خمسة وثلاثون عاماً ليست زمناً طويلاً في حياة الأمم، ولكنها كانت ثقيلة تماماً على العرب، وكلما أقبل شهر حزيران يونيو أقبلت معه ذكرى نكسة الخامس منه عام 1967، إنها الهزيمة التي لا زالت آثارها باقية على الأرض العربية، وتداعياتها ماثلة أمام عيوننا، ولسنا هنا في مجال توزيع اتهامات او تحديد أسباب ما حدث، ولكن الذي يعنينا هو استخلاص النتائج التي نجمت عنها، وكيفية الخلاص منها، لذلك يهمني ان أرصد العوامل المتصلة بذلك الحدث الضخم في تاريخنا القومي المعاصر: أولاً: إنني أظن أن نكسة 67 كانت قابلة للتفادي لأن الصراع في الشرق الأوسط منذ قيام دولة إسرائيل قد مر بمنعطفات عدة، فيها فرص ضائعة - رغم اعترافنا بانعدام النية الصادقة للدولة العبرية - وذلك أننا نسلم بوجود اتصالات غير معلنة بين قيادات عربية وزعامات إسرائيلية عبر طرف ثالث على امتداد الخمسينات ومطلع الستينات إلا أنها توقفت دائماً نتيجة أحداث محددة عمدت فيها إسرائيل الى استفزاز الشارع العربي وترويع الفلسطينيين، ولا زلنا نرى أن "فضيحة لافون" المتصلة بالتفجيرات في القاهرة كانت أمراً مدبراً لدفع مصر في الاتجاه الآخر وإبعادها عن احتمالات المضي وراء الاتصالات الرامية الى الوصول لتسوية ما. ثانياً: إن البعد المأساوي لنكسة حزيران يونيو 67 قد جاء في قمة المد القومي للحركة الناصرية وبذلك حققت إسرائيل وحلفاؤها هدفين في وقت واحد، أولهما إلحاق الهزيمة بدول الجوار العربي مجتمعة، وثانيهما تعطيل حركة المد القومي وتغيير الاتجاه العام للسياسات العربية مئة وثمانون درجة تقريباً، ولذلك فإننا نرى أن 5 حزيران يونيو كانت مؤامرة كاملة الأركان شاركت فيها اطراف غربية - وربما شرقية أيضاً - داعمة لإسرائيل في أهدافها وأساليبها. ثالثاً: إن عبد الناصر برغم اندفاعه العلني للمواجهة سواء بإغلاقه لمضيق العقبة أو طلبه سحب القوات الدولية، أو العبارات العنيفة التي استخدمها في مؤتمره الصحافي في 23 آيار مايو 1967، كان رغم كل ذلك يسعى في أعماقه لتفادي المواجهة العسكرية مكتفياً بمظاهرة سياسية يخرج منها منتصراً، كما يجب ألا ننسى أنه هو عبد الناصر ايضاً الذي حاول أن يوفد نائبه زكريا محيي الدين الى واشنطن، ولكن كان قد سبق السيف العزل ووجهت إسرائيل ضربتها صبيحة 5 حزيران يونيو وهو اليوم المحدد لسفر نائب الرئيس المصري للتشاور مع ادارة جونسون الأميركية في واشنطن. رابعاً: إنه مما يعزز ما ذهبنا اليه من رغبة الرئيس الراحل عبد الناصر في توجه مختلف عن ما مضت عليه الأحداث هو أن نتذكر خطابه الشهير في عيد الثورة المصرية عام 1970 - وقبيل وفاته بشهرين تقريباً - حيث كان الحديث موجهاً الى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مباشرة حيث طالبه عبد الناصر بموقف أميركي عادل في صراع الشرق الاوسط وتحدث بلهجة معتدلة عن العلاقات العربية - الأميركية، كما انه عبد الناصر ايضاً الذي قبل "مبادرة روجرز" في خريف 1970 وقبيل رحيله بأسابيع قليلة، انني أظن لذلك أن عبد الناصر كان يتجه لتغيير الخطوط العريضة لسياسته وأسلوب ادارته للصراع تماشياً مع معطيات جديدة وضيقاً من تصرفات السوفيات معه بعد الهزيمة. خامساً: سيظل الموقف الأردني وزيارة الملك حسين للقاهرة علامة استفهام كبيرة لأن الحرب كان يمكن أن تقتصر على الجبهة المصرية وربما السورية ايضاً ولكن احتلال الضفة الغربية كان هدفاً إسرائيلياً قديماً لاحت الفرصة لتحقيقه عند الإعداد لضربة حزيران يونيو 67، اننا لا نستطيع ان نوجه اتهاماً للملك الهاشمي ولكننا نعتقد دائما في اساليب ملتوية لدفع سياسات بعض الدول في اتجاه معين وتحت مظلة قومية وباستخدام دوافع بريئة في ظاهرها ولكن تكون النتيجة في النهاية لصالح الخصم إن لم يكن العدو، وتاريخ الجانب العربي في صراع الشرق الاوسط حافل بنماذج من الوقوع فريسة لهذه الأساليب. إن نكسة حزيران يونيو سوف تظل تؤرق الضمير العربي برغم حديثنا الدائم عن حرب تشرين اكتوبر 1973، لأن تلك الحرب الاخيرة برغم أن القوات المصرية عبرت قناة السويس، واجتاحت خط بارليف، واتخذت مواقعها شرقي القناة، وخاضت معركة ضارية بالدبابات في أعماق سيناء بعد ضربة جوية موجعة من الطيران المصري وبسالة عسكرية على الجبهة السورية، إلا أن تلك الحرب لم تزل آثار هزيمة حزيران يونيو كاملة وإن كانت قد ارتفعت بالمعنويات العربية الى حد جعل العرب يتحدثون - بمناسبة وبغير مناسبة - عن السلام باعتباره الخيار الاستراتيجي، والذي يعنينا من كل ما ذهبنا اليه هو أن نؤكد أن مؤامرة حزيران يونيو 67 لم تكشف عن أبعادها بعد ولم تتضح تفاصيلها حتى الآن، ولا زالت عشرات الاسئلة بغير جواب ولكن السؤال الذي يثور الآن هو هل كانت تلك المواجهة العسكرية بين العرب وإسرائيل مخططة مسبقاً وهل كان استدراج الجيوش العربية المجاورة لتلك الحرب أمراً جرى الترتيب له سلفاً؟ انني ممن يعتقدون أن مخططات الحركة الصهيونية كانت دائماً أوسع بكثير مما نعتقد، بل إن الوهم يستبد بي احياناً لكي أتصور أن كل ما قامت به إسرائيل في النصف الاخير من القرن الماضي كان يجري بترتيب محدد ورؤية مسبقة، وليس من شك في أن الدول العربية لم تتمكن من إدارة الصراع وفقاً لسياسة طويلة أو رؤية شاملة، لذلك فإننا نتساءل الآن ما هي الاخطاء العربية في القرن العشرين التي أدت الى اذكاء حدة الصراع ومكنت لإسرائيل من أن تحقق ما تم لها، وأوجز تصورنا في النقاط التالية: 1- ان العرب تعاملوا مع الصراع بغير خطة موحدة مكاناً أو مترابطة زماناً فأصبحت توجهات السياسات العربية المختلفة فردية الحركة عشوائية الاتجاه، ولقد أدركت إسرائيل جيداً طبيعة الواقع العربي وتفهمت طبيعة الشخصية المؤثرة في القرار سواء كان الحاكم، فرداً، أو أسرة، أو حزباً، أو نظاماً سياسياً متكاملاً، ولعل الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى في 1948 هي خير شاهد على ما نقول. 2 - لم تحقق إسرائيل أهدافها بالكامل ولكنها ما زالت تمضي في اطار توقعاتها الاساسية من خلال قدرة عالية على التكيف مع المواقف وتغيير السياسات وإبدال القوى الداعمة، فلقد كانت بريطانيا هي الحاضنة لطفولة إسرائيل، وكانت فرنسا هي الراعية لشبابها، بينما تكفلت الولاياتالمتحدة الأميركية بضمان باقي عمرها. 3- ان تدويل الصراع العربي - الإسرائيلي قد فتح ابواباً وأغلق ابواباً أخرى، ولعل الابواب المفتوحة قد تمثلت في قنوات اتصال بين إسرائيل والقوى المؤثرة في العلاقات الدولية المعاصرة، بل إن الامر يذهب الى ما هو أبعد من ذلك لأن الحركة الصهيونية قد قامت باتصالات مبكرة مع محمد علي الكبير ونابليون، وكذلك لعب اليهود دوراً نشطاً في أروقة السلطنة العثمانية طلباً لوطن قومي الى أن كانت بريطانيا هي المستجيب الأول حيث دشنت بوعد "بلفور" قيام الدولة العبرية منتهكة بذلك حدود الانتداب وشروطه. 4- إننا نحن العرب لا نتعلم كثيراً من أخطائنا فسلاح الجو الإسرائيلي هو رأس الحربة في مواجهاتهم العسكرية الشاملة، بينما المدرعات الإسرائيلية هي عصب معاركهم على الأرض في مواجهة العرب وفي ظل التداخل الديموغرافي خصوصاً في المناطق المحتلة، ورغم أن العرب يدركون ذلك إلا أنهم يقعون في المحظور دائماً ويكررون ذات الخطأ - سياسياً وعسكرياً - فلقد تعرض الطيران المصري مثلاً لنفس الضربة الجوية مرتين عام 56 و67، فالعرب لا تنطبق عليهم أبداً المأثورة الشريفة "لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين". 5- إن الحديث عن الفرص الضائعة هو حديث ذو شجون وإن كنت اقرر صراحة انني أتشكك في نوايا إسرائيل منذ نشأتها حتى الان فالكثير مما نراه فرصاً ضائعة الآن كانت في وقتها بالونات اختبار مرتبطة بظروف معينة وليست ابداً توجهاً حقيقياً يقدم حلاً واقعياً لإحدى مراحل الصراع، أقول ذلك وفي ذهني شريط طويل من المنعطفات المحورية في تاريخ المنطقة وهو ما أطلق عليه السياسي الإسرائيلي المخضرم أبا ايبان تعبير "الفرص الضائعة"، إذ أنه في يقيني أن هذه الفرص لم تكن عروضاً كاملة واضحة كما ان ضياعها لم يكن من جانب العرب وحدهم ولكنه ارتبط دائما بالظروف الغامضة والعروض المشبوهة من جانب الدولة العبرية. إن ذلك الصراع الطويل والمواجهة الحادة بين العرب والوجود الإسرائيلي في هذه المنطقة من العالم هو سلسلة متصلة من الاحداث الكبرى والمآسي الدامية والاتفاقات التي لا يتم تنفيذها والمبادرات التي لا تحقق اهدافها، ونحن بارعون في توصيف ما جرى وتسمية ما حدث، فإن 1948 "نكبة" و1967 "نكسة"، وما بينهما وبعدهما أحداث جسام وتطورات حزينة، والمهم دائماً هو أن نحقق أعلى درجات التوظيف الأمثل لما نملك في مواجهة دولة ارتكز وجودها على تجمعات حضارية مختلفة، وخبرات بشرية متعددة، فلو أن إسرائيل ظهرت في مكان آخر من العالم فإنني لا أشك لحظة في أنه كان سيتعرض لذات المعاناة ونوعية المواجهة. انه حزيران يونيو كلما أقبل تجددت الأحزان، وهو يرتبط في ذهني على المستوى الشخصي بمثل ما يرتبط به على المستوى العام، فلا زلت أتذكر تلك الأيام السوداء منذ خمسة وثلاثين عاماً عندما اختفت اضواء القاهرة، وتعالت أصوات طلقات المدافع، وخرجت الجماهير تهتف لقائدها بالعودة رافضة التنحي، وسوف يظل شهر حزيران مبعث ألم لي شخصياً لأن الأمة العربية الكبري قد تلقت فيه أكبر ضربة في تاريخها الحديث، بينما تلقيت شخصياً في ذلك الشهر ايضاً ضربة قاسية يتلقاها الانسان عندما يودع أمه الحقيقية الى حيث يذهب الناس ولا يعودون، انه حقاً حزيران الذي يجدد الأحزان، ويوقظ الاشجان، والذي لا يذهب ابداً في طي النسيان. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.