غاب حسين ثلاثة أيام عن البلد، وعبدالرحيم امتلأ قلقاً. أعمدة الدخان ترتفع فوق الجبل. الأب خاف على ابنه. كم مرة قال له لا تطلع الى الجبل في هذه الأحوال، كم مرة؟ مذ وقعت حادثة بيت مري قبل شهور وهو ينبه عليه ألا يصعد الى الجبل."إذا أردت أن تصيد اذهبْ الى مستنقعات برج حمود، اذهبْ الى صحراء الشويفات، لكن لا تترك الساحل ولا تطلع الى الجبل"، قال لحسين. لكن حسين لا يسمع. هل أصابه الطرش وهو يدكّ البارودة ويقوص، يدك ويقوص، يدك ويقوص، هل أصابه الطرش؟ ما باله هذا الولد تحول ثوراً؟ ومن أين جاء إليه هوس الصيد؟ كل الوقت في البرية. وإذا رجع الى البلد نام في الخان، في الاصطبل أو في غرفة عمه على السطح. وإذا نام في البيت عند أمه، إذا نام في الحارة ينهض مع أذان الفجر، ينهض قبل طلوع الشمس ويأخذ بارودته ويختفي. من أين جاء هذا الهوس بالصيد؟ ملأ الحارة طيوراً، يصيد غزلاناً وأرانب برية، كل الوقت في الصيد. وقبل أيام خرج في رحلة أخرى، وفي غيابه اشتعلت. فرقعة البواريد ملأت السماء. والحاج سليم الفاخوري جاء من الحازمية عند سفح الجبل وقال ان المعركة وقعت في عين دارة، قبل ظهر البيدر. وقعت في المرج، على حافة طريق دمشق. الدروز والموارنة اشتبكوا بالكلمات ثم بالخناجر ثم بالبواريد. والآن يغزو خطار بك العماد قرى المتن بدروزه. يحرق القرى. والنصارى يهربون. الله يستر، قال الحاج سليم. عبدالرحيم البارودي يخاف أن يكون ابنه حسين في تلك الجهة. يخاف ويشعر كأن السماء وقعت على رأسه. مع أن هذه ليست عاداته. عائشة كثيرة الخوف. هل نقلت إليه هذا المرض؟ الوساوس تتكاثر عليه، كأن غيمة سوداء تتعلق فوق رأسه. يشعر بالظلمة ترافق خطواته من الحارة الى الخان، من الخان الى حانوت التبغ، من حانوت التبغ الى البازركان، من البازركان الى معمل الألاجة... غيمة سوداء ترسم دائرة سوداء حول جسمه. هذا لم يبدأ الآن. بدأ قبل أيام، في عزّ القزّ، وبيوت بيروت تقطف عن الوزال الشرانق. الغيمة السوداء تعلقت فوق رأسه عندما جاء اليه صهره نصرالله الصايغ في"محطة الشام"وقال واقفاً عند مناقل الشواء ان الشركة غيّرت طريقها المستقيم، لن تدخل الطريق الى الميناء من هذه الجهة، من الشرق. ستدخل من خان أنطون بك، من الأرصفة الغربية. عبدالرحيم البارودي أحسّ سلسلة ظهره تنقطع وهو يسمع كلمات الخواجة نصرالله. لهذا اشتروا أرض عبدالخالق الشلفون إذاً! لهذا يشترون أرضاً جنب"ساحة عالسور"! ولهذا اشتروا جلول الرمان تحت تلّة القشلاق على طول السور الغربي خارج باب إدريس. الخواجة نصرالله سمع الخبر من أنطون بك شخصياً. أنطون بك المصري صاحب الخان الكبير على المرفأ قال إنه عرف هذا من مهندسي المساجيري العاملين بإمرة الكونت دي برتوي. الكونت لم يتمكن من الحصول على الأراضي التي يريدها محطة لعربات الشركة وخيولها. لم يتمكن من شراء الأراضي في جوار المقابر المقفلة خارج باب الدباغة وخارج باب السراي. لم يتمكن من شراء خان عائلة البارودي. فقرر أن ينعطف بالطريق غرباً: ينعطف عند زاوية أبي النصر ويدور حول سور بيروت القديم الجنوبي منحدراً الى الميناء بمحاذاة الأسوار الغربية لا الشرقية: اشترى أراضي خارج باب يعقوب. واشترى أرضاً بين خان أنطون بك ومقبرة السنطية. الكونت برتوي قال إن هذا الحل عملي: هنا المكان أوسع، ولا يضطر لطلب الإذن من الحكومة لتوسيع الطرقات الطالعة من الميناء الى باب الدباغة. تلك الطرقات ضيقة، حتى الحمير تجدها ضيقة، فكيف تعبرها عربات الديلجانس؟ قرر الكونت برتوي أن يربط الميناء بطريق الشركة عبر الجهة الغربية للميناء، حيث الزحمة أقل والعنابر أقل والبيوت أقل. عبد الرحيم البارودي سقط وجهه. في تلك الفترة الحرجة اندلعت حوادث الستين. لم يكن أحد يعلم عندئذ انها ستتحول حرباً شاملة وخاطفة تُفضي الى تهجير نصارى جبل لبنان من قراهم وبلداتهم. الكارثة لن تنتهي هنا. ستتكرر في دمشق أيضاً. الحرب بدأت بمعركة عين دارة في الأيام الأخيرة من أيار مايو 1860. الهاربون بجلودهم الى بيروت افترشوا الأرض تحت الأشجار ورووا ما جرى. يوم الأحد 27 أيار اشتبك الدروز يقودهم صاحب العرقوب خطار بك العماد بفرقة مسيحية مسلحة من أبناء زحلة. المعركة وقعت في خراج عين دارة. الشيخ عزّت بيضون مدبر خان التوتة سمع من جرمانوس حداد تفاصيل المعركة: جرمانوس حداد البيطري صاحب اللحية البيضاء قال إنه رأى المعركة كاملة من سطح بيته. بيته يجاور كنيسة عين دارة"عند قرع الجرس يهتز إبريق الفخار على حافة شباكه. بيته حد الكنيسة، ومن السطح العالي رأى المعركة. قال ان الجيش الزحلاوي كان كبيراً، ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف رجل، لكن نصفهم بلا بواريد، نصفهم يحملون المناجل كأنهم خرجوا لحصاد القمح. دروز العرقوب جاؤوا على أحصنة. كانوا أقل من ألف. على رؤوسهم طاقيات بيضاء. والشمس تلمع على بواريدهم وبلطاتهم. جيش زحلة اصطف على طريق الشام. نصفه اختفى في الخنادق. الطريق لم تكتمل بعد. هنا ضيقة. هناك واسعة. هنا شوك. هناك صخور. كوم التراب تتوزع الطريق والغبار يرتفع من تحت الأقدام والحوافر. جرمانوس حداد ابن عين دارة رأى المعركة من سطح بيته. قال في ما بعد انه خاف عندما رأى منظر العساكر الآتية من زحلة. منذ أيام ونصارى العرقوب يهجرون قراهم نازحين الى زحلة. زحلة كبيرة حصينة. خرجوا من الباروك وكفرنبرخ وبتلون وقطعوا غابات الصنوبر وبساتين عين زحلتا الى عين دارة. ثم قطعوا سهل البقاع الى زحلة. هو سألهم لماذا يتركون بيوتهم؟ والنازحون قالوا ان الدروز في العرقوب تسلحوا، جميع دروز الشوف تسلحوا، والجو ينذر بالشرّ. منذ أيام يراهم على الطرقات، يحملون ثياباً وزنابيل وصناديق. الحمير محملة. والنساء والأولاد أمام الحمير. ووراء الحمير. يراهم ولا يفهم كيف يتركون بيوتهم والموسم موسم قزّ وحرير. في الجبل موسم القزّ يتأخر أياماً عن موسم الساحل. طقس الجبل برد. يبدأ الموسم بعد الساحل. وينتهي بعد الساحل. القزّ لا يفقس من بزره إلا بارتفاع حرارة الجو. جرمانوس حداد خاف عندما رأى العساكر آتية من زحلة. عرف أنها تقصد العرقوب. وعرف أن لحظة الشرّ اقتربت. خاف على العساكر. كانوا تحت الجوزات يُصلِّبون على صدورهم. سمعوا قرع الأجراس فصلَّبوا. قال في ما بعد انه رآهم قليلي الكلام صفر الوجوه بليدي الحركة منطرحين تحت الجوز خاملين خامدين توقظ الواحد منهم فلا يستيقظ. رآهم على هذه الحال فلم يفهم كيف يخرجون الى حربٍ ولم يفهم كيف قطعوا السهل من زحلة الى هنا في هذا الحرّ. كان الحر شديداً في ذلك الأحد، وظهر الدروز. الهاربون من قرى المتن الى بيروت نزلوا تحت أشجار التوت في"ساحة البرج". محمد الفاخوري رآهم من نافذة بيته جنب زاوية أبي النصر. البخار يرتفع من قدور الفوّالين. وهو يرى - وراء البخار - النازحين ينحدرون من طريق الكراوية ورأس النبع، ينحدرون على الطريق التي اتسعت في الأسابيع الأخيرة، والأولاد يتحلقون حولهم ويتراكضون. فيليبوس أرقش الحلبي أنزل في بيته في الناصرة عائلة من بعبدا. الشيخ عزّت بيضون فتح - بتوجيه من الحاج عبد الرحيم - عنبراً من عنابر الخان لإيواء عائلات من عبيه وبتاتر. وزع عليهم خبزاً وماء. المرسلون الأميركان جاؤوا للاعتناء بالجرحى والمرضى. عندهم مركز في عبيه. وهم طلبوا من الحاج البارودي إيواء النازحين المساكين. محمد الفاخوري خرج من بيته يطوي القميص على ذراعه المقطوعة ويشبك القميص بدبوس. قطع بين الأشجار ودخل خان التوتة من الباب الورّاني الصغير المطلي بالأزرق. اصطدم ولد بساقيه. سمع خوار ثيران وخيّل إليه أنه عاش هذه اللحظة من قبل. وجد باحة الخان مملوءة بالحمير والغبار والسلال والناس. زحمة شديدة. وفي الزاوية حيث أجران الماء تبرق عليها الشمس رأى الشيخ عزت بيضون يستمع الى حديث رجل كبير السن أبيض اللحية. جرمانوس حداد ارتعشت لحيته الثلجية في نسائم الربيع البيروتي وهو يرفع يديه ويُصور المشاهد التي رآها. الدروز هجموا من جهة الجلول العالية، أحصنتهم خفيفة تقفز الجلول قفزاً. قال إنه رأى الأحصنة تطير فوق الأحصنة، والدروز في الثياب السود والطاقيات البيض والبلطات المشهرة يطيرون فوق الأحصنة كالعفاريت، ويصرخون صرخاتهم. قال إنه خاف من الصرخات قبل أن يرى اللون الأحمر ينفجر على الطريق، بين الأشجار، ويرتفع بخاره وترتفع الرائحة. نزل من السطح عندما سمع الخردق يخبط جرس الكنيسة. طنّ الخردق على النحاس. طقطق وطرطق. نزل عن السطح فرأى أكف الدم على الحائط ورأى رجلين يقعان عند البئر بين الكنيسة وبيته. البئر يستقي منها. ويستقي الخوري وخادم الكنيسة. الرجلان الجريحان وقعا عند فوهة البئر. في البدء ظنّ أن أحدهما يساعد الآخر على الوقوف. كانت رائحة فظيعة تخرج من الاثنين مع الدم الذي يفور ويجري على الأرض. لم يستوعب كيف يخرج كل هذا الدم من هذين الجسمين الملتحمين. أحدهما ينزف من رقبته. الآخر ينزف من بطنه ومن كتفه. ثم أدرك أن أحدهما يحاول خنق الآخر. في تلك اللحظة سمع حركة وراء ظهره. من وراء البيت، من الزاوية حيث جلول الفاكهة المغمورة بضوء الشمس، ظهر رجل يطارد ثلاثة رجال. قوَّص بالبارودة، ثم أخرج غدّارة من زناره وقوَّص أيضاً. سقط رجلان. الثالث قفز واختفى في الجلول المنحدرة، يظهر بين التوتات ثم يختفي ثم يظهر. جرمانوس حداد تراجع بلا صوت الى داخل بيته. عندما ابتعدت الدعسات خرج الى الباب فرأى دماً كثيراً ولم يرَ أحداً يتحرك. الذبان، قال ان الذبان وصل في لحظة، وطنّ على الأجسام المطروحة وعلى برك الدم الأسود. من أين جاء كل ذلك الذبان، لا يعلم. نفض يديه كأنه ينفض الذبان وسكت. * فصل من رواية تحمل العنوان نفسه وتصدر قريباً عن دار الآداب والمركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء