"أعرف أن الوقت غير مناسب، وأن الظروف التي نعيشها جراء الاحتلال صعبة للغاية، وأن مشكلتي تبدو سخيفة وتافهة مقارنة بما نعيشه من ظروف، لكن لم أعد قادرة على التحمل. زوجي يقضي جل يومه نائماً وعندما يستيقظ يبدأ بموجة من الصراخ غير المبررة، سرعان ما تصل إلى حد الضرب وتحطيم كل ما يقع تحت يديه. كان يعمل حارساً ليلياً، وهو عاطل عن العمل منذ بداية الانتفاضة، وبسبب ذلك بات عمله الرئيس توجيه الشتائم والبطش بي إلى حد أن تحول هذا إلى سلوك شبه يومي، علماً أنه كان يضرب فيه المثل من شدة هدوئه ولباقته ولطفه في التعامل معي ومع أولاده". أم محمد 33 عاماً، امرأة فلسطينية مثلها مثل معظم النساء اللواتي أصبحن ضحية غير مباشرة للعنف الإسرائيلي الموجه ضد الفلسطينيين، إذ أدى الحصار والإغلاق ومنع التجول وما رافق ذلك من تحول الكثير من الأيدي العاملة إلى "جيش البطالة"، ولدت الكثير من الضغوط النفسية عند الرجل. وهي ضغوط تحولت في كثير من الأحيان إلى سلوك عنيف، فالحرمان من الأكل وفقدان العمل والحياة غير المستقرة والحد من حرية الحركة، الناتجة عن الإجراءات الإسرائيلية تسببت ولا تزال في خلق حالات جديدة من الإحباط، تنحو باتجاه سلوك عنيف يتم ممارسته وإسقاطه على الآخرين، الذين هم بالضرورة أكثر ضعفاً من ممارس العنف نفسه، فالرجل يمارس العنف ضد زوجته، وهي بدورها تمارسه ضد أبنائها، وهكذا. "العنف داخل الأسرة الفلسطينية، ولا سيما الموجه ضد النساء، في ازدياد منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول سبتمبر 2000، كما هي حال الخلافات الزوجية". هذا ما يؤكده العديد من الاختصاصيين الاجتماعيين والنفسيين الفلسطينيين. تقول الاختصاصية النفسية اعتدال الجريري: "حال الإحباط العام التي تسيطر على المجتمع الفلسطيني نتيجة الأوضاع الأمنية والسياسية المتردية، وما يرافقها من ظروف اقتصادية في غاية الصعوبة، وتفشي البطالة بنسبة كبيرة، خاصة بعد فقدان عدد كبير من العمال الفلسطينيين مصادر رزقهم، من أسباب الازدياد الملحوظ في الخلافات الزوجية، والعنف الموجه ضد النساء داخل الأسرة الفلسطينية". وتشير إلى أن المرأة الفلسطينية"تتحمل في جميع الأحوال والظروف مسؤولية هذه الأوضاع، وتقع عليها بالدرجة الأولى نتائجها". وتفسر: "الرجل بفقدانه العمل يشعر بأنه فقد سلطته ومكانته المتميزة داخل أسرته، ما قد يولد شعوراً داخلياً بالعجز، ولتعويض ذلك يلجأ إلى العنف، وكأنه يريد التأكيد على استمرارية هذه السلطة، التي بات يدرك تماماً أنها في طريقها إلى الزوال". ويقول فضل أبو هين، أستاذ الصحة النفسية في كلية التربية في غزة: "فقدان العمل في حد ذاته يعني وجود شحنة نفسية مختزنة لابد من تفريغها، لذا فهي تظهر على شكل سلوك عنيف يمارس بحق أفراد الأسرة"، موضحاً أن فقدان الرجل لعمله "يفقده الاستقرار النفسي والاجتماعي، فيما تلبية طلبات وحاجات الأسرة مدخل مهم إلى الصحة النفسية والسلوكية عند المجتمعات العربية بما فيها المجتمع الفلسطيني، لا سيما أن ضيق الحال يرافقه الكثير من السلوكيات العنيفة التي قد تقوض دعائم الأسرة إذا ما استمرت". والى ذلك، ترى الاختصاصية النفسية هالة السراج أن "أسباباً أخرى تدفع باتجاه العنف الأسري منها الجهل والأمية عند الرجل والنساء، ما يدفعهم كثيراً إلى التصرف من دون تفكير أو عقلانية، إضافة إلى التفسير الخاطئ للدين، واعتبار المرأة إنساناً ضعيفاً وناقصاً، علاوة على الإدمان على الكحول والعيش في أسر ممتدة". وتقول الجريري: "تتعرض المرأة الفلسطينية منذ اندلاع الانتفاضة وما واكبها من ظروف اقتصادية وأمنية صعبة للغاية إلى جرعات مكثفة من العنف اليومي، الذي يتخذ أشكالاً متعددة، منها العنف الجسدي كالضرب والتحرشات أو الاعتداءات الجنسية، والعنف المجتمعي الذي يتمثل في حرمان المرأة من أن يكون لها دور فاعل في المجتمع أو حرمانها من التعليم وإجبارها على الزواج المبكر، أو حرمانها من العمل أو الراتب الذي تتقاضاه جراء عملها، علاوة على العنف اللفظي بما يتضمنه من شتائم وعبارات نابية". ر.م. فلسطينية رزقت على مدى سنوات زواجها بخمسة أطفال، أكبرهم في العاشرة من عمره، وأصغرهم في الثانية، وتعيش في إحدى قرى رام الله، وليس نادراً أن يضربها زوجها بقسوة ويوجه الشتائم النابية لها ولأسرتها، لأتفه الأسباب. لم يكن زوجها بهذه الفظاظة والقسوة، قبل أن ينضم إلى طوابير العاطلين عن العمل في فلسطين، والذين باتوا يشكلون قرابة ثلثي الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتؤكد ر.م. ذلك، وتضيف": كان لطيفاً إلى حد ما إلا أنه ومنذ تعطل عن عمله بفعل الإغلاق الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية وهو يذيقني وأولاده الأمرّين، وكأننا من تسبب في الحالة التي وصل وإيانا إليها .. بات الأمر لا يطاق، فتوجهت إلى منزل أهلي، وعندما علم بذلك تزوج عليّ!". أما شقيقا س. أ. الثلاثينية العزباء، العاطلان عن العمل، فباتا، على الرغم من أنها شقيقتهما الكبرى، يستعرضان مهاراتهما القتالية في ركلات ولكمات يتلقاها جسدها النحيل. تقول: "لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بات أحدهما يحاول التحرش بي، وعندما أخبرت والدتي بذلك، أوصتني بالصبر وضرورة تقدير الظروف النفسية الصعبة التي يعيشانها!" ترى السراج أن للعنف داخل الأسرة أعراضاً نفسية عدة تظهر في الغالب على المرأة، منها الاكتئاب، العزلة الاجتماعية، عدم الثقة بالنفس والآخرين، التوتر المستمر الذي يؤدي إلى الصراع والشعور بخذلان الأطراف، إضافة إلى أعراض جسدية منها تسارع دقات القلب، القشعريرة، الاختناق، مشكلات في النوم من كوابيس وأرق وما شابه، وفقدان للشهية وأحياناً زيادتها. وتشير إلى أن "في كثير من الأحيان تؤدي بعض هذه الأمراض إلى محاولة الانتحار، والتي بدورها تؤدي إلى أعراض جانبية مضاعفة، في حال فشلها، وإلى كارثة إنسانية في حال نجاحها". وتقول الجريري: "العنف ضد المرأة يؤدي إلى كثير من التعقيدات الاجتماعية والنفسية، لا سيما أن المرأة المعنفة تشعر بأنها منبوذة وغير مقبولة في محيط الأسرة والمجتمع، بالإضافة إلى الترسبات النفسية التي تؤدي في أحيان عدة إلى الانعزال والشعور الدائم بالمرض"، مشيرة إلى الانعكاسات النفسية والعملية التي تمارسها المرأة المعنفة على أسرتها، وخاصة على أطفالها، "فكثير من النساء المعنفات يتقمصن سلوك المعتدي ويمارسن السلوك العنيف ذاته ضد الآخرين، وعلى رأسهم الأطفال، كما قد يؤدي العنف الموجة ضد المرأة إلى تحويلها إلى إنسان سلبي في علاقتها مع نفسها ومع الآخرين". وفي منع التجول المفروض على المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية منذ حزيران يونيو الماضي، تفاقمت الأزمة الاقتصادية ما فاقم من حالات العنف آنفة الذكر، إلا أن الجديد هو الازدياد الواضح في الخلافات الزوجية، ولعل الفلسطيني الذي يعيش في بنايات سكنية يشعر بذلك. يقول أبو حسين، أحد سكان رام الله: "منذ زيادة الحصار الخانق على المدن الفلسطينية، بدأت أشعر بازدياد الخلافات بين الأزواج في البناية التي أسكنها، ففي الساعة الواحدة هناك شجار أو اثنان". وتقول الجريري:"تخيل أن في كل بناية وفي كل ساعة شجاراً أسرياً أو اثنين، وغالباً ما تكون الأسباب الخلافات تافهة ولا مبرر لها، وتكون الخلافات كنوع من تفريغ الضغط الذي أوجدته سياسات الاحتلال تجاه الفلسطينيين، إنه وضع خطير لا يجب التغاضي عنه، لا سيما أنه قد يؤدي إلى شرخ حقيقي وكبير في الحياة الاجتماعية الفلسطينية بشكل عام". وترى الجريري أن "منع التجول وما يفرضه من مكوث الأزواج لفترة طويلة داخل المنزل، وعدم وجود أي متنفس لهم، لا سيما في أشهر الصيف التي اعتادوا فيها على الخروج والتنزه، يزيد من فرص الخلافات والشجارات المتكررة بينهم، ما قد يتسبب في الرغبة في الانفصال أو الانتحار... وهذا ما عبرت عنه الكثير من السيدات اللواتي هاتفن جمعية المرأة العاملة، في الفترة الأخيرة، بهدف مساعدتهن على تجاوز هذه الأزمة". وترى الجريري أن "النظرة الاجتماعية السلبية للمطلقة، والظروف الاقتصادية الصعبة للأسر الفلسطينية، بما في ذلك ذوي المرأة الراغبة في الطلاق، تمنعها من هذه الخطوة، لا سيما أنها في مثل هذه الحالة ستكون المعيلة الوحيدة لأبنائها، وهذا الأمر أوقع الكثيرات تحت ما يعرف ب"الاستغلال الاقتصادي"، فدخلن في علاقات غير شرعية، أو أجبرن على التسول". وتضيف: "على رغم تزايد الخلافات الزوجية والعنف داخل الأسرة استطاع الكثير من الأزواج أن يطوروا في منع التجول مهارات إيجابية، ففي بعض البنايات السكنية في رام الله تم استثمار شقة فارغة وتحويلها مدرسة للأطفال، يدرس فيها سكان البناية من آباء وأمهات كل حسب تخصصه، وقد شعر الأطفال بسعادة بالغة لتلك الخطوة، وأخذوا الأمر على محمل الجد إذ يستيقظون صباحاً ويتوجهون إلى "مدرستهم الجديدة" دونما تأخير أو ملل. كما تم تنظيم بطولات في كرة الطاولة وألعاب مفيدة ومسلية أخرى، علاوة على تنظيم دورات في الإسعاف الأولى والكمبيوتر والتطريز لرجال ونساء وأطفال العمارة، وكل هذا بجهود فردية". وتوضح أن هذه التجربة آخذة في الانتشار في العديد من البنايات السكنية في رام الله. وترى الجريري أنه "لا بد من التركيز على تفعيل المهارات ولغة الحوار والنقاش الإيجابي داخل الأسرة للخروج من إطار هذه الظاهرة الخطيرة الآخذة في التنامي في المجتمع الفلسطيني منذ أيلول سبتمبر 2000، وإلا كانت "الكارثة". وبطبيعة الحال فإن العنف الموجه ضد المرأة في الأسرة الفلسطينية لا يقتصر على الزوج بل يتعداه إلى الأب والأخ وأحياناً الابن".