عمر البارودي اعتاد ان يفتح عينيه وهو راقد. يرى أبناء "الفرقة البيروتية" وقد التمّوا في حلقة، ليس كلهم، بعضهم، يلتمون في حلقة، ويكسرون الخبز ويشربون الماء ويتكلمون. نور القمر ينزل من الكوّة فيقع في مركز الحلقة. وهم يتحومون حول دائرة النور كأنها نار صغيرة في البريّة. يفتح عينيه ثم يغمضهما ملتفاً بصوف الخروف. يشم رائحة الصوف الأليفة ويسمع قصصهم. هذه القصص تُنقذه. من دونها كان سيفقد عقله محبوساً في هذا القمقم المخيف. في هذه السفينة التي تأخذهم الى حرب القُرم. القصة الأولى رواها شرف الدين الدويك من كفرنبرخ بجبل الشوف: في الجرد قرية يعيش أهلها من تربية الأغنام. الكولونيل الانكليزي شرشر بيك عنده ضيعة قريبة، ضيعة اسمها بحوارة اشتراها بماله حين نزل الانكليز بالبلد سنة 1840. القرية حيث تجري أحداث القصة تطل على وادٍ عميق. في أعماق الوادي نهر أبيض المياه. وهناك الكلأ الأخضر الكثيف. الى تحت تنزل قطعان القرية. وعند ضفة النهر، حيث أطيب الأعشاب وأطراها، تحدث المشاكل. في القرية عائلتان كبيرتان، عائلة درزية وعائلة مسيحية. ربّ العائلة الدرزية الشيخ صالح عنده عشرة أبناء يرعون طرشه وخرافه. ربّ العائلة المسيحية عنده عشرة أبناء أيضاً، ومثل هؤلاء يرعون ماشية أبيهم. شرشل بك جلب طيور النعام من الصحراء، لا ندري من أين جلبها، لكنه عمل مزرعة "تحت"، مزرعة لهذه الطيور الطويلة الساقين، تشبه الدجاج والحجل والعصفور، لكنها عالية، جاحظة العينين، وإذا باضت نزلت البيضة منها بحجم البطيخة الصغيرة، أكبر من شمامة. هذا البيض يُشبع. وفي برد الجبل يملأ الجسم دفئاً. تأكل بيضة فتشبع ثلاثة أيام. بيضة بلا زيت، بلا قورمة، بلا سمن، تأكلها مسلوقة في قدر ماء، تقشرها وتأكلها فتشبع ثلاثة أيام، ولا يبرد جسمك أبداً. هذا بيض النعام. كله شحم. كأنه لحم، ليس بيضاً! أبناء الشيخ صالح عثروا على خمس بيضات في دغل القصب. الدغل بعيد من المزرعة. كيف وصلت البيضات الى هناك؟ كل واحد حمل بيضة وطلعوا الى أبيهم الشيخ. الشيخ غضب عليهم. كبيرهم قال: - وحياة الحدود الخمسة لم نسرقها. وجدناها في الغابة، بين القصب. الشيخ أجابه: - الآن تأخذونها الى شرشر بيك. لن يُقال ان أبناء الشيخ صالح حرامية. حملوا البيضات وانحدروا الى الوادي. تحت التقوا الأخوة الخمسة الذين ظلوا هنا ولم يصعدوا الى البيت يتداورون على رعاية القطيع. ونصفهم ينام الليل تحت، لئلا تضيع الماشية. والأخوة الخمسة قالوا ان الرعاة هناك، في الجهة الاخرى من النهر، عثروا أيضاً على بيض نعام. عند العصر التقت القطعان والأخوة العشرة تكلموا مع الرعاة العشرة الآخرين. تكلموا عن البيض. ووسط الحديث اتهم أحد الرجال واحداً من العائلة الأخرى بقلّة الأدب. الآخر ردّ انه يقول هذا له لأنه بلا مخّ. رجل ثالث، وهو الأخ الأصغر لأحد الاثنين، قال: "أنت ناقص العقل وناقص الدين". بعد ذلك تشابكوا. لم يطلق أحد ناراً من غدّارة. تشابكوا بالأيدي وتدحرجوا على ضفة النهر. العشرة ضد العشرة. ثم التقط أحدهم رأساً وحطمها على صخرة نابتة جنب النهر. ارتفع الصراخ. هرع الى الوادي رجال من الجانبين. وتدخل المصلحون. تلك الليلة، والقمر ينير السماء وينير القرية وينير الوادي وينير النهر في أسفل الوادي وينير المرعى الخالي من المواشي مع ان المرعى لا يخلو من الماشية حتى ليلاً في هذا المناخ الصيفي الجميل، وقف الشيخ صالح في ظل شجرة التوت، وسمع البكاء يتعالى من الجانب الآخر وسمع الحداء... من هذه النقطة، عند كتف الوادي، يرى كل شيء. لكنه الآن لا يرى إلا الظلام. عيناه أعتمتا. لم يمت له ابن. لكنهم هناك يرفعون الحداء. لن يسكتوا. مات لهم رجلٌ، دمه ساح في مياه النهر، كيف يسكتون؟ أبناء الشيخ صالح العشرة صاروا لا يتقاسمون الدور في حراسة الماشية. ينزلون الى الوادي معاً. ويطلعون معاً. ولا يقربون العائلة الأخرى ومواشي العائلة الأخرى. إذا اقتربت الأبقار من هناك ابتعدوا بأبقارهم وأفسحوا للآخرين المرعى. أصواتهم خافتة الآن، أبناء الشيخ صالح العشرة، وهم يعدّون الرؤوس هناك، ويرون انها لم تعد عشرة. صارت تسعة. يعلمون أين الرأس المفقود. الصخرة النابتة بين العشب ما زالت مصبوغة بالسواد. النهر رجع أبيض. جاء مصلحون من آل عبدالصمد. ودُفعت ديّة عن القتيل. مرّت الأيام. انقضى الصيف وحلّ الخريف. بدا ان القصة انتهت. ثم ظهرت بيوض النعام من جديد. ليس في دغل القصب فقط, ولكن في الجلول عند السفح ايضاً. والكولونيل شرشل بيك قال في بتاتر ضاحكاً ان طائر النعام لا يميل الى الانكليز: الطيور تهرب وتفرّ في الوادي، تتزاوج في الاحراج، وتبيض للدروز والموارنة... لم يبقَ عنده طيور! والكلّ ضحكوا. الرجل المقتول نُسي أمره. الخلاف يحدث في أي لحظة، لأي سبب. وليس أسهل من أن تقع رأس على صخرة. أو يغرق ولد في النهر. تدابير الله هي. والحياة تستمر. جاء الشتاء وغطت الثلوج القرية. هجعت المواشي بالزرائب وهجع الناس بالبيوت. ثم ماتت ريح الشمال. وظهرت الشمس. انفجرت رعود الربيع، فخرجت من بطن الأرض الينابيع. اعتكر النهر وفار. وظهرت المواشي من جديد. الدنيا في فرح. والزهور تملأ الأشجار. البراعم الخضر تفتح العين ولا تدعك تنام مستلقياً في ظلال الشجر. تنظر ولا تشبع. تشرب حليباً وتأكل خبزاً وكشكاً وزيتاً وبصلاً وترعى الخراف. حياة طيبة. وفي الصيف يغدو الوادي كأنه الجنة. الشيخ صالح استعاد قلقه برجوع الصيف. كأن الطقس يُحرك مزاجه. لكن الابناء قالوا لا تقلق، صرنا نتكلم معهم ويتكلمون معنا، ليس كثيراً، كلمة من هنا، كلمة من هناك، ولكن الحال أفضل، لا تقلق، ثم اننا دفعنا الذهب، لا تقلق. والشيخ صالح كان يراهم يطلعون إليه، والعرق يلمع على وجوههم، فيهدأ قلبه. على العشاء يأكلون الخبز واللبنة والجبنة والحليب وبيض النعام المسلوق. كل قُرى الجبل تأكل هذا البيض الآن. النعام ملأ الوادي. يصعب التقاطه. والناس لا يصيدونه. سريع هذا الطائر. اسرع من الأرنب. ثم إنهم لا يصيدونه من أجل شرشر بيك. هذه طيوره في النهاية. وهم يأكلون البيض ويبتسمون. يجدون البيض في الجلول، بين شتلات الكوسى، تحت أشجار الجوز، عند مدخل الزريبة، على عتبات البيوت، في زوايا البساتين... ويضحكون. كأنك عثرت على كنز. تكون مغتماً أو متعباً أو قانطاً وبينما أنت هكذا ترى بيضة بيضاء ? رمادية منقطة بالأزرق تغمز لك غمزاً عند حائط الدك، أو من تحت شجرة التفاح، أو جنب القبو. يضحك قلبك عندئذ. وتهرع إليها وتلتقطها. فإذا وجدتها ثقيلة ? لم يثقبها فأرٌ ويشرب بياضها وصفارها، لم يثقبها ثعبان، لم يثقبها قنفذ! ? تضاعفت فرحتك. هذا عشاء أربعة ايام أو خمسة. والأولاد الصغار يحبّون منظر البيضة العملاقة. أبناء الشيخ صالح يُرسلون إليه من الوادي الحمار محملاً بكيسٍ. والكيس مملوء بيضاً. ينادون عليه من تحت، فيخرج من البيت العقد الطويل ويمشي الى حافة الوادي وينظر: يرى الحمار طالعاً إليه ويرى أولاده العشرة في الأسفل يُلوحون. ويضحك. يقود الحمار الى أمام البيت ويُنزل الكيس المملوء بيضاً عن ظهر الحمار. ثم صاروا لا يصرخون من تحت لأنه أحياناً ينام ساعة القيلولة. والحمار بات يعرف الطريق. يأتي وحده الى أمام الباب محملاً بالكيس الثقيل، هذا الجراب الجلد المملوء بيضاً أو فاكهة أو خضراً. يقف الحمار هنا وحين يتعب ينهق ويوقظ الشيخ من نومه. الحمار حمار. قام الشيخ يرتب العباءة على جسمه. ومشى صوب الحمار. كان يفرك عينيه ويحسّ بلسعة البرد. الشمس تغرب وأولى أنفاس الخريف تملأ الجو. الحمار ينهق ثم يسكت. والشيخ صالح يبتسم: الكيس مملوء. ما زال ناعساً من القيلولة الطويلة. في المنام سمع أصواتاً بعيدة ولم يفهمها. كأنها نداءات من القاطع المقابل. يحبّ ساعة النوم عصراً بعد الغداء. أجمل من نومة الليل. يُسمي قيلولته "تعسيلة". كالعسل حلوة هذه النومة القصيرة، يقول. مدّ يده في الجراب يتلمس بيض النعام. ويرى حجمه. انتبه أن البيضات ليست ملساء بل متربة، كأنها رقدت في الوحل. انتبه أنها أكبر من العادة. ما زال ناعساً. سعل. فخرَّ البلغم في صدره. جذب بيضة من أعماق الكيس، أخرجها الى النور. لم يرَ في يده بيضة. رأى رأساً! أخرجها رأساً بعد رأس. كل أولاده. عشرة رؤوس. * القصة الثانية رواها أحمد الحاج العريسي. رواها بعد تعليق من عمر قاسم يمّوت على القصة الأولى. عمر قاسم يموت أحد أقاربه عن جهة أمه سارة الداعوق لن يلبث أن يتزوج فاطمة البارودي ابنة أم هند. لكن عمر قاسم يموت لن يعرف أبداً هذا الخبر. مع أن خبراً مثل هذا يهمه بالتأكيد: رأى احدى بنات البارودي مرة، أمام مدرسة الأميركان. كانت تقطف زهور الربيع أمام القشلاق فأحسّ أن الأنامل الناعمة تقطف قلبه من بين أضلاعه. لكنه ذهب الى القُرم. هل تطوع؟ كلا، لم يتطوع. أخذوه من الطريق. ثم جاء أبوه قاسم وزاره بالقشلاق ورأى رأسه المحلوقة وربّت على كتفه. كلّه جهاد في سبيل الله، والواحد لا يقدر أن يهرب من خدمة السلطان. هذه الخدمة الإلزامية، لهذا يسمّونها الإلزامية. الأب قال للابن لا تسوّد وجهنا، كل أعمامك جاهدوا في المورة في بلاد اليونان والبلغار، كن مؤمناً تقياً، لا تخف من أحد، ساعدك قوي تلطم ثوراً تصرعه. وقلبك قوي. عمر قاسم يموت باس يد أبيه وحمل البارودة. ليس خائفاً انه ذاهب الى القُرم. لكنه يشتاق الى البلد. وهذه القصة التي يرويها الشيخ الدويك لا يحبّها. الشيخ صوته بليد، ثم إنه يروي عن قرية في الجبل من دون أن يُسمّيها. لماذا لا يُسمّيها؟ لعله قلب القصة كلها. لعل الرجل الآخر، الأب الذي لا يخبرنا اسمه أبداً، هو الرجل الذي قُطعت رؤوس أولاده العشرة، وليس هذا الشيخ صالح! عمر قاسم يموت في جميع الأحوال ضايقته هذه القصة الدموية. وما زاد ضيقه انه لم يرَ ابداً هذا البيض العملاق الذي يبيضه النعام. ثم إن ذكر البيض يذكره بسته لأن ستّه تحب البيض. تقلي البيض للكل بالماء، لأنها بخيلة، لكنها له هو ? حفيدها المفضل ? تقلي البيض بزيت الزيتون، بالسمنة الحموية، أو حتى بالقاورمة. يحب قطع اللحمة ممزوجة بالبيض، يلتهم اللقمات ساخنة، ويشرب معها لبناً. لكنه الآن حبيس هذه السفينة. من أين له أن يأكل بيضاً مقلياً ويشرب لبناً الآن؟ عمر قاسم يموت لا يشعر بالراحة. وإذا ذكر أيامه في بيروت أراد أن يبكي. هل يرجع الى بلده؟ يشعر انه لن يرجع. عمر قاسم يموت ليس مخطئاً. إحساسه صادق. اسمه ليس بين العائدين. تلقى تحت أسوار سيفاستوبول صخرة. هشّمت الصخرة رأسه. غشيت الظلمة عينيه. * من رواية تحمل العنوان نفسه وتصدر قريباً عن دار الآداب والمركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء.