لم تكن نكسة الخامس من يونيو عام 1967م، حدثا عابرا بالتاريخ العربي. بل كانت هزيمة ماحقة ومرة، وكشفا مروعا، لممارسات خاطئة، وبنية عربية هشة، وتعرية لأوهام وأساطير سكنت في اليقين طويلا، حول قدراتنا العسكرية والنفسية على مواجهة المشروع الصهيوني الغاصب. وما بعدها لم يكن يشبه بكثير أو قليل ما قبلها. لقد هزت النكسة، منظومة قيمنا وأفكارنا، ورؤانا ليس فقط حول قضية فلسطين، قضية العرب المركزية، بل أيضا المشروع القومي العربي، الذي تزامن انطلاقه مع عصر التنوير العربي، ومرحلة اليقظة، التي ارتبطت بالكفاح للفكاك من الهيمنة العثمانية. لقد خاضت أمم كثيرة، حروبا انتهت بانتصارات وهزائم، ولكنها لم تحدث في بنية مجتمعاتها، ما أحدثته نكسة الخامس من يونيو، وكأن قدرها أن توقظنا من سبات طويل، وأن تقذف بسفينتنا من ضفة إلى أخرى، محدثة انقلابا في جملة مفاهيمنا ومواقفنا. ومن ضمن هذه المواقف، الموقف من القضية الفلسطينية ذاتها. فبعد سنوات محدودة على النكسة، تحقق انتقال استراتيجي، في فهم القيادات العربية لطبيعة الصراع، من صراع حضاري يرتبط بالهوية والوجود، إلى صراع على حدود متنازع عليها بين بلدان الطوق، والكيان المصطنع. وقد أغلقت نتائجها فصلا مجيدا من التاريخ العربي، اتسم بمقارعة باسلة لحركات التحرر الوطني، في الوطن العربي وبلدان العالم الثالث ضد الاحتلال الأجنبي. أما الفلسطينيون، فقد كانت النكسة، بداية الميلاد الحقيقي لثورتهم المعاصرة، حيث بقيت الثورة الفلسطينية، نقطة الضوء الوحيدة، في ظل ظلام دامس عانت منه المنطقة العربية بأسرها، جراء النكسة. وكانت تعقيدات القضية الفلسطينية، وارتباطها شعبيا ورسميا بمحيطها العربي، قد حملت الثورة، ما يفوق بكثير طاقتها المحدودة، والمحكومة بكوابح إقليمية ودولية، تحد من سيرها وتمنعها من التوجه بثبات وقوة نحو تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، في الحرية وتقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني. في مثل هذه الأيام مرت الذكرى التاسعة والخمسون، على حرب الأيام الستة. حيث هزمت ثلاثة جيوش عربية، هي جيوش مصر وسورياوالأردن. ورغم أن تداعيات هذه النكسة لاتزال ماثلة أمامنا، حتى هذه اللحظة، فإن أجيالا عربية جديدة، ولدت بعد هذا التاريخ، ولم تعايش أحداثه، أو تعرف بتفاصيله. ولأن «الذكرى تنفع المؤمنين» ذلك أن أي أمة، لا تستطيع أن تقدم وتبني نهضتها، إلا اذا ظلت محتفظة بذاكرتها، وجب على الجيل الذي عاش مرارات تلك التجربة المرة، أن يستحضرها، ويعيد التذكير بها، على اعتبار أن دروس التاريخ، هي من أهم العبر. ولعل أهم عبرة في هذه النكسة، أن غياب المشروع العربي الموحد، وانشغال العرب، بالصراع مع بعضهم البعض، هو الذي يفتح الثغرات لتسلل الخصوم والأعداء، واختراق جدار أمنهم. ولم يكن حال العرب قبل النكسة في وضع يحسدون عليه. فالجيش المصري، الذي هو العمود الفقري في المواجهة مع إسرائيل، كان منشغلا في ما يشبه الحرب الأهلية باليمن. وبلاد الشام والعراق غرقتا في انقلابات عسكرية عدة، لم تتح للبلدين، التفرغ لمهام التنمية والبناء. والجزائر العربية، كانت للتو قد أنجزت استقلالها من المستعمر الفرنسي. والشعارات التي رفعها مؤتمر القمة العربي الأول، عام 1964م، والذي أقر تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وبناء جيش تحرير فلسطيني، وتوقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك، لم تترجم تلك الشعارات إلى أمر واقع، حيث كان التطبيق كاريكاتوريا ومشوها، في البلدان التي تبنت تلك القرارات. أما في بقية الأقطار العربية الأخرى، فقد ظلت تلك القرارات حبرا على ورق. لقد أعاد العدوان الصهيوني على العرب، في الخامس من يونيو عام 1967، تذكير العرب والعالم بأسره، أن المشروع الصهيوني، منذ انطلاقته هو مشروع حرب. قام على اغتصاب الأرض وتشريد سكانها الأصليين، مستندا في ذلك على أسطورة ومزاعم ، لم تؤكدها حقائق التاريخ. وليس تقرير ذلك، من باب الاستنتاج والتحليل، بل هو فعلا ما دأبت على تأكيده أدبيات الحركة الصهيونية، منذ تأسس كيانها الغاصب عام 1948على أرض فلسطين التاريخية. في هذا السياق، تشير مذكرات أحد القادة المؤسسين الصهاينة ورئيس وزراء الكيان الصهيوني في فترة الخمسينيات، موسى شاريت، إلى اجتماع عقده كبار قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، عام 1956م، لتقييم نتائج العدوان الثلاثي الغاشم على مصر. وأن هذه القيادات، اتخذت في نهاية اجتماعاتها قرارا تاريخيا، بمنع الجيوش العربية، من استكمال بناء قدراتها. وجرى تبني هذا القرار، مشفوعا بتوصية أخرى قدمها كبار قادة المؤسسة العسكرية، بأن تشن إسرائيل حربا واحدة على الأقل، في كل عقد، بهدف تدمير القوة العسكرية العربية، ومنعها من النمو. وكان ذلك هو ما تحقق بالفعل. ويمكن التأكد من ذلك بالنظر، إلى كورنولوجيا الصراع الدامي بين العرب والصهاينة. والبداية كانت مع حرب النكبة، عام 1948، حين أعلن الصهاينة من جانب واحد تأسيس كيانهم. ومن ثم العدوان الثلاثي: البريطاني الفرنسي الإسرائيلي الغاشم على مصر، عام 1956م، ثم حرب يونيو عام 1967م، ثم حرب العبور عام 1973م، ثم حرب لبنان، ودخول بيروت في صيف عام 1982م، ثم مواجهة انتفاضة أطفال الحجارة، وضرب المفاعل النووي في بغداد، والعدوان على تونس، والهجمات المتكررة على الحدود اللبنانية، واحتلال جنوبلبنان، وقمع انتفاضة الأقصى، في مطالع هذا القرن، وحروب متكررة ضد لبنان وقطاع غزة. وقائمة الاعتداءات طويلة، وجميعها تؤكد صحة ما ورد في مذكرات موسى شاريت المشار لها. والأمر عند قراءة أسبابه يبدو منطقيا وطبيعيا. فالمشروع الصهيوني، رغم ارتباطه التاريخي بالمشاريع الكولونيالية، لكنه في الأساس، وكما ورد في أدبياته مبني على عصبية وخرافة شوفينية، يحشد من خلالها أتباع الديانة اليهودية، على مستوى العالم للهجرة إلى أرض الميعاد، وتكون أرض فلسطين قطب الرحى، في عملية استقطاب اليهود، لا لعقيدة الصهيونية. وعلى هذا الأساس، فإن المشروع الصهيوني، ليس له مكان خارج حالة التحشيد والحرب والتوتر، فمن هو العاقل الذي سيغادر أوروبا أو أمريكا إلى أرض مجهولة وفي حالة حرب، وهو يعيش في رخاء وبحبوحة، فقط لأن ثمة أسطورة مصطنعة أقنعته بأن وطنه الديني المتخيل هو «أرض العسل والزيتون»، وعد النبي إبراهيم نسله بحيازتها. وهذه القراءة تتسق مع رؤية المؤرخ العربي، عبدالرحمن بن خلدون، التي تشير إلى أن الدولة، هي تعبير عن عصبية ما. وأن شرط تأسس العمران، هو استفحال العصبية. في سياق، هذه الرؤية، تبقى تفاصيل حرب يونيو الجزئية والكثيرة، غير ذات أهمية، ما لم توضع في هذا الإطار الاستراتيجي. وهو أن هدف هذه الحرب الأول، هو تدمير الجيوش العربية، وتأكيد النزعة الاحتلالية العنصرية، للعدو الصهيوني، والاستيلاء على المزيد من الأراضي العربية. قصة العدوان، بدأت بعد شن حركة فتح الفلسطينية، التي تأسست في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، بزعامة الرئيس ياسر عرفات، عمليات عسكرية عدة عبر أراضي الجولان السورية، حيث كانت فتح تلقى الدعم والتأييد من النظام السوري، القائم آنذاك. وإثر ذلك هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول، بأن جيش بلاده، سيقوم باحتلال العاصمة السورية. وقد دفعت تلك التهديدات، وتأكيد الاتحاد السوفييتي، بوجود حشود عسكرية إسرائيلية ضخمة على الحدود مع سوريا، إلى توقيع سوريا معاهدة دفاع مشترك مع مصر. وإثر توقيع تلك المعاهدة، قام الجيش المصري، بإغلاق مضائق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، كما جرى تحشيد ضخم لقطاعات واسعة من الجيش المصري، قريبا من شرم الشيخ. واعتبرت الحكومة الإسرائيلية هذا التصرف، بمثابة إعلان حرب عليها من قبل مصر. وقبيل اندلاع الحرب بعدة أيام، وصل الملك حسين، بن طلال، ملك الأردن إلى القاهرة، وانضم إلى معاهدة الدفاع المشترك التي وقعتها القاهرة ودمشق من قبل. توترت الأمور أكثر فأكثر، وقرعت طبول الحرب، لكن القوى العظمى، ممثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، والاتحاد السوفييتي، أوصتا القيادة المصرية، بضبط النفس، وتعهدتا بأن إسرائيل لن تكون البادئة بالحرب. لكن تلك الوعود ذهبت أدراج الرياح. ففي ضحى الخامس من يونيو عام 1967م، شن الطيران الحربي الإسرائيلي، هجمات مكثفة شملت جميع القواعد العسكرية الجوية المصرية، من غير استثناء. ودمرت الطائرات الحربية المصرية. ودخلت مصر المعركة من غير سلاح جوي. وبعد سويعات عدة من اندلاع المعركة، دخلت سورياوالأردن الحرب، تنفيذا لبنود اتفاقية الدفاع المشترك الموقعة مع مصر. وتكشف أن المعركة لم تكن متكافئة من حيث الإعداد والقوة، بين الجيوش العربية، والجيش الإسرائيلي. والنتيجة أن جيشي سورياوالأردن، انخرطا في حرب لم يكونا مهيئين لها، ولذلك لم يصمدا طويلا. انتهت الحرب، باحتلال الكيان الصهيوني، لشبه جزيرة سيناء كاملة من مصر، ومعها قطاع غزة، الذي كانت مصر تديره، إلى ما قبل اندلاع تلك الحرب. كما احتلت هضبة الجولان من سوريا، والضفة الغربية، ومدينة القدسالشرقية، التي كانت جزءا من المملكة الأردنية، حتى اندلاع تلك الحرب. وهكذا تضاعفت مساحة الكيان الإسرائيلي عدة مرات. توقف إطلاق النار، بهزيمة محققة للجيوش العربية. وصدر قرار مجلس الأمن رقم 242، لتسوية الأزمة، وكلف المبعوث الأممي جورنار يارنج، لرعاية تنفيذ القرار. لكن الصهاينة، لم يكونوا يرضون بالانسحاب الشامل من الأرض العربية، من غير تأمين الاعتراف باغتصابهم لفلسطين، وتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية مع كيانهم الغاصب. منذ الحين، سالت دماء كثيرة، وجرت عملية تهويد واسعة لزهرة المدائن، القدس الشريف. وتمت مضاعفة بناء المستوطنات عشرات المرات وبنيت الجدران العازلة والممرات العسكرية في الضفة الغربيةوالقدس ومرتفعات الجولان. ورغم أن العرب وقعوا ثلاث اتفاقيات لتسوية الأزمة، مع الكيان الصهيوني: معاهدة كامب ديفيد مع مصر، ومعاهدة وادي عربة مع الأردن، واتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، لكن ذلك لم يغير من طبيعة الكيان الصهيوني كثيرا. لقد بقى هذا المشروع، ولا يزال، مشروع حرب، لأنه بطبيعته لا يمكنه العيش في ظل سلام حقيقي يستند على الاعتراف بالحقوق، وتأمين عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، واحترام سيادة الدول، فذلك ما يتناقض جوهريا مع مشروعه. أما المشروع الصهيوني، فقد ظل مراوحا بين العدمية والتفريط، ولم يتمكن من استراتيجية كفاحية، تضع بعين الاعتبار، موقع فلسطين في خارطة الصراع الإقليمي والدولي، ومكانتها التاريخية في القلب من الأمة العربية. الصحف العالمية تحدثت حينها عن نصر إسرائيلي كامل أسرى عرب لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي