كان هو قد تخلى - تقريباً - عن سماع الأوبرا. لم تعد الأوبرا تدخل في باب اهتماماته الموسيقية الآن، لأنه لا يفضل سماعها مسجلة، بل على المسرح، أو الشاشة. ولم تعد لديه الآن تلك الهمة للاختلاف إلى دور الأوبرا. فتخلى عن سماعها، إلاّ في المناسبات، حين تعرض برامج أوبرالية على شاشة التلفاز. في شبابه شاهد أوبرات لا حصر لها تقريباً في سان فرانسيسكو، على المسرح، وعلى شاشة السينما، منذ أيام تيتو غوبي، وماريا كالاس، وبنيامينو جيلي، وللي بونز، المغنية الفرنسية الفاتنة، وريناتا تيبالدي، التي كانت تغني دور"مداما بترفلاي"على نحو مذهل، بما في ذلك نحيبها الذي يعتصر الفؤاد، قبل إقدامها على الانتحار. وفي أوائل الثمانينات، شاهد في برلين عدداً من الأوبرات في صحبة صديقته الألمانية، مثل كوزي فان توتي لموتسارت، و الهولندي الطائر لفاغنز، وأوبرا"لولو"لألبن بيرغ. وفي فيينا شاهد أوبرا"دون جوفاني"، وأوبرا"زواج فيغارو"لموتسارت. وشاهد في بودابست أوبرا"روز نكافالير"لريكارد شتراوس، وأوبرا"عايدة"لفيردي، تؤدى على مسرح مكشوف في ملعب لكرة القدم، كان من المفروض ان تؤدي الدور الرئيسي فيها المغنية الفنلندية الشهيرة كيري ته كاناوا، لكنها اعتذرت عشية العرض، وقامت غيرها بأداء الدور. واستمع الى أوبرات كثيرة أخرى، لكنها كلها لم تدخل في نفسه تلك المسرة"الماورائية"التي تورثها الموسيقى المجردة الرفيعة. ثم تعرف عليها، في لندن، واكتشف أنها تحب أوبرات توتشيني. تذكر أوبرا"مانون ليسكو"، التي استمع إليها في لندن أيضاً، على شاشة التلفاز، في الأسبوع نفسه الذي تعرّف فيه عليها. قالت:"شاهدتها على شاشة التلفزيون أيضاً. فيا لها من صدفة. كان ذلك قبل ان نتعرف على بعضنا الآخر بأيام على ما أعتقد". "نعم، بالضبط". "كان يعجبني أن نستمع إليها سويّة. أنا أحب أن استمع إلى الموسيقى في صحبتك". "وأنا كذلك". "الموسيقى معك شيء آخر!" "ومعكِ ايضاً!" وصارت تُمده بمختارات من الأعمال الموسيقية، بعضها على هواها، وبعضها الآخر تلبية لطلباته. كان من بينها أوبرا"توسكا"، وأوبرا"البوهيمية"لبوتشيني، وكاسيت على وجهه الأول مجموعة"آريات"لمغنية السوبرانو ماريا كالاس، وعلى وجهه الثاني عزف مشترك لرافي شانكار على السيتار، ويهودي مينوهين على الفايولين، تحت عنوان"الشرق يلتقي الغرب". وشريط آخر مكرس للعزف على البيانو، لعازف جاز كان عزفه يرقى إلى مستوى أعزب المقطوعات الكلاسيكية. وأصبحت الموسيقى طقساً مشتركاً بينهما، لا يستغنيان عنه. لكن جلساتهما الموسيقية لم تكن تشتمل على الأوبرا، باستثناء مقاطع من غناء السوبرانو، الذي لا تتخلى هي عنه. وسعدت كثيراً يوم سمعت في صحبته غناء أوبرالياً يلعلع في فضاء الباحة الداخلية لمخزن"هارودز"لمحمد الفايد. وعندما تطلعا إلى مصدر الغناء، أبصرا مغنية في زي أوبرالي تغني من إحدى الشرفات المطلة على الباحة والسلالم. ثم جاورها في الغناء رجل من على شرفة مقابلة. كانت تلك بادرة جميلة من مخزن"هارودز". وأحبا أن يختلفا إلى مقهى هذا المخزن بأمل أن يتكرر هذا المشهد. وكان هو يذوب وجداً في موسيقى الأورغن، ويشعر بضرب من التوحد"الديني"معها. أما هي فكانت تنفر منها، وتصر على ان لا تسمعها، في غيابه أو حضوره. لكنها تشاركه الاستمتاع بالتراتيل والابتهالات الدينية المسيحية، وتطرب لموسيقى بالاسترينا 1525 - 1594. فتفعمه بذلك سعادة، لأن الموسيقى القديمة تمنحه إحساساً بالعودة إلى عصر أكثر براءة من العصر الحاضر وأوضاره. لكنهما هنا دخلا في سجال حول الموسيقى"الحزينة"، أو"الكئيبة"، وپ"السعادة"التي تورثها الموسيقى الحزينة. فهي تنفر من الموسيقى الحزينة، ولا تريد ان تسمع شيئاً"نائحاً". أما هو فشعر أن هناك شرخاً بينهما في هذه المسألة. وأحزنه ذلك. إن أرفع ألوان الموسيقى، في رأيه، ما كانت تخالطها لمسة حزن، أو كآبة. قال:"أنت تخيبين ظني هنا، يا عزيزتي". قالت:"لا أطيقها". قال:"مهلاً، إذن". وأسمعها أرمينا أباندوناتا، وهي مغنّاة عذبة وحزينة لهاندل. فطربت لها كثيراً، وقالت:"مع كل إعجابي بها، فإن هذا لن يغير موقفي من الموسيقى الحزينة. وأرجو ان لا تفرضها عليّ!" وعلى رغم ان للموسيقى موقعاً مهماً في حياتها، إلا ان لديها هي"فيتو"تجاه الكثير من ألوان الموسيقى. وهي صارمة جداً في ذوقها. فهي لا تطيق سماع الموسيقى العربية، وكل أطياف الموسيقى الشرقية. وتستهين حتى بأرفع ألوان الموسيقى التي تؤدى على العود، ربما باستثناء منير بشير، وفي نطاق محدود. ولا تطيق موسيقى السيتار الهندية، التي يطرب لها هو. وبكلمة، إنها تصر على أن تحصر اهتمامها في دائرة محدودة جداً من الموسيقى. هذه الدائرة تكاد تشتمل الآن على موسيقى البيانو وحدها تقريباً إلى جانب الموسيقى الأوبرالية. فهي تجد في ملكوت البيانو سعادتها وملاذها، وربما الهاربسيكورد أيضاً. أما الموسيقى الأوركسترالية فيضيق صدرها بها. إنها تتعالى عليها، وعلى كل موسيقى البالية، أيضاً، وحتى الكونشرتو، لأن فيها عنصراً أوركسترالياً. وهزئت به مرة لأنه أعرب لها عن إعجابه بموسيقى"ذافنيز وخلويه"لموريس رافيل. ضحك، وقال:"مع ذلك، ان كلمة ذافنيز، اليونانية، هذه، هي أصل كلمة الدُفلى العربية". "صحيح؟ لم انتبه إلى ذلك، مع أنني أعرف معناها باليونانية". وفوجئ يوم أسمعها مقطوعة للموسيقية الفرنسية للي بولانجيه 1893 - 1918، شقيقة ناديا بولانجيه. كان رد فعلها سلبياً تماماً. قالت على الفور:"أرجوك، لا أريد سماع هذه الموسيقى". سألها مبهوتاً:"لكن لماذا؟" "لا أحب هذه الموسيقى. هل هي موسيقى حديثة؟" "في إطار ما" "أنا لا أحب الموسيقى المتقطعة". "ماذا تقصدين؟" "أفضل الموسيقى المتصلة، لأنها لا تبدو لي متوترة، أو متشنجة". "لكنني أحب هذه"الموسيقى". "اسمعها وحدك". "لكنني أريد ان تشاركيني استمتاعي بالموسيقى المتنافرة أيضاً، وبكل النزوات الموسيقية، بما في ذلك غناء كاتي بربريان". "من هي كاتي بربريان؟" "مغنية لم تعد على قيد الحياة. احثك على سماع غنائها العجيب؟" "نعم". "لنسمع شيئاً منها إذن". وخفَّ إلى مجموعته من الكاسيتات، وجعل يقّلبها إلى ان عثر على الكاسيت المطلوب. وضعه في مقبس جهاز التسجيل، وقال قبل ان يشغل الجهاز:"هذا عمل للموسيقي الإيطالي المتوفى حديثاً، لوتشيانو بيريو. هل تعديني بأن تسمعيه حتى النهاية؟". "كم طوله؟" "أقل من عشر دقائق". "طيب". ثم انثالت على سمعيهما كل ألوان الأصوات التي يستطيع البشر أداءها. وهذا يتراوح بين الغناء العذب والدندنة، مع أصوات حنجرية غير مستحبة، وصيحات، وخطب لا معنى لها، وسعال، وضحك، ولهاث، وهمهمة، وهمس، وطقطقات لسان، وفرقعة أصابع، واصطكاك أسنان، ولطم باليد على الفم، وترعيشات اللسان مع الشفة العليا. وهناك كلمات، وما يشبهها، وأحرف صامتة، وأخرى غير صامتة، تُنطق بصورة لا تؤدي معنى، أو لغة. وذلك كله باستثناء مقطع يؤدى بين حين وآخر بانفعال واضح:"غنِّ لي، لامرأة، قبل المساء، غنِّ". قالت:"هل تسمي هذه موسيقى؟" قال:"أعترف بأن هذه كانت جرعة موسيقية مُرّة، أو مجّة. لكن الموسيقى العذبة وحدها تصبح شيئاً رتيباً. وهنا تأتي أهمية التنافر في الموسيقى. الموسيقى الخالية من التنافر تصبح مملة، مثل الحياة الخالية من التوتر". قالت:"قل هذا لغيري. أما أنا فترضيني وتسعدني الذخيرة الهائلة من موسيقى البيانو، ولا ضير إذا تخللها تنافر خفيف مستعذب". "طيب، إذن، نحن نلتقي في محراب البيانو، والهاربسيكورد". "نعم، وأنت تعلم أن صحبتك الموسيقية هي من أسعد المشاوير في حياتي". "وحياتي أيضاً"