أقدم الشقيقان أحمد ومحمد، وهما شابان دون الخامسة والعشرين، كانا يعيشان في إحدى قرى شمال الضفة الغربية، على الانتحار، رغبة منهما في التخلص من وضع نفسي معقد، رافق واقعاً اقتصادياً مأزوماً يعيشانه، وواقعاً سياسياً أكثر تعقيداً. إذ يضاف إلى الاحتلال والفلتان الأمني و"البلطجة"ارتفاع حاد في نسبة الفقر والبطالة، مع فرض الحصار إثر صعود حركة"حماس"إلى هرم الحكم في انتخابات العام الماضي، وما رافقه من عجز الحكومة السابقة عن تسديد رواتب الموظفين. وتتآلف الظروف السابقة، مع ظروف اجتماعية غاية في القسوة لتطاول الفتيات بشكل خاص، فحاولت فتاة في محافظة رام الله والبيرة، الانتحار بطريقة مبتكرة عبر طعن جندي بسكين عله يطلق النار عليها. وتبرر الشابة فعلتها بأنها احتجاج على قرار والدها لمنعها من متابعة دراساتها الجامعية، تأثراً بمحيطه العائلي، الذي أجبرته ظروفه الاقتصادية على العودة إلى بلدته الأصلية، بعد سنوات قضاها في المدينة. في حين حاولت أخرى الانتحار، إثر اعتداء أحد محارمها عليها. وسجلت الشرطة الفلسطينية 16 حالة انتحار، و303 محاولات للانتحار، في الضفة الغربية وحدها، عام 2006، في ارتفاع لافت وملحوظ قياساً بالسنوات السابقة، إذ كان عدد حالات الانتحار عام 2005، 12 حالة انتحار، مقابل 154 محاولة. واللافت أن نسبة الانتحار ومحاولة الانتحار الأعلى كانت في نابلس، بنسبة تقترب من 35 في المئة 4 حالات انتحار و117 محاولة، تلتها كل من محافظتي رام الله والخليل بنسبة 17 في المئة، ما يوحي بأن ثمة علاقة بين تردي الوضع الاقتصادي، واتجاه المزيد من الفلسطينيين، وخصوصاً الشباب منهم، نحو وضع حد لحياتهم. ويشير العقيد عدنان الضميري، مدير شرطة محافظة جنين، ومدير العلاقات العامة والإعلام للمحافظات الشمالية في الشرطة الفلسطينية، إلى العلاقة الواضحة بين تردي الأوضاع الاقتصادية وبين زيادة نسبة الانتحار،"فمدينة نابلس كانت صاحبة الحظ الأوفر من التدمير الاقتصادي، وارتفاع نسبتي الفقر والبطالة، لذا نرى أن أعلى نسبة سجلت فيها". وأكد الضميري أن الكثير من الحالات لا يتم الإبلاغ عنها، في وقت يمكن للبعض تورية انتحار أحد أفراد الاسرة، وخصوصاً الفتيات، تحت بند"السقوط من علو"وسجل 173 حالة، أو بند"التسمم"وسجل 350 حالة. فبعض الفتيات والشبان ينتحرون عبر القفز من أسطح منازلهم، أو أماكن أخرى يرتادونها. ويعمد بعضهم الى تسميم نفسه بجرعات زائدة من الأدوية، أو عبر تناول سموم صريحة. وليس كل منتحر مقدم على فعلته بإرادته، فبعض هذه الحالات يجبر على الانتحار لا سيما الفتيات، فتزود بمثل هذه الجرعات، أو تلقى من فوق الأماكن المرتفعة. ويتم إيهام الشرطة بأن ما حدث سقوط غير متعمد، أو تسمم. وتؤكد اعتدال الجريري، الاختصاصية النفسية في"جمعية المرأة العاملة للتنمية"في رام الله، أن ثمة علاقة قوية بين الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية في الأراضي الفلسطينية، وبين زيادة نسبة الانتحار، الذي يأتي نتيجة شعور المقدم عليه ب"اللاجدوى"، مشددة على أن الفتيات، وكونهن يعانين من ظروف اجتماعية قاسية، علاوة على الظروف السابقة، وكون خياراتهن في المقاومة أو الهرب، كالهجرة على سبيل المثال، تكون أقل، فإنهن يتجهن إلى الانتحار بصورة أكبر من الشبان. وتتحدث الجريري عن أن الانتحار، بحسب نظريات علم النفس، هو في نهاية المطاف اختيار العدم على الوجود، وهو حالة ناتجة من توتر واضطرابات نفسية معقدة. في حين يتحدث الخبير النفسي، أحمد الغزاوي عن أن الاكتئاب هو أكبر دافع للمنتحر الذي تكون لديه نظرة سوداوية طاغية على تفكيره وحياته، مشيراً إلى أن الدراسات العلمية العالمية تتحدث عن أن أكثر من 69 في المئة من أعداد المنتحرين كانت لديهم ضغوط اقتصادية قاسية من فقر وبطالة، وأكثرهم من الشباب، وهذا ينطبق على فلسطين. ويفسر الباحثون ذلك بأن القلق والكآبة وعدم الاستقرار تزداد بين العاطلين من العمل، ويمتد التأثير النفسي على الزوجات، وهذه الحالات النفسية تنعكس سلباً على العلاقة بالزوجة والأبناء، وتزايد المشاكل العائلية. ويعود السبب الرئيس في هذه المشاكل بين العاطلين عن العمل إلى افتقارهم الى المال، لسد الحاجة. وبناءً على ذلك فإن تعطيل الطاقة الجسدية بسبب الفراغ، لاسيما بين الشباب الممتلئ طاقة وحيوية ولا يجد المجال لتصريف تلك الطاقة، يؤدي الى أن ترتد عليه تلك الطاقة لتهدمه نفسياً مسببة له مشكلات كثيرة قد تنتهي بقرار التخلص من الحياة على رغم الرفض الديني. ويشير الغزاوي إلى أن ما تشهده المناطق الفلسطينية من محاولات انتحار شبابها وشاباتها، يعرف لدى علماء الاجتماع بالانتحار"الفوضوي"الذي عادة ما يحصل إبان الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويكون وليد الانفعال والغضب أو الإحباط الذي يعيشه العاطل عن العمل. وفي دراسة لافتة حول"الانتحار في فلسطين"، نشرت في بريطانيا عام 2005، تناولت نادية تيسير الدباغ بالتحليل، 31 حالة مسجلة في مستشفيات الشرطة الفلسطينية ودوائرها، متحدثة عن الآثار المتعددة للحرب على قصص الشبان والفتيات المنتحرين. واشارت الدراسة بشكل بارز إلى الضغوط الاجتماعية على المرأة الفلسطينية من جهة وهي تعيش في مجتمع يطلب منها الالتزام بقانون العفة والحفاظ على طهارتها، وعلى الرجل من جهة أخرى المطالب دائماً بإثبات رجولته، وتوفير الأمان الاقتصادي لعائلته. وتؤكد الصباغ أن"الحياة بلا عمل تترك أثراً مدمراً في الرجال"، وبعض القصص التي تقدمها الدراسة تظهر صورة عن الواقع الذي يشير إلى زيادة معدلات البطالة. لكن ما يطبع قصص الشبان والشابات الذين حاولوا الانتحار، هو اثر الاحتلال والحرب والعنف السياسي عليهم.