الحضارة الفرعونية حرمت الانتحار ولكن كليوباترا وانطونيو كانا أول ثنائي منتحر في تاريخ مصر. اليونان والرومان هم الذين أتوا بالانتحار إلى مصر. اليهودية تعتبره خطيئة والمسيحية تراه من المحرمات والإسلام أكد أنه من الكبائر. في سنة 1970 كان في مصر 88 منتحراً، وفي 1971 هبط العدد الى 43 وفي 1995 قفز إلى 75. اسباب الانتحار: القلق، المشاكل العائلية والفشل في الزواج والبطالة. نساء الاسكندرية اكثر انتحاراً من رجالها.. كيف؟ حتى في الانتحار الرجال يستعملون أدوات خشنة والنساء يلجأن إلى أدوات ناعمة. 360 طفلاً انتحروا من 1991 إلى 1995 والطفل ينتحر بما يمكن أن يصل الى يديه. كوبري جسر قصر النيل وبرج القاهرة اشهر مكانين للانتحار. الانتحار كثير في الوجه القبلي وقليل في الصعيد. الربيع والصيف هما فصلا الانتحار. .. ألاحظ منذ سنوات تزايد معدلات الانتحار في المجتمع المصري. وعندما علمت أن فلاحاً مصرياً انتحر أدركت أن هذا الحدث يعد من العلامات الفارقة في المجتمع المصري. لها ما قبلها، ولاپبد أن هناك ما بعدها. لأن الانسان المصري العادي يعتبر الانتحار كفراً، ويرى أن المنتحر لا يعامل معاملة المؤمن. وما دام الأمر وصل إلى حافة الإيمان والكفر، فقد اصبح من المحرمات. مجلة "أحوال مصرية"، أفردت في عددها الأخير "ربيع سنة 2000" مساحة لدراسة مهمة ومستفيضة عن الانتحار في المجتمع المصري قامت بها الصحافية المصرية هالة صلاح. والسؤال الذي تنطلق منه الدراسة هو: هل اصبح الانتحار ظاهرة في المجتمع المصري الآن؟! وأهمية السؤال تنبع مما هو معروف عن الشخصية المصرية التي تتحمل الشدائد، "وتصبر صبر أيوب على المكاره". بل إن قرابة ثلث الأمثال الشعبية المصرية تحث المصري على الصبر والتحمل والجلد، كما أن تاريخ مصر الاجتماعي يحمل لنا اسماء الكثر من الشهداء لكنه لا يحمل اسماء الكثر من المنتحرين. كما أن الانتحار لا يعد من المفاخر الاجتماعية والنفسية في المجتمع المصري. عن الانتحار في العالم تقول الباحثة أنّ في إيطاليا واسبانيا 8 حالات يومياً، وفي بريطانيا 11 حالاً يومياً، وفي المانيا والمجر 42 حالاً يومياً لكل منهما وفي اميركا 38 حالاً يومياً، و000،400 محاولة انتحار سنوياً عن مصر والمصريين والانتحار تقول الباحثة إنّ الحضارة الفرعونية كانت تحرم الانتحار منذ سنة 3200 قبل الميلاد على رغم تقديس الفراعنة للحياة الآخرة. ولكن بعد مجيء الاسكندر سنة 332 ق.م وغزو الحضارة اليونانية للحياة المصرية، بدأوا يعرضون على المحكوم عليهم بالإعدام الانتحار بدلاً من تنفيذ الحكم. لكن ارسطو قال في مواجهة هذا الموقف: "من يقتل نفسه هرباً من الحياة يقترف جريمة". وقال سقراط: "على الإنسان أن ينتظر، أن يتريث، فلا يقتل نفسه، فيترك ذلك لهادم اللذات". تاريخ الحضارة الرومانية في مصر أتى معه بالانتحار. ففي سنة 30 ق.م .سجل التاريخ أشهر قصة انتحار بطلتها الملكة كليوباترا التي قتلت نفسها بلدغة حية. وزوجها انطونيو الذي قتل نفسه بطعنة خنجر. وكان الرومان الذين حكموا مصر حتى عام 395 ميلادية، يعتبرون أن الانتحار وسيلة سليمة يلجأ إليها الانسان لإنقاذ شرفه. ثم جاءت الأديان الثلاثة لتحرم الانتحار، الديانة اليهودية اعتبرته خطيئة، والديانة المسيحية اعتبرته من المحرمات، والقرآن الكريم اعتبره من الكبائر. وكانت الكنيسة القبطية الارثوذكسية التي تضم الغالبية من المسيحيين، لا تقيم الصلاة على جثة المنتحر لأن الصلاة لا تجدي مع من ينتحر. وإن كانت أحكام الشريعة الاسلامية تقول إن المنتحر يُغسل ويُكفن ويُصلى عليه ويُدفن في مقابر المسلمين ويورث ماله، لأن الانتحار ليس كفراً كما يعتقد العامة لأن الله يغفر الذنوب جميعاً، ما عدا الشرك بالله سبحانه وتعالى. والرسول صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة لمنتحر ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون لغير المسلم. وعندما وصلت الباحثة الى أرقام المنتحرين في مصر، بدت هناك مشكلة عدم دقة في هذه الأرقام، وعجزها من أن تعكس الحقيقة الواقعية. ذلك أن أهل المنتحر لا يبلغون عادة عن انتحاره، خوفاً من المساءلة القانونية، وخشية من تشريح جثة المنتحر، والعامة ينظرون الى تشريح الجثة نظرة رافضة ويحاولون التهرب منه، وخصوصاً أن المصريين يؤمنون بالبعث والحياة الآخرة، والخلود، وبقاء جسم المتوفى على ما هو عليه يضمن تحقيق هذه الغاية التي كانت تشكل حجر الزاوية في الحضارة المصرية القديمة. كما أن نظرة المجتمع المصري الى المنتحر تلعب دوراً أساسياً في محاولة إخفاء حدث الانتحار أو على الأقل محاولة إعطائه اسماً آخر. هذا الموقف الاجتماعي أدى إلى حال من التضارب بل التناقض بين أرقام الأمن العام والطب الشرعي حول عدد المنتحرين في مصر، وكذلك عدد الذين يحاولون الانتحار ويفشلون في ذلك. ومع الإيمان بمشكلة الأرقام - أرقام وأعداد المنتحرين والذين يحاولون الانتحار في مصر - فلا بد من الاحتكام الى الارقام التي جاءت بها الباحثة في دراستها المهمة والتي تعد الأولى من نوعها في مصر. في سنة 1970 كان هناك 88 منتحراً وفي سنة 1971 كانوا 43 وفي السنة التالية هبطوا إلى 40 منتحراً فقط، هذا في حين أن مستشفيات القاهرة تستقبل من 63 الى 144 محاولة انتحار كل شهر. في سنة 1995 وقعت في مصر 75 حال انتحار يعود معظمها الى الانفعالات النفسية بسبب الاكتئاب والقلق حيث ثبت أن 28 منتحراً منها 20 ذكوراً و8 إناث، كان السبب الجوهري في انتحارهم هو الاكتئاب النفسي. في حين أن 15 منتحراً منهم 5 ذكور و10 إناث، يعود سبب انتحارهم الى المنازعات العائلية، و4 إلى الفشل في الزواج. في سنة 1991 أجريت دراسة على المنتحرين في مدينة الاسكندرية، وكانوا 38 حال انتحار. أما ترتيب الاعمار - أعمار المنتحرين طبعاً - فكان كالتالي، من سنّ 25 الى 35 سنة يأتون في المقدمة يليهم من سن 15 إلى 25 سنة، ثم من 35 الى 45 سنة، وأخيراً من 65 إلى 70 سنة. أما أسباب حالات الانتحار تلك فهي: المشاجرات العائلية. وهي تأتي في المقدمة وخصوصاً بين الإناث. أما الأدوات المستخدمة في الانتحار فهي: المهدئات والمنومات أو المبيدات الحشرية. والبطالة تلعب دوراً مهماً في الإقدام على الانتحار ويجب ألا ننسى أن في مصر 3 ملايين عاطل. ويبدو أن دنيا الانتحار والمنتحرين فيها الكثير من فنون الإثارة، التي تصل إلى ما هو أبعد من الدهشة نفسها. فقد حمل عقد التسعينات معه ظاهرة جديدة تماماً ألا وهي انتحار الأطفال، مع أن مرحلة الطفولة من المفروض أنها تخلو من الهموم والأحزان. وهي الفترة التي لا يعاني الطفل فيها من مشاكل جوهرية. لأن الأب والأم يرعيان الطفل خلال هذه المرحلة. في الفترة من 1991 - الى 1995 انتحر 360 طفلاً، وطريقة انتحار الاطفال تعتمد على السموم والعقاقير، ثم الحرق أو القفز من الأماكن المرتفعة أو رمي النفس في الانهار والغرق في مياهها. واسباب انتحار الاطفال كثيرة ومتنوعة: تفشي المخدرات، تفكك الأسرة، الاعتداء الوحشي من الآباء على الابناء، التبول اللاإرادي وذل المعايرة من الاشقاء، المنازعات العائلية، وتقليد ما يراه الاطفال في التلفزيون والسينما. الرجل والمرأة من المؤكد أن هناك اختلافاً جذرياً وجوهرياً بين انتحار الرجل وانتحار المرأة. في سنة 1980 كانت هناك 65 حال انتحار 40 منها ذكوراً و25 إناثاً. في سنة 1986 كانت في مصر 64 حال انتحار بيانها كالتالي: 23 زوجاً و15 زوجة و17 رجلاً عازباً و9 آنسات. وفي سنة 1991 انتحر 38 شخصاً، في مدينة الاسكندرية كانت نسبة الإناث الى الرجال هي 9 إلى 1 وهو رقم مثير للتأمل والانتباه. ويخالف تماماً الصورة الذهنية للمرأة لدى المجتمع وفي نفسها بل وعند الرجل وفي خياله أيضاً. ولو قلت - بعيداً عن هذه الدراسة - ان الاسكندرية هي المدينة التي وقعت فيها جرائم ريا وسكينة في بدايات القرن العشرين، فإنهما كانتا مجرمتين تقتلان النساء الأخريات بهدف الحصول على الذهب الذي معهن. وهو لا يؤدي الى ارتفاع ظاهرة انتحار النساء بهذه الصورة. تقول هالة صلاح صاحبة الدراسة إن المرأة عندما تقدم على الانتحار يكون هدفها هو التهديد وطلب المساعدة وتقديم العون لها. أما الرجل فيكون حاسماً في قرار الانتحار. في سنة 1995 كانت في مصر 75 حال انتحار منها 45 ذكراً، و30 أنثى. والرجال يعتمدون وسائل عنيفة من أجل الانتحار مثل: اطلاق النار والشنق والغرق والقاء النفس من أماكن مرتفعة، أما النساء فيعتمدن وسائل أقل عنفاً ومنها: استخدام الحبوب المنومة والأدوية المسكنة وقطع شريان اليد. أما الأطفال فهم ينتحرون مستخدمين كل ما هو سهل ومتاح وفي متناول أياديهم. جغرافيا الانتحار في مصر، أي الأماكن التي ينتحر فيها المصريون كان لها مكان في هذه الدراسة العذبة على رغم تناولها موضوعاً كئيباً لا يثير في النفس سوى حال من الحزن والفزع. تتكلم الباحثة عن كوبري قصر النيل. وتقول إنه منذ إنشائه شهد مئات من حالات الانتحار، أشهرها حال الانتحار الجماعي لجواري ولاة مصر من الاتراك هروباً من التحرش الجنسي بهن. لكنها لا تذكر كوبري قصر النيل في السينما المصرية، باعتباره المكان المفضل للانتحار، واشهر هذه الحالات في فيلم "بداية ونهاية" الذي اخرجه المرحوم صلاح ابو سيف عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة. في هذا الفيلم يصطحب حسنين، ضابط الشرطة قام بدوره عمر الشريف شقيقته نفيسة التي ضبطت في بيت الدعارة وكانت تعمل خياطة جسدتها الفنانة سناء جميل، يصطحبها الى كوبري قصر النيل حتى تلقي بنفسها في النيل ولا يلبث هو أن يلقي بنفسه بعدها مباشرة. من الأماكن التي اشتهرت بانتحار المصريين برج القاهرة، باعتباره أعلى مكان في القاهرة حتى وقت قريب. وقد شهد هذا البرج الكثير من حالات الانتحار. وكان أشهرها حال ترزي خياط من مدينة الزقازيق وقد دفع 25 قرشاً ثمن تذكرة الصعود الى البرج. ووجد في جيبه 3 قروش ونصف بعد الانتحار هي كل ما كان معه من الأموال. تسأل صاحبة الدراسة: هل هناك وقت للانتحار؟! الاحصاءات تقول إن فصلي الصيف والربيع هما الذروة. الصيف أمره مفهوم. ذلك أن ارتفاع درجة الحرارة يمكن أن يؤدي الى حال تدفع الإنسان - ضمن عوامل أخرى جوهرية - الى الانتحار. ولكن ما يحيّر هو ورود فصل الربيع في الحكاية. فهو فصل تجدد الحياة والاقبال على الدنيا التي تزدهي بألوانها الطبيعية خلاله. لو قالت الدراسة ان فصل الخريف تزيد فيه حالات الانتحار، لكان هذا مقبولاً بل مبرراً ومفهوماً. أما تسمية فصل الربيع فهو محيّر حقاً، وخصوصاً أن هذا الفصل يشهد عيداً مصرياً، لا يقام سوى في مصر هو عيد شم النسيم. إن الأمر إذاً في حاجة إلى مراجعة. والكاتبة عندما تحدد أكثر شهور السنة إقبالاً على الانتحار تقول إنها: نيسان وايار وحزيران ابريل ومايو ويونيو. والرد عليها أن نيسان ابريل سنة 2000 مضى بخير من دون حال انتحار واحدة بين المصريين. واعتقد ان من الصعب تحديد وقت للانتحار. وتتحدث عن الفئات التي تقبل على الانتحار أكثر من غيرها. المتعلمون ينتحرون أكثر من الأميين.. ومن المتعلمين هناك الموظفون وعمال الحكومة والطلبة ورجال الشرطة والمجندون بسبب ضعف رواتبهم والعاطلون عن العمل. ولعلني اتحفظ تماما على المجندين لأنني لم اسمع حال انتحار واحدة قام بها مجند. والمجند لا يعد من موظفي الدولة في مصر. إذ يكون في فترة خدمة وطنية. اما الانتحار في مدن الوجه البحري فيرتفع عن القبلي بسبب تعرض سكان الدلتا للضغوط في مدن السواحل. في حين أن الحياة في الصعيد هادئة ومنغلقة. وعلى رغم إعجابي الشديد بهذه الدراسة. كان لا بد من وجود أمرين فيها وغيابهما يؤثران عليها كثيراً. الأمر الأول: رصد حال الحركة الاجتماعية في مصر في السنوات الأخيرة، من حيث زيادة حجم الفرص، والتطلعات وسيادة مجتمع الاستهلاك، مع عدم وجود وفرة من الأموال في أيدي الناس. وأن وجدت فقد قلت قيمتها كثيراً جداً. إن النهم الاستهلاكي، وكذلك التباين الطبقي ووجود الغنى الشديد، والفقر غير المحدود تخلق حالاً من التوتر توصل الانسان الى حال من الخصام مع النفس نسميه بالاكتئاب وخصوصاً مع انتشار البطالة وغياب المشروع القومي العام. هذا البعد الاقتصادي الاجتماعي الغائب في الدراسة لعب دوراً عاماً وهامساً في سيادة الاكتئاب القومي العام في مصر. وهو الذي يخلق المناخ الذي يدفع إلى الاقبال على الانتحار. الأمر الثاني هو إهمال انتحار المثقفين، الذي يعطي دلالات أكثر رجاحة وعمقاً. فقد انتحرت الروائية عنايات الزيات بعد كتابة روايتها الوحيدة "الحب والصمت" وكان ذلك في الخمسينات، ثم انتحر الروائي رجاء عليش في السبعينات، وهو صاحب رواية "لا تولد قبيحاً". وقد انتحر بأن حزم الفيللا التي يعيش فيها في كوبري القبة بصفائح البنزين وأشعلها. وكان يعاني - على رغم غناه الشديد - من دمامة وجهه التي أوصلته الى الانتحار. ثم انتحار الكاتبة الشابة أروى صالح صاحبة كتاب "المبتسرون: دفاتر من جيل الحركة الطلابية". وقد ذهبت الى شقة شقيقتها في الجيزة، وفي غياب شقيقتها ووجود أطفال هذه الشقيقة رمت بنفسها من مكان شديد الارتفاع فماتت على الفور. وبدأت - على عادتنا نحن الشرقيين - حال من الاهتمام الشديد بها بعد هذا الانتحار المأسوي. ومع أن كتابها هذا عندما صدر لم يهتم به أحد في حياتها. فهي كانت لا بد أن تقدم حياتها ودمها فداء حتى يجري الاهتمام بها. وكان عنوان الفصل الأخير من كتابها: "ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين". وهو مطلع اغنية صالح عبدالحي الشهيرة. وقد أصبح عنواناً لفيلم رضوان الكاشف الأول. إن انتحار المثقف كان يستحق من صاحبة هذا العمل هالة صلاح اهتماماً من نوع خاص. فالمثقف ضمير عصره وانتحاره يصبح احتجاجاً ورفضاً لكل ما هو قبيح ودميم في الحياة. * كاتب مصري.