروابطها بالدولة العثمانية لا سيما النخبة القومية الليبرالية في بلاد الشام التي واجهت أكثر من غيرها الاستبداد والتترك، أما في مصر التي واجهت الاستعمار الأوروبي فقد بقيت تشعر نخبتها السلفية بأن العثمانية والإسلام رصيدها في معركة التحرر والاستقلال، بعكس نخبتها الليبرالية التي أرست وعياً وطنياً خالصاً، وهوية مصرية قطعت صلاتها مع التقليد والسلفية وتجلياتها العثمانية والجامعة الإسلامية.
وكان لإلغاء الخلافة العثمانية والاستقلال الشكلي في مصر أن زودت الوعي الوطني بمحتوى جديد، فقد فقد الوعي السلفي التقليدي ركيزته كما فقد الوعي الليبرالي مشروعيته بتحول الليبرالية إلى امبريالية ضد الوطنية في مصر، وكانت ثورة يوليو الناصرية 1952 نقطة فاصلة في تشكيل الهوية الذاتية وإعادة بناء الوطنية المصرية على أسس أوسع وأرسخ، وأقصد بذلك العروبة أو القومية العربية التي جعلها عبد الناصر هوية العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.
وحاول عبد الناصر القطع مع السلفية والتقليد من جهة ومع الليبرالية الغربية من جهة أخرى، لأن الأولى تشير إلى التخلف العثماني والتأخر الذي امتد قروناً عدة والثانية تشير إلى الاستعمار والليبرالية البرجوازية إلا أن هذه البنى الفكرية لم تكن مجرد أيديولوجيات مجردة يمكن التلاعب بها وحذف وإضافة بعضها، بل هي أفكار معبرة عن مصالح مادية لجماعات ومجموعات بشرية ديناميكية قادرة في التأثير في مجرى الأحداث"وبمعنى آخر فإن إلغاء بناها الفوقية يعني ضربها، أي ضرب أسسها المادية، وهذا ما دفع عبد الناصر في بحثه عن فلسفة جديدة لثورة يوليو للاصطدام مع اليمين واليسار، وبقيت الازدواجية قائمة بين العروبة والإسلام وحاولت مصر عبد الناصر اصطناع هوية مركبة تتصالح أو تتجاوز الازدواجية ولا تلغيها، فانفتحت على حركات التحرر ودول العالم الثالث وأصبحت مصر مركز الدوائر الثلاث الإسلامية والعربية والإفريقية.
الا ان هذه الصيغة لم تُلغ التوتر والازدواجية بين العروبة والإسلام فكرياً ومادياً وبقي السجال قائماً بل واستعر من جديد حول طبيعة الهوية الذاتية والوعي بها.
* كاتب وباحث أردني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.